لمحته على حين غرة في بلاد الغربة في سوق يعجّ بزوّاره من كل حدب وصوب، وهو جالس في أحد المقاهي بصحبة أفراد عائلته يحتسون القهوة ويتناولون المعجنات. لم يكن المشهد غير مألوف بالنسبة لي؛ فكل الطلبة المبتعثين يتسوقون برفقة زوجاتهم وأطفالهم في مشهد متكرر ألفناه وما أنكرناه يوماً. لمحني فجنّ جنونه، وقرر بلا سابق إنذار أن يغادر المقهى بصحبة عائلته الكريمة، وكأنه ارتكب موبقة من الموبقات ... مضى يمشي متظاهراً بالوقار فأغضيت كأنني لم ألمحه مخافة الإحراج. هزّني الموقف كثيراً وكان بالفعل تصرفاً لافتاً بامتياز يطرح أكثر من تساؤل. لاشك أن هذا الزميل كان يحتسي القهوة لا المسكر، ولا شك أن زوجه كانت بلباسها الشرعي، إذن ما الخطأ الذي ارتكبه ليعلن النفير على حين غرة وكأنه ارتكب كبيرة من الكبائر؟ لم يكن هناك ما يجرّمه في نظر الشرع، لكن عصا العيب هي التي فعلت فعلها، فهو لايجد غضاضة في نظر الأجانب له مادام ليس معروفاً لديهم، أما أن ينظر إليه ابن بلده فهذه قضية القضايا والعيب كله. إن هذا النموذج لشاب متعلم يدلل على وجود مشكلة في المجتمع أفرزت مثل هذا النموذج.
إلى عهد قريب كنا نعيش متقوقعين لانتصل بالعالم الخارجي، وتتحكم فينا العادات والتقاليد وفق نسق ما أنزل الله به من سلطان، فكان الواحد منا يتحرج من ذكر اسم إحدى محارمه، فضلاً عن أن يمشي برفقة محرم من محارمه في قارعة الطريق حتى لو كانت ملتزمة بحجابها، ويبدو أن ذلك نتيجة موروث ثقافي اجتماعي ينظر إلى المرأة بانتقاص وازدراء. في البادية لايزال الرجل يكرر كلمة: "أكرمكم الله" إذا جاء على ذكر امرأته أو غيرها من النساء، وكأنها رجس من عمل الشيطان، والبعض لايزال ينظر إلى المرأة بعين الريبة والشك؛ لأنها من وجهة نظره مخلوق ضعيف تغلب عاطفته عقله، وأنها مفتاح الشرور وخراب الدنيا، وإلى عهد قريب كان الرجل لايبيت مع أهله إلاّ عند قضاء الوطر، ولولا اقتحام موضة غرف النوم لمجتمعنا لسرنا على نهج من سبقنا حذْو القذّة بالقذّة. بغض النظر عن تصرف هذا الزميل أو غيره، يثور تساؤل بريء براءة الذئب من دم يوسف: هل تحكمنا العادات أم العبادات؟ في كثير من الممارسات المثيرة للتساؤل على مختلف الصعد، وفي صور اجتماعية مختلفة نرى العادة تتحكم في الكثير أكثر من العبادة، والعرف أو النسق الاجتماعي مؤثر في الكثير منا شئنا أم أبينا. أعرف أن صدر مقالي يدغدغ عواطف المتلبرلين لكني أقول لهم إن المرأة كائن له حقوقه ومسؤولياته، والنساء شقائق الرجال، وكل هذا وفق شريعتنا المطهرة، وليس على النموذج التغريبي الذي يعد المرأة من سقط المتاع، تتلذذ بها العيون الجائعة، وتستمتع باستعراضاتها في حفلات المجون وعلى خشبة المسرح. إن نظرتنا للمرأة تتأرجح بين هاتين الخانتين إما الانغلاق وإما الانفتاح.
