أسأل الله - تعالى - أن يُعِينني على استِكمال دوائر البحث فيه، ومحاور النقاش وعناصره من خلاله، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوَّة إلا به.
تمهيد:
يهمُّ الباحث في أيَّة قضيَّة يتحدَّث عنها أن يُعَرِّف معناها وجذورها اللغويَّة، وأصولها التعريفيَّة، ومن خلال بحثي في التعريف لمعنى كلِّ كلمة من عنوان البحث: (المشكلات الاقتصاديَّة في المجتمعات الإسلامية)، فتكون معانيه على النحو الآتي:
(المشكلة): مأخوذ أصلُها من قولهم: (أشكل).
قال ابن منظور في "لسان العرب": "وهذا شيء أشكل، ومنه قيل للأمر المشتبه: مُشْكِل، وأشكل عليَّ الأمر، إذا اختلط، وأشكلت عليَّ الأخبار وأحْكَلَت بمعنى واحد"[1].
وفي "المعجم الوجيز": "أشكل الأمر: التبس... واستشكل الأمر: التبس... والإشكال: الأمر الذي يُوجِب التباسًا في الفهم، وإشكال التنفيذ"[2].
(الاقتصاديَّة):
جاء في "لسان العرب": "القصد في الشيء: خلاف الإفراط وهو ما بين الإسراف والتقتير، والقصد في المعيشة: ألاَّ يسرف ولا يقتر، يقال: فلان مقتصد في النفقة"[3].
أمَّا مَجمَع اللغة العربيَّة فقد عرَّف كلمة: (اقتصاد) بقولهم: "الاقتصاد: علم يبحث في الظواهر الخاصَّة بالإنتاج والتوزيع والاستهلاك، ويكشف عن القوانين التي تخضع لها"[4].
وجاء تعريفه في "الموسوعة العربيَّة الميسَّرة" بأنَّه: "العلم الذي يبحث في شؤون إنتاج الثروة وإشباع الحاجات الماديَّة للأفراد".
(المجتمعات):
من أقرب ما وجدته في التدليل على مراد هذه الكلمة مع مقصد البحث، ما ذكَرَه ابن منظور حيث قال: "مُجْتَمَع: أصل كلِّ شيء، أراد منشأ النسب وأصل المولد، وقيل: أراد به الفِرَق المختلفة من الناس"[5].
فالبحث في هذه السلسلة يبحث حول هذه المشكلات والإشكالات الملتبسة من القضايا الاقتصاديَّة في المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون، وأقصد الذين يعيشون داخل الدول التي يدين أكثر أهلها بالإسلام، أمَّا الأقليَّات الإسلاميَّة فلم أتطرَّق لهم، فموضوعهم يستحقُّ أن يُفرَد ببحث أكاديمي علمي باحثٍ في تفصيلاته.
وقد عُرِّفت المشكلة الاقتصاديَّة بعدم إمكانيَّة الموارد الاقتصاديَّة المحدودة - المتناقِصة عادة، أو المتزايد بعضها بنسبة حسابيَّة أو أقل من حسابية - من تلبِيَة كافَّة الاحتياجات المتزايدة باضطراد وفق قانون تَزايُد الحاجات (بنِسَب حسابية وهندسية متفاوتة)[6].
ولذلك، فإنَّ "المشكلة الاقتصاديَّة من وجهة نظر الدراسات الاقتصاديَّة المعاصرة نتجت من وجود عنصرين متناقضين:
1- الحاجات أو الرغبات البشرية، وممَّا توصف به هذه الحاجات أنها متعدِّدة؛ أي: كثيرةٌ إذا نظر إليها في لحظةٍ ما، وهي أيضًا متجدِّدة مع الزمن، وكلما حصل الإنسان على رغبةٍ، ظهر له رغبات أخرى.
2- الموارد الاقتصاديَّة، وتسمَّى أيضًا عناصر الإنتاج، وتُطلَق على محل العناصر التي يُستَعان بها في إنتاج السِّلَع والخدمات، وهذه العناصر هي: العمل، والموارد الطبيعية، ورأس المال"[7].
إذًا فالمشكلات الاقتصاديَّة في عصرنا تحتلُّ مكان الصدارة بالنسبة لغيرها من المشكلات؛ لأنَّ الناس شُغِلوا بمعركة الخبز، ولقمة العيش، حتى "أصبح العامل الاقتصادي أبرز العوامل في قِيام الحكومات أو سقوطها، ونجاح السياسات أو إخفاقها، واشتعال الثورات أو خمودها، وكثيرٌ من حروب العصر الدائرة في قارَّات العالم الآن تكون ذات طابع اقتصادي"[8].
المشكلة الأولى:
في البدء كان الفقر!
حين نتطرَّق بالبحث عن المشكلات الاقتصاديَّة، فإنَّنا سنجد أنَّ أوَّل المشكلات انتشارًا في أوساط المجتمعات الإسلاميَّة، والتي طمَّت بواديها على القرى، وبلغ بها السيل الزُّبَى، معضلة الفقر.
لقد قال نيلسون مانديلا الرئيس السابق لجنوب إفريقيا بمناسبة اجتِماع وزراء ماليَّة الدول الصناعية السبع الكبرى: "الفقر الواسع النِّطاق، وانعدام المُساواة بشكلٍ فاحش، مِن أسوأ نكبات هذا الزَّمن، حتى إنَّه ينبغي اعتبارهما منَ المساوئ الاجتماعيَّة جنْبًا إلى جنب مع العُبُودية والفصل العُنْصري"[9].
فالفقر إذًا تحدٍّ كبيرٌ يُواجِه العالم الاقتصادي اليوم، ونُدرِك حينَها خُطُورة انتِشار مثل هذا الوباء الذي استَعاذ منه - عليه الصلاة والسلام - وقرَنَه بالكفر؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم إنِّي أعوذ بك من الكُفر والفقر))[10]، وكما قالت العرب: "إذا ذهَب الفقرُ إلى بلد قال له الكفرُ: خذني معك"، حتَّى قال الصحابي الجليل أنس بن مالك - رضِي الله عنه - : "كاد الفقر أن يكون كفرًا"[11].
قال المُناوي في "فيض القدير": "(كاد الفقر)؛ أي: الفقر مع الاضطرار إلى ما لا بُدَّ منه كما ذكره الغزالي، (أن يكون كفرًا)؛ أي: قارب أن يُوقِع في الكفر؛ لأنَّه يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكُل الحسنات، وعلى التذلُّل لهم بما يدنس به عرضه ويثلم به دينه، وعلى عدم الرِّضا بالقضاء وتسخُّط الرِّزق، وذلك إن لم يكنْ كُفرًا فهو جارٌّ إليه، ولذلك استَعاذ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الفقر.
وقال سفيان الثوري: لأن أجمع عندي أربعين ألف دينار حتى أموت عنها أحب إلي من فقر يوم وذلي في سؤال الناس، قال: ووالله ما أدري ماذا يقع منِّي لو ابتُلِيت ببلية من فقر أو مرض، فلعلِّي أكفر ولا أشعر؛ فلذلك قال: كاد الفقر أن يكون كفرًا؛ لأنه يحمل المرْء على ركوب كلِّ صعب وذلول، وربما يؤدِّيه إلى الاعتِراض على الله والتصرُّف في ملْكه..."[12].
لأجْل ذلك كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَستَعِيذ من الفقر والجوع، ويقول: ((اللهم إنِّي أعوذ بك من الجُوع))[13]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم إنِّي أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة))[14]؛ ولهذا نسب للصحابي الجليل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقيل: إنها لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - القول بأنَّه: "لو كان الفقر رجلاً لقتلتُه"، ومِمَّا نُقِلَ عن الصحابي الجليل أبي ذر - رضي الله عنه - قوله: "عجبت لِمَن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه؟!".
المبحث الأول: تعريف الفقر:
تطرَّقت كتب الاقتصاد إلى تعريف الفقر، إلاَّ أنَّ تعريفه في كثيرٍ من الأحيان غير الشيء المُتَداوَل والمعروف بين الناس، ولكن ضرورة لتعريف الفقر فقد جاء في تعريفه لدى الأمم المتحدة بأنَّه: "قصورٌ في القدرة البشرية، وهذا يعني: عدم قدرة الإنسان على توفير جوانب عديدة من حياته؛ مثل: الحاجات الأساسية للبقاء على الحياة والخدمات الأساسية؛ مثل: التعليم والصحة والعمل"[15].
وعرَّفه بعضُهم بأنه: "عدم القدرة على الحصول على الخدمات الأساسية من المسكن والملبس والغذاء والماء النظيف، ممَّا يوفِّر الحد الأدنى اللازم لتَمكِين الإنسان من العيش الكريم، ويساعده على القيام بحُقُوق الخلافة"[16].
