ذات يوم اتصلت بالشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وسألته عن مسألة من المشتبهات فقال لي: هل تريد السّلامة؟ فقلت: نعم، قال: ابتعد عنها .
أقفلت السماعة وأنا تساءل في نفسي: ما دخل السلامة هنا؟ المفترض أنّي سالم حتى لو أخطأت، أليس هذا مذهب السلف في مسائل الاجتهاد أنّك بين أجر وأجرين؟!
ظلّ هذا السؤال عالقاً في ذهني سنين عدداً لا أجد له إجابة .
قرأت يوماً حديث ابن عمر في الصحيح قال: "وَعَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا وَجَدَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ" .
في رواية خارج الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلاّ أنه كان في باب البيت تمثال الرجال وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب فمُرْ برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليُصيّر كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فليُقطَع ويُجعل منه وسادتين منتبذتين يوطآن، ومُرْ بالكلب
فيُخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكان ذلك الكلب جرواً للحسن أو الحسين تحت نضد له فأمر به فأُخرج" .
تأمّلوا معي: فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم قبل ذلك أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، أو أنّه كان يعلم بذلك ولم يكن يعلم بوجود الكلب والصورة، وفي الحالين فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان معذوراً بعدم علمه في تلك المسألة، ومع هذا فإنّ جبريل لم يدخل البيت حتّى خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من البيت فوجده ..
وحين تدبرت هذا الحديث فتح الله عليّ مغاليق كانت تسبّب لي حيرة، ففي بعض القصص الّتي قرأناها للسلف شيء يحيّر حتى مع كونها نماذج ..
في الصحيح عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ»، وفي رواية أنّه قال: لو لم تخرج إلاّ مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلّ جسد نبت من سحت فالنار أولى به" .
لِمَ كلّ هذا يا أبا بكر وقد أكلت من حيث لم تعلم؟
لكن بعد أن قرأت حديث جبريل آنف الذكر أصبح كلّ شيء الآن مفهوماً منطقياً، وعرفت الآن لِمَ قال لي الشيخ الفقيه: "هل تريد السّلامة".
وحتّى يُفهم عني المقصد أقول ما يلي:
ما يرتّبه الله تعالى من عقوبات نوعان: بعضه قدري كونيّ داخل في عموم النواميس الّتي جعلها الله في الكون؛ فالنّار تحرق، والماء يبرّد، والسّم يميت ويقتل، وغير ذلك من الأسباب، ومن طبيعة السبب الكوني أنّه لا يحابي الصالحين، فالنار تحرق الصالح والطالح، والسمّ يميت النبيّ والصدّيق والكافر والفاجر، ويُستثنى من ذلك معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وهذه لا تدخل معنا هنا، وهكذا هذه العقوبات الكونية لا تتعلق بدين المرء ولا صلاحه من عدم ذلك .
النوع الثاني: ما يرتّبه الله على المخالفة من عقوبات شرعيّة، بالحسنات والسّيئات، والعقوبة الأخروية، أو العقوبات والحدود الدنيوية، فهذه تدخل في قانون الموازنات، وتمنعها الأعذار الشرعية كالجهل والتأويل .
والآن لنأخذ مثلاً:
أكل الرّبا حرام، وقد رتّب الله عليه نوعين من العقوبات: شرعية، مثل اللعن، ومثل التعزير الشرعي، وهذه تسقط بالجهل والتأويل، وعقوبات كونية: مثل كونه سبباً في محق البركة، فهذه العقوبة الكونية لا يمنعها تأويل المتأولين ولا جهل الجاهلين .
مثال آخر:
اقتناء الصور وتعليقها في البيت: هو حرام يستوجب الإثم، وهذا الإثم قد يسقط بالجهل أو التأويل، وهو في نفس الوقت مانع كوني من دخول الملائكة: وهذا لا يسقطه الجهل والتأويل، ولو كان يسقط بهما لكان أولى النّاس بذلك بيت محمّد صلّى الله عليه وسلّم .
