ثانياً: سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1311-1389هـ) -رحمه الله-:
لعل أبرز السمات في سماحة الشيخ محمد ما آتاه الله من هيبة في نفوس الناس، وهو أمر يرجع إلى معرفة الناس بصرامته في الحق، ولهذا يحسب محدثه حساباً شديداً إذا أراد أن يكلمه؛ خشية أن يزلّ بكلمة.
وكان مع ذلك أنيساً عند مخالطته ألوفاً لمعاشريه، لا يتصف بشيء من الغلظة أو الجفاء أو الفظاظة.
وكان يحسن التفريق بين مجالس الجد والعمل ومجالس الراحة والإجمام.
يقول الشيخ حمد الحمين -وهو ممن لازم الشيخ طويلاً-: "كان -رحمه الله-على الرغم من شدته وحزمه وهيبة الناس له - صاحبَ دعابة خصوصاً مع خاصته، وأحفظ له-رحمه الله- في ذلك حكايات كثيرة". ا-هـ.
فالشيخ -رحمه الله- يