إعداد/ سيد عبد الحليم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد: فإن الأمة السعيدة القوية المنصورة المؤيَّدة لها منهج وصفات تخالف به الأمة الخائرة الضعيفة المتخاذلة الشقية، وهذا ينبثق من تفضيل الله للإنسان وتكريمه له، حيث قال سبحانه: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا[الإسراء: 70]. فكرم الله - عز وجل - بني آدم بالنطق والتمييز، والعقل والمعرفة، والصورة، والتسلط على ما في الأرض والتمتع به، ويسّر لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها وتحصيلهم فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات. لذلك حق عليهم أن يشكروا هذه النعم، فيخلصوا العبودية للمتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده. والمزية الكبرى، والنعمة العظمى التي وهبها الله الإنسان وفضله بها هي العقل والأدب: ما وهب الله لامرئ هبة أفضل من عقله وأدبه هما جمال الفتى فإن فقدا ففقده للحياة أجمل به والمراد بالأدب هنا الأدب النفسي، وهو الخلق الحسن، وبه تتفاوت الأمم ارتقاء وانحطاطًا، وقوة وضعفًا، وسيادة وعبودية. فما من أمة كثر حظها من خلق حسن إلا بلغت أوج الرقى، وغاية السعادية، وإن كانت قليلة العدد، أو كانت أرضها ضيقة، أو قليلة الغناء والخير، غير صالحة للزرع والضرع، قليلة الحواصل، والثمرات، ضعيفة الغلات، فإن جميع ما في الأرض من الخيرات والبركات يُحمل إليها: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان[النمل: 112]. يقول ابن عباس في قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا <<. «اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بتقوى الله ويقول قتادة: «تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها». وهكذا قال الضحاك ومقاتل: «حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه». وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها». قال الفقهاء: وهكذا في الصوم ليكون تمرينا على العبادة والطاعة، ومجانبة المعاصي، وترك المنكر. وقد عاش المسلمون السابقون العمل بالإسلام فوجدوه كفيلا بسعادة الروح والبدن، وضابطا لمصالح الدين والدنيا... فالعجب من قوم يكون عندهم هذا الدين الحنيف محفوظا خالصا، لا تشوبه شائبة، ويرون كيف سعد به أسلافهم، ثم يتنكرون له، ويجهلونه، ويجهلون عليه، ويرددون أقوال أعدائه، وينشرونها بين قومهم، مع ما فيها من الكذب والتدليس، والتمويه والتحريف. قال الله سبحانه: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى[طه: 132]. يقول فيها العلامة ابن كثير: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها، فإذا أقمت الصلاة نرزقك من حيث لا تحتسب، قال النووي: «لا نسألك رزقًا، يعني لا نكلفك الطلب». وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام عن أبيه: «أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفًا، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: ولا تمدن عينيكإلى قوله: نحن نرزقكثم يقول: «الصلاة الصلاة رحمكم الله». وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً، ولم أسدّ فقرك». [أخرجه الترمذي برقم (6642) وصححه الألباني] وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم همًا واحدًا، همّ المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديته هلك». [صحيح بن ماجة برقم (207) صحيح الجامع برقم (6189)] وروى أيضًا من حديث ثابت رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة». والعاقبة للتقوىأي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة لمن اتقى. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنَّا أُوتينا من رطب ابن طاب، فأولت ذلك أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب». وفي خطاب الآية الكريمة تزهيد له صلى الله عليه وسلم ولأمته في الدنيا وزخارفها. وإبعاد لهم عن الافتتان بزهرتها وزينتها؛ لأن من فتن بها أهلكته وشغلته عن ذكر الله، وهذا مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رئيس الدولة، وكان يُعطي عطاء من لا يخاف الفقر، والأموال كلها بيديه، ولكنه كان زاهدًا فيها، مفضّلاً التقشّف في المعيشة طوعًا واختيارًا، لا حاجة واضطرارًا، فكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسده الشريف. وكان يمر الشهر والشهران لا توقد النار في بيته، وإنما يعيش هو وأهله على الماء والتمر، كما في حديث عائشة في الصحيحين، فكان عروة بن الزبير إذا دخل بيته يعظ نفسه وأهله بهذه الآية وينادي فيهم: «الصلاة الصلاة» ففيها نعيم وقرة عين المتقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». أي الفرح والسرور، لأن الصلاة تعين كل محتاج، وتفرّج كربه استعينوا بالصبر والصلاة <<. وهذه سنة سائر الأنبياء إذا نزل بهم أمر يكرهونه يفزعون إلى الصلاة فيدفع الله عنهم بها كل مكروه، ويبدلهم بالعسر يسرا، وبالضيق سعة، وبالشدة رخاء، وهذا هو ديدن المؤمنين الصادقين شبابا كانوا أم كهولا أم شيوخا - أن يفعلوا إذا نزل بهم ما يكرهون، أن يستعينوا بالصبر والصلاة، فالصبر يهون المصائب، ويفتح باب الفرج، والصلاة استغاثة واستعانة بالله تعالى. إن في الحديث القدسي: «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك». لجواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي - كصلاة العصر مثلا - هل يتفرغون لعبادة الله ويؤدون فريضتهم، ويدعون شغلهم جانبا، فإذا فعلوا ذلك ملأ الله صدرهم، وأيديهم غنى، وأزال فقرهم الحسي والمعنوي، فالمعنوي: هو فقر القلب وجزعه، وشغله بالتفكير في الرزق، أو في أي وسيلة يظن أن الرزق يأتي بسببها، وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله، وتمادوا في شغلهم، وأعرضوا عن الصلاة حتى يخرج وقتها، فحينئذ يمتلئ صدره غما وشغلا، وإنما مثلنا بصلاة العصر لأن صلاة العصر تجيء عادة وسط الأشغال وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق العزم ثابت اليقين أوقف الشغل الدنيوي، وتفرغ لعبادة الله، واستجاب لدعوته، فيزيده الله قوة إلى قوته، ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر المبين، وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله، وخيل له أن في تركه خسارة، لا تعوض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، فحينئذ يمتلئ صدره غما وشغلا يلازمانه أبدا. أخرج البخاري في كتاب المواقيت من صحيحه عن أبي المليج قال: «كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: «بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صلاة العصر حبط عمله». وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله». نفهم من الحديث الأول ومن غيره من الأحاديث الصحاح، ومن الآيات البينات: أن من ترك صلاة العصر عمدا بلا عذر شرعي حتى يخرج وقتها فقد بطل عمله الصالح كله، فإن تاب وعاهد الله عهدا صادقا أن لا يتعمد ترك الصلاة المفروضة أبدا فإن الله يرد له ما حبط من عمله. ومثل هذا قوله تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين[الزمر: 52]. وحديث جابر الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة». وإذا كان ترك الصلاة عمدًا كفر فلا إشكال في حبوط العمل. وأما الحديث الثاني: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله؛ أي خسر ماله وأهله، وبقي فردًا بلا أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله تعالى: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين[الزمر: 15]، وكل فريضة حدد وقتها يجب على المسلم أن يترك كل شغله يشغله عن أدائها: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون[الجمعة: 9- 10]. فحرّم الله على المسلمين أن يشتغلوا بالبيع وغيره من أمور الدنيا بعد أذان الجمعة، وأوجب عليهم أن يسعوا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة حتى إذا سلم الإمام من صلاة الجمعة فقد أذن الله لهم أن يخرجوا من المسجد وينتشروا في الأرض، ليشتغلوا بأعمالهم التي تكفل لهم رزقهم. ومثل ذلك قوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21) إلا المصلين (22) الذين هم على صلاتهم دائمون (23) والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25) والذين يصدقون بيوم الدين (26) والذين هم من عذاب ربهم مشفقون (27) إن عذاب ربهم غير مأمون (28) والذين هم لفروجهم حافظون (29) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (30) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (31) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (32) والذين هم بشهاداتهم قائمون (33) والذين هم على صلاتهم يحافظون (34) أولئك في جنات مكرمون[المعارج: 16 - 35]. أخبرنا الله سبحانه أن الإنسان - يعني جميع الناس - خُلق هلوعًا، حصل من طبعه الهلع، وهو الجزع وشدة الحرص. فتفسير «هلوعًا» هو ما بعده: وإذا مسه الخيروهو الغنى والصحة والقوة والنصر وسائر النعم «منوعا» بخيلاً لا ينفع غيره بشيء، ثم استثنى الله تعالى من الناس المجبولين مع ذلك الطبع الخبيث المصلين، وأكّد وصفهم بقوله تعالى: الذين هم على صلاتهم دائمونأي محافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها، ووصفهم بصفات بدأها بالمحافظة على الصلاة، وختمها بالمحافظة عليها، وذكر بينهما صفات: أولاً: أن في أموالهم حقًا معلومًا للفقراء والمحتاجين، سواءٌ أكانوا من الذين يظهرون فقرهم وحاجتهم ويسألون الناس، أم كانوا من المتعففين الذين يكتمون فقرهم، ولا يسألون الناس، وهم القسم المعبر عنه بالمحروم؛ لأن أكثر الناس يحرمونهم الصدقة. ثانيًا: أنهم يُصدِّقون بيوم الدين، أي يؤمنون بيوم القيامة، وهو يوم الجزاء، ويجعلونه نصب أعينهم، فيبعثهم ذلك على مراقبة الله تعالى فلا يفعلون ما لا يرضيه. ثالثًا: الخوف من الله تعالى، فهم يخافون عذابه ولا يأمنون مكره، فإنه لا يأمنه إلا القوم الخاسرون. رابعًا: أنهم يحفظون فروجهم عما حرَّم الله ويقتصرون على ما أحل الله. خامسًا: أنهم يحافظون على عهدهم إذا عاهدوا مسلمًا أو ذميًا، أو معاهدًا أو مصالحًا لا ينقضونه أبدًا. سادسًا: أنهم يقومون بشهاداتهم فيؤدونها كما علموها، ولو كانت على الوالدين والأقربين، لا يزيدون فيها ولا ينقصون، ولا يُبدِّلون ولا يغيِّرون، ولا يكتمون أبدًا، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. فهذه صفات المؤمنين الصادقين، لا جَرَم أن كل مجتمع سادت فيه هذه الصفات يكون سعيدًا في دنياه وأخراه عزيزًا مؤيدًا منصورًا، جعلنا الله من أهلها.
|