إن ثقافة العيب -على طريقة رجل المقهى الذي استعرضته في صدر مقالي- تلازمنا وليتها من الدين في شيء، بل في بعضها، أو إن شئت معظمها عادات ماأنزل الله بها من سلطان. إن الانعتاق من تلك العباءة أمر ليس بالهيّن لاسيما إذا أخذنا العامل الاجتماعي كعامل مؤثر، والذي سطّر لنا أمثلة لازلنا نحفظها منذ نعومة أظفارنا (الرجل ناقل عيبه بجيبه)، ومؤداه أن الرجل لايُعاب عليه الفعل الشائن؛ لأنه رجلمهما فعل، أما المرأة فلا، مع العلم أن الدين الحنيف لم يأت بهذا التفريق المخل العابث، بل لم يفرق في ارتكاب الذنب بين الرجل والمرأة في آيات كثيرة لايتسع المقال لسردها، و منها أن الله -عز وجل- دائما ما يقرن عمل الصالحات بالرجل والمرأة وبالذكر والأنثى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) أو يذكرها على سبيل العموم كما في قوله عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). إن هذا الاجتزاء للنص القرآني هو راسب من رواسب فرضتها العادات القبلية الجائرة التي لاتزال تنظر نظرة توجس للمرأة، وتعتبرها عيباً ونقصاً وثلمة ورجساً، ولاتزال تعيش في عقولنا وضمائرنا حتى لو تبرأنا منها ظاهراً أو حاولنا. ليس معنى كلامي أن يستعرض الرجل بزوجه أمام الناس، ويباهي بذلك، كلا فالمرأة مجبولة على الحياء والعفاف.
جاء الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان لتكريم المرأة والرفع من شأنها، حتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يعالج سكرات الموت أوصى بهن وبحقهن وحق المسكين، ومع ذلك لانزال نعايش الكثير من الممارسات الخاطئة التي تنم عن هدي أبعد ما يكون عن هدي الإسلام وتعاليمه السمحة. المرأة أم وأخت وزوجة وبنت أوجب الإسلام العناية بها والقيام بحقوقها؛ فعلى نطاق الأم أوجب الإسلام طاعتها فهي أحق الناس بحسن الصحابة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأخت بالقيام على رعايتها والإحسان إليها وتزويجها الرجل الكفء دون عضل، والزوجة بمعاملتها بالحسنى وإكرامها؛ فخير المسلمين هو من كان رؤوفاً بزوجه محسناً لها، والابنة لها حقها من التكريم والصيانة، فمن رزقه الله ابنة فأحسن إليها كانت له ستراً من النار. من منا يتعامل مع المرأة وفقاً للأمر الالهي؟ من منا يعامل زوجه بالحسنى والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي؟ ومع بلوغنا شأواً بعيداً في العلم لانزال لدينا رواسب من عادات وأعراف ما أنزل الله بها من سلطان، ولعل ذلك مردّه إلى استعباد لافت للعادات والتقاليد وكأننا لسنا مسلمين. إن الإسلام جاء لحفظ الضرورات الخمس: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس، والنساء شقائق الرجال ونصف المجتمع وأساسه المتين، لابد أن تكون منطلقاتنا في الحياة من وحي الآية الكريمة: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لا من عادات ماأنزل الله بها من سلطان، لابد أن نراقب الله في تصرفاتنا؛ فالشريعة المطهرة هي الحاكمة لتصرفاتنا (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). والعادات لايزال لها حضور فاعل في حياتنا ماأنزل الله به من سلطان؛ فالبيوت امتلأت بمن فاتهن قطار الزواج؛ لأن من غير المقبول أن يخطب الرجل لابنته الرجل الصالح؛ فهذا يعتبر منقصة ومثلبة وعيباً تحاسبه عليه عادات وتقاليد المجتمع، مع أن في السيرة ما يؤيد ذلك. لابد من بث الوعي بين الناس وتعميق حب الشريعة المطهرة في نفوسهم، والتنبيه على بعض العادات ما أنزل الله بها من سلطان.