وعرَّفه بعضهم بأنَّه: "عدم القدرة على تحقيق مستوى معيَّن من المعيشة المادية، والذي يمثِّل الحد الأدنى المعقول والمقبول في مجتمعٍ ما من المجتمعات في فترةٍ زمنيَّة محدَّدة"[17].
وفي تعريفٍ لبعض المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي هو: "الحرمان الشديد من الحياة الرضية، والحرمان المادي من دخل وصحة وتعليم، والمعاناة من التعرُّض للمخاطر؛ كالمرض، وقلَّة الدخل، والعنف والجريمة، والكوارث، والانتِزاع من المدرسة، وعدم قدرة الشخص على إسماع صوته، وانعدام حيلته، وانعدام أو نقص الحريَّات المدنيَّة والسياسيَّة".
لأجل ذلك، فإنَّ المنظمات الدولية تعتمد في قياسها للفقر في الدول النامية على نوعين خطيرين في الفقر، وهما:
1- الفقر المُدقِع: هو الحالة التي لا يستطيع فيها الإنسان - عبر التصرُّف بدخله - الوصول إلى إشباع حاجاته الغذائية لتأمين عددٍ معيَّن من السعرات الحرارية التي تمكِّنه من مواصلة حياته عند حدود معيَّنة.
2- الفقر المطلق: هو الحالة التي لا يستطيع فيها الإنسان - عبر التصرُّف بدخله - الوصول إلى إشباع حاجاته الأساسية المتمثِّلة في الغذاء، والمسكن، والملبس، والتعلم، والصِّحَّة، والنقل.
المبحث الثاني: أسباب الفقر:
بعد تأمُّل في جذور إشكاليَّة الواقع المُزرِي الذي تعيش فيه غالب بلادنا الإسلاميَّة تحت مطرقة الفقر، فيُمكِنني أن أقول بأنَّ لذلك أسبابًا عدَّة، ومنها أسباب تقع خارج إطار الفقراء، وأسباب بسبب الفقراء أنفسهم، ويُمكِن إجمال الأسباب بأنَّها: أسباب سياسية، وأسباب اجتماعية، وأسباب اقتصاديَّة.
ولكنَّنا سنُناقِش الأسباب بطريقةٍ أخرى، فنقول: هي أسباب داخلية، وأسباب خارجيَّة.
الأسباب الخارجية:
أمَّا الأسباب الخارجيَّة فيُقصَد بها تلك التي تكون خارج دائرة الفقراء، بل هي مفروضة عليهم، وهي على النحو الآتي - ولن أُطِيل عند كلِّ واحدةٍ منها إلاَّ بما يقتَضِي -:
1- الذنوب والمعاصي:
قد يستغرب متخصِّص في الاقتصاد كيف نُدخِل قضية الذنوب والمعاصي، وندَّعِي أنَّه أحد أهم الأسباب بل أوَّل الأسباب ذكرًا؟ بيد أنَّ الأمر في الحقيقة واضح، فمَن أطاع الشيطان واتَّبَع ما يغضب الله، وابتَعَد عن الصدقات والإحسان إلى الغير وإيتاء الزكاة، وبات شحيحًا بخيلاً جموعًا منوعًا، فإنَّه سيَتَعَرَّض للفقر، وقد يُبتَلَى به، فالله - تعالى - يقول: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ﴾ [البقرة: 268].
جاء في "تفسير القرطبي" عند قوله - تعالى -: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ ما نصُّه: "﴿ يَعِدُكُم ﴾ معناه: يخوِّفكم ﴿ الفَقْرَ ﴾؛ أي: بالفقر؛ لئلا تُنفِقوا، فهذه الآية متَّصِلة بما قبل، وإنَّ الشيطان له مدْخلٌ في التثْبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء وهي المعاصي والإنفاق فيها، وقيل: أي بألاَّ تتصدَّقوا فتعصوا وتتقاطعوا، وقُرِئ: ﴿ الفُقر ﴾ بضم الفاء وهي لغة، قال الجوهري: والفُقر لغة في الفَقر؛ مثل: الضُّعف والضَّعف"[18].
ويقول - تعالى -: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، وسبب الجوع والخوف هو الإعراض عن طاعة الله، وعدم شكره على نِعَمِهِ الوفيرة!
وبما أنَّ من المعلوم أنَّ الشكر قَيدُ النِّعَم، وأنَّ النعمة إذا شُكِرَت قرَّت، وإن كُفِرت فرَّت، فمن اللازم والواجب على عِباد الله أن يشكروا نعمة الله عليهم؛ لئلاَّ يُحرَموا منها، ولا يكون حالهم كحال أصحاب مملكة سبأ، والذي جعَلَهم الله - تعالى - لنا آية وعبرة وعظة لِمَن كان له سَمْعٌ؛ حيث يقول - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سبأ: 15 - 19].