وهذا الفهم هو الّذي جعل أئمّة السّلف من الصحابة ومن بعدهم يتعاملون مع ما جاءت الشريعة به من نمط العقوبات الذي يتعلق بالمخالفة تعلّق السبب بالنتيجة – يتعاملون معه وكأنّهم أصحاب الجرم .. لأنّهم يعلمون أنّ السبب الكوني لا يحابي
الصالحين ..
فالمال الحرام سبب لمحق البركة ولو كان بتأويل ..
وأكل الحرام مانع من قبول الدعاء ولو كان بتأويل ..
واقتناء الصور في البيوت مانع من دخول الملائكة ولو كان بتأويل ..
ولهذا قال قائلهم: "لَتَركُ دانق مما يكره الله أحب إليّ من خمس مائة حجة".
وقال أبو إسماعيل المؤدب: «جاء رجل إلى العمري فقال: عِظْني، فأخذ حصاة من الأرض فقال: "زِنَةُ هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض".
وقال عبد الله بن المبارك: "لأن أرد درهماً من شبهة أحبّ إليّ من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف".
وعن هشام بن حسان قال: «ترك محمد بن سيرين أربعين ألفاً فيما لا ترون به اليوم بأساً".
وإذا تأمّلت في حالنا اليوم فلن تتعب في ملاحظة أنّ أغلب ما يعانيه الناس من غلاء الأسعار وشحّ الموارد هو آثار محق البركات بسببين: أوّلهما: الذنوب والمعاصي، وهذه لا يغفل أكثر الصالحين بل وغيرهم عن العودة عنها والاستغفار منها .
لكنّ السّبب الثاني هو ما غفل عنه النّاس، وأوّل الغافلين عنه هم الصالحون: ألا وهو ركوب الشّبهات ومواطن الريبة، خاصة أكل الربا وإيكاله والتعامل بأنواع الميسر والقمار، وكلّ ذلك يتمّ تحت ستار التأويل بسبب تجشّم ثلة من الفقهاء تسهيل وقوع الناس في شبهات الربا ظناً منهم أنّ التأويل واستفتاء المفتين ردءٌ وحصن لهم من وقوع العقوبات القدرية، ولهذا لا تكاد تجد من يستغفر أو يستعتب ربّه من هذه المعاملات الّتي دخلتها شبهة الربا خاصة معاملات الأسهم للأسف الشديد .
إنّ استفتاء المفتين وتأويل المتأوّلين يرفع الإثم ويمنع العقوبة الأخروية إن صدق الإنسان مع الله، لكن عليه أن يعلم أنّ المال الّذي أكله إن كان حراماً في حقيقة الأمر فإنّ آثار المال الحرام من محق البركة، ومنع استجابة الدعاء وغير ذلك من الآثار القدرية الّتي رتّبها الشّرع على أكل الحرام متحققة فيه، ولهذا
كان موقف السلف الصالحين من الحرام الصريح أو الشبهة موقفاً حازماً قوياً..كموقف أبي بكر رضي الله عنه ..
وما أحرى مشايخ الفتيا الّذين سوّغوا للنّاس الوقوع في شبهات الربا تحت ستار الاجتهاد الشخصي أن يبيّنوا مع ذلك أنّ تقحّم معاملات الأسهم المختلطة وغيرها من معاملات البنوك، خاصة تلك الّتي تُسمّى معاملات إسلامية، ليتهم يبينون ويشرحون للنّاس أنّ المؤمن لا يتم له إيمانه إلاّ بالورع عنها والبعد منها ما دام غير مضطرّ لها، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام".
وخلاصة الأمر: أنّ المسائل المشتبهة، خاصة تلك المتعلقة بالمال من أكثر المسائل خطورة على دين الإنسان ودنياه، خاصة وأنّ عقوباتها في الغالب عامّة، وكم لها من حولنا من قتيل أو جريح أو مثكول!! أمّا على مستوى الأمّة فقد –والله- أوشكت أن تذر الديار بلاقع.. فمن أراد السّلامة في دينه ودنياه فليقل لكل شبهات المال ومن يسهّل فيها: السّلامة لا يعدلها شيء .