إن ثقافة العيب تعني فعلاً غير لائق في الغالب، وأن (العيب) مفهوم مرتبط بالعادات المتعارف عليها اجتماعياً؛ أي أنه مفهوم بشري بحت، أما (الحرام) فهو مفهوم مرتبط بالدين، أي أنه إلهي صرف . إن أي مخالفة للشرع في اللباس أو في التعامل مع الوالدين أو في التلفظ بألفاظ خارجة عن الأدب تعالج في محيطنا الاجتماعي معالجة خاطئة بكلمة (عيب)، فعيب أن تعمل كذا، أو تقول كذا، أو تلبس كذا، والذي يخالف أمر والده نقومه بأن فعله حرام، وأن الله يعاقبه على ذلك، ونسوق له الآيات التي تحث على طاعة الوالدين، وتحذر من مخالفة أمرهما لا أن نغرس فيه كلمة العيب، وكأن ما يعنينا هو البعد الاجتماعي البحت في محيط المروءة والرجولة و الأخلاق لا في محيط الشرع، وكذلك اللباس غير الشرعي نكتفي بتوجيه كلمة عيب في الغالب مستغنين بها عن كلمة حرام ولايجوز؛ لأن الله أمر المسلمة بالستر، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها، وإن ريحها يوجد من مسيرة كذا وكذا). إن هذه الضبابية التي نغلف بها مشكلاتنا والتي تفضي إلى استنتاجات في حدها الأعلى مشوشة قد نختصر أسبابها بهيمنة مفردتي (العيب والحرام) اللتين تلعبان في واقعنا دوراً معوقاً لأي إسهام جاد في تقويم الواقع الاجتماعي المتأزم، فما ليس محرماً الحديث فيه قد يكون عيباً، ولاحد لهذا العيب. الطلاق والمطلقات والنظرة السالبة لهن من المجتمع، وكأن الطلاق جريمة لاتغتفر، وكأن المرأة المطلقة هي السبب، متناسين أن الطلاق شرعه الحكيم الخبير إذا تعذر التوافق بين الزوجين لأي سبب من الأسباب، بعد أن تستنفد كل محاولات رأب الصدع وتقريب وجهات النظر.
وتنسحب ثقافة العيب في محيطنا الاجتماعي لتساهم في صناعة البطالة بين الشباب؛ فهناك الكثير من المهن الشريفة لايزال المجتمع ينظر لها بانتقاص وازدراء مع أن الأنبياء عليهم السلام احترفوا مهناً مختلفة؛ فآدم كان مزارعاً ونوح نجاراً وإدريس خياطاً وإبراهيم بزازاً(تاجر أقمشة) وداود صناعاً ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام راعياً. وكلنا نعرف قصة الأعرابي الذي جاء للنبي عليه السلام يشكو الفقر، ويتكفف الناس، فأمره أن يشتري فأساً ويحتطب ففعل واغتنى.
إن الموظف براتب بسيط لايكاد يسد رمقه أفضل في نظر المجتمع من الصانع المبدع الذي يجني أضعاف ما يجنيه ذاك الموظف، وهذا ما يعكس أن للمجتمع من حولنا دوراً في صياغة تفكيرنا وسلوكنا المغلوط في معظم الأحيان. وهناك آلاف الفرص التي تنتظر شبابنا، لكن العائق الاجتماعي وثقافة العيب تقفان حجر عثرة في الطريق، وأجدادنا كانوا يزاولون المهن الحرفية بكل فخر، بل إن المجتمعات الغربية لاتزال تنظر نظرة إيجابية لأصحاب المهن الحرفية، حتى أصبح من المسلمات أن تجد شاباً من عائلة ثرية يعمل في مطعم أو في غسيل السيارات، ولايجد غضاضة في ذلك. وعلى الرغم من أن الدولة بذلت جهوداً تُشكر ولاتُكفر في هذا السياق، من إنشاء المعاهد المهنية التي تخرِّج مهنيين في شنى الحرف، إلاّ أن نظرة المجتمع لاتزال قاصرة، ولاتزال ثقافة العيب مستبدة.
إن الحل الفاعل لثقافة العيب هو تغيير تفكير الناس عبر توعيتهم بدينهم من خلال البرامج الحوارية المكثفة من رجال العلم الشرعي، ومن الباحثين الاجتماعيين ومن كافة فئات وشرائح المجتمع عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة، وعبر خطب الجمعة، وعبر تعرية هذا المفهوم وربطه بالدين، فما كان عيباً سيصبح مقبولاً، ومن ثم سيغدو مطلوباً. علينا أن نرسخ مفهوم العمل في عقول أبنائنا وأهميته، وألاّ جد غضاضة في تدريبهم وحثهم على العمل الشريف متى ماسنحت لهم سانحة، وأن نفنّد مايعتبره المجتمع عيباً تحت مجهر الشرع المطهر، ونبسطه للناس، ونؤسس لمفهوم جديد ناضج يربط فيه المسلم كل سكناته وحركاته بالدين لا بالعادات والتقاليد؛ فالمجتمع إن حاسبك فلن يعاقبك، لكن الله إن حاسبك عاقبك، والمسلم لايعبد إلاّ الله عز وجل، ولايرجو سواه.
ما أجمل أن ننطلق في كل أمورنا من منطلق الشرع، فيصلنا في ذلك موافقة أعمالنا لشرع الله، وأن نتمثل كتاب ربنا -عز وجل- وسيرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- ففيهما الدواء الناجع والبلسم الشافي. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.