وهنا نلحَظ أنَّ أهل سبأ كانوا في غنى وعيش حسن، وحياة الرفاهية والترف، لكنَّهم أعرضوا عن شكر نعمة ربِّهم، وتنكَّبوا طريق الهداية، فجازاهم الله - تعالى - بذلك خَراب مَحلَّتِهم، وكل ذلك بسبب الذنوب والمعاصي، والذي أخبر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ لها دورًا أكيدًا في حرمان الرزق؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإنَّ العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه))[19].
وعن أبي أمامة قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ روح القدس نفَث في رُوعِي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمِل أجلها، وتستَوعِب رزقها، فاتَّقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنَّ أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله - تعالى - لا يُنال ما عندَه إلا بطاعته))[20].
2 - الظلم:
فهو رأس كلِّ بليَّة، ومصبُّ كلِّ رزيَّة، ويمكننا أن نقول: إنَّ غالب الأسباب تندَرِج تحت إطاره، وتنطَوِي داخل جلبابه الأغبر، فمن الظلم عدمُ العدالة في التوزيع؛ حيث أدَّى إلى نفور الناس واحتقار قوانين الدولة، وإجحاف جمعٍ من الناس غير قليلين، بإعطاء آخَرين نصيبًا أكثر من المال، والآخرون لا يأخذون إلاَّ القليل!
ولعلَّ ما يشهد لذلك ويُمكن الاقتصار عليه لوُضُوح هذه النُّقطة، تلك الدِّراسة البحثيَّة التي أعدَّها أستاذ العلوم التَّربوية والنفسية في كلية التربية الأساسية إحدى الجامعات بالعراق الدكتور عبدالسلام جودت؛ حيث ذكر أنَّ "أبرز الأسباب التي أدَّت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في المجتمع العراقي جاءتْ نتيجة للسياسات الخاطئة التي انتهجَتْها الحكومات السابقة طوال العُقُود الأربعة الأخيرة، وخاصَّة الحروب المتتالية التي خاضَها النظام السابق، والافتِقار إلى إستراتيجية متكاملة لبناء الاقتصاد العراقي من قِبَلِ الحكومات التي أعقبت سقوط النظام، فضلاً عن انتشار مظاهر العُنف والفساد المالي والإداري، والغموض الذي رافق برامج القوات الأمريكيَّة في إعمار العراق"[21].
3 - استئثار الأغنياء بالمال وحرمانه الفقراء:
وذلك بحَجْزهم وتنمُّرهم على الأموال، وحرمان أغلبيَّة المجتمع من الفقراء والمحتاجين، وهذا يوجد كثيرًا في المجتمع الذي يتعامَل بالاقتصاد الاشتراكي؛ بل حتَّى المجتمع الرأسمالي؛ لأنَّ جميع هذه المدارس الاقتصاديَّة تُكَرِّس روح الليبراليَّة والتعامُل بالمعاملات الربويَّة كما يشاؤون، ما أدَّى إلى أن يعيش المجتمع في طبقتين وشريحتين، كلٌّ منهما لا تختلط بالأخرى إلاَّ لِمامًا، وقد حُكِيَ أنَّ الصحابي الجليل علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - قال: "ما جاع فقير إلاَّ بما تمتَّع به غني".
إنَّ كثيرًا من الأغنياء يُفَرِّطون في بذل الصدقات، وإنفاق الزكاة الواجبة في مالهم، ويحملهم الجشَع والطمع على أن يستأثروا بمالهم وحدَهم، مع أنَّهم يعلمون أنَّ هذا المال هو مال الله، وهو الذي تفضَّل عليهم به، فمَن ادَّعى أنَّ هذا المال لم يكن إلاَّ بسبب قوَّته، فعليه أن يخشى من أن يكون هذا المال وبالاً ودمارًا عليه:
وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ -- مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ
ولنا في قصَّة قارون خيرُ دليلٍ ومثالٍ على ذلك؛ قصَّة قارون الذي ادَّعى أنَّ جمع هذا المال كان بسبب ذكائه ومهارته، ولم يعزُ الفضل لله وحدَه، وآيات القرآن الكريم قد شرحت حاله مع ماله، وكيف صار مآله؛ حيث قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 76 - 82].
فقارون قد آتاه الله من الأموال الشيءَ العظيم، وكان عليه أن يشكر نعمة الله عليه، وأن يُطِيع ربَّه - تعالى - ويبتعد عن معصيته، ويُحسِن للآخَرين من المساكين والفقراء والمحتاجين كما أحسن الله إليه، ولكنَّه أبى واستَكبَر وأعرَض، وادَّعى أنَّ هذا المال إنما جاءَه بسبب قوَّته وذكائه، فحرَمه الله - تعالى - منه، وخسَف الله به وبداره الأرض، وكان آيةً للناس أجمعين.
وفي قصَّة أصحاب الجنَّة الثلاثة كذلك خيرُ شاهدٍ على ذلك من كتاب الله - تعالى - حيث يقول الله - جلَّ وعلا -: ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ *فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ* فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [القلم: 17 - 33].
قال المفسِّرون: "كان لرجلٍ مسلمٍ بقرب صنعاء بستانٌ فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار، وكان إذا حان وقت الحصاد دعا الفقراء فأعطاهم نصيبًا وافرًا منه وأكرمهم غاية الإِكرام، فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة فقالوا: عيالنا كثيرٌ والمال قليلٌ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا، فتشاوَرُوا فيما بينهم وعزموا على ألاَّ يعطوا أحدًا من الفقراء شيئًا، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفيةً عنهم، وحلفوا على ذلك، فأرسل الله - تعالى - نارًا على الحديقة ليلاً أحرقت الأشجار وأتلفت الثمار، فلمَّا أصبحوا ذهبوا إلى حديقتهم فلم يروا فيها شجرًا ولا ثمرًا، فظنُّوا أنهم أخطؤوا الطريق، ثم تبيَّن لهم أنها بستانهم وحديقتهم، وعرفوا أن الله - تعالى - عاقبهم فيها بنيَّتهم السيِّئة، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان ﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾؛ أي: حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح، قبل أن يخرج إليهم المساكين ﴿ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ﴾؛ أي: ولم يقولوا: إن شاء الله، حين حلفوا، كأنهم واثقون من الأمر"، فأصاب الله جنَّتهم بعذاب من السماء جعلها خاويةً على عروشها، والسبب في ذلك كذلك عدمُ شكر نعمة الله، واستِئثار الأغنياء بالمال وحرمان الفقراء منه.
4 - العَوْلمة الاقتصاديَّة:
فإنَّ للعولمة دورًا كبيرًا في استقطاب رؤوس الأموال في دول العالم الثالث، وجلبها وجذبها عبر وسائل الإقناع؛ لرصد أموالها في الأسواق العالمية في دول المركز، وقد نوَّه لذلك علماء الاقتصاد العالمي؛ إذ جاء على لسان جورج سروس - أحد أقطاب الاقتصاد الغربي -: إنَّ العولمة أدَّت إلى انتقال رؤوس الأموال من الأطراف"، هنا يقصد الدول النامية "إلى المركز"، يقصد الدول الغربية، وقد تبنَّى جون ستحليتر - خبير الاقتصاد السابق في البنك الدولي - نفس الرؤيا والفكرة[22].
ومع أنَّ كثيرًا من المحلِّلين الماليين والاقتصاديين كانوا ينادون بخطر اندِماج المال العربي والإسلامي بكليَّته في الأسواق العالمية البنكية، ولكن بدون استِماع أو انتباه، وحينما حصلت الكارثة والأزمة المالية العالمية المعاصرة، فإنَّ خسائر الأموال العربية في الخارج جرَّاء تلك الأزمة - طبقًا لتقدير جامعة الدول العربية - 2400 مليار دولار، وخسر العرب أكثر من 40 % من ثروته المغتربة في ديار الغرب، وكما يُقال: على نفسها جنت براقش!
لقد وصَف الدكتور علي عقلة عرسان نتائج العولمة بأسلوب أدبي حين يقول: "وهكذا نجد أنَّ العولمة تفسح المجال واسعًا أمام أصحاب رؤوس الأموال لجمع المزيد من المال، على حساب سياسة قديمة في الاقتصاد كانت تعتمد على الإنتاج الذي يؤدِّي إلى تحقيق ربح، بينما اليوم فالاعتِماد هو على تشغيل المال فقط دون مغارم من أيِّ نوع؛ للوصول إلى احتِكار الربح"، إنها مقولة تلخِّص إلى حدٍّ ما بعودة (شايلوك) المرابي اليهودي التاريخي محملاً على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح لسيطرة القوَّة المتغطرِسة، وعودته المدجَّجة بالعلم والتقنية - تقلب القاعدة القديمة القائلة: إنَّ القوي يأكل الضعيف، إلى قاعدة جديدة عصرية عولمية تقول: السريع يأكل البطيء، وسمك القرش المزوَّد بالطاقة النووية ومعطيات الحواسيب وغزو الفضاء يستَطِيع أن يبتلع الأسماك الأخرى، والصيادين الذين يغامرون إلى أبعد من الشاطئ[23].
5 - قُصُور الإنتاج بعدم استغلال الموارد الطبيعيَّة:
مع أنَّ الأرض ملأى بالخزائن، وبركات السماء تَنهال وتنهَمِر، ومع ذلك تفرط الكثير من الحكومات من الاستِفادة من هذه الثروات والمواد الخام.
لقد قال الله - تعالى - في مُحكم التنزيل: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20].
ومع هذا نجد التفريط الكبير، والتقصير الواضح لحسن استِغلال هذه الموارد الطبيعيَّة، ويدخل في ذلك "قضية الأمن الغذائي للعالم الإسلامي؛ إذ تعتمد الأمَّة في نسبة كبيرة من غذائها على دول أجنبية لا تَدِين بالإسلام، وقد تصل هذه النسبة في بعض الدول إلى 70 %"[24]!
6 - الحروب والدمار والقتل:
وهذا أمرٌ مُلاحَظ في البلاد التي حلَّت بها الحروب؛ كفلسطين، وأفغانستان، والعراق، والصومال، والشيشان، وكشمير، وغيرها من بلاد الإسلام، وسنتطرَّق إليه - بحول الله - حين الحديث عن هذه الإشكاليَّة التي عانَى منها الاقتصادُ في البلاد الإسلاميَّة، وانعكس ذلك على شعوب المنطقة.
7 - التهديدات والضغوط من قبيل دور المركز والتدخُّل كذلك في الدول الإسلامية لزعزعة الاستقرار الاقتصادي والتنموي:
يتحدَّث المفَكِّر د. عبدالله النفيسي في مقالته النفيسة: "أي مستقبل للجزيرة العربية في ظل الاحتكارات" قائلاً: أذكر أنَّ كيسنجر زارنا في الجزيرة العربية سنة 1975م، وكان من ضمن الأجندة التي تحدَّث عنها مع المسؤولين في المملكة العربية السعودية زراعة القمح، وتساءَل منزعجًا: لماذا تزرعون القمح؟ نحن نستطيع أن نورد لكم القمح إلى ميناء جدة بسعر أرخص بكثيرٍ من تكلفة إنتاج الكيلو الواحد في السعودية، فلماذا تزرعون القمح؟
وقيل له حينها: إنَّ هناك توجُّهًا لدى الملك فيصل بن عبدالعزيز وحكومته لتحقيق شيء من الاكتِفاء الذاتي الغذائي في الجزيرة العربية، وإنَّ هناك قابلية للزراعة، وإنَّ المملكة تريد استثمار هذه القابلية، سواءً في أراضيها أو في غيرها من أرجاء الجزيرة العربية"[25].
وبما أنَّ القمح من أهم المطعومات التي تُسَبِّب اكتفاءً ذاتيًّا للدول المصدِّرة له، فإنَّ الغرب وبالأخصِّ أمريكا يجنُّ جنونها حينما ترى اكتِفاء الدول الإسلاميَّة بالقمح والقطن وغيره، ولأجل ذلك فهي تحاول - ولا تفتأ - بأن تتدخَّل في هذه الدول، وتُحاوِل الهيمنة والسيطرة عليها، ولعلَّ ما يُثِير أوجه الاستغراب والتعجُّب أنَّ دولة مصر وهي الدولة التي تمتلك الماء والأرض والأيدي العاملة والمحصود الضخم من القمح، ومع ذلك فإنَّها لا تكتفي من القمح؛ لأنَّ الدول الغربيَّة تُحاوِل التدخُّل في مصر، و"من هنا نفهم رفض كندا للعروض الأمريكيَّة لتوفير القمح لها بسعر يقلُّ عن تكلفة زراعة القمح على الأراضي الكنديَّة، وكان الرفض الكندي عنوانه: (القمح محصول إستراتيجي لا يُمكن التفريط فيه)، وقد صرَّح الرئيس الأمريكي السابق ريجان أثناء فترة رئاسته بقوله: سنحكم العالم عام 2000 بالقمح"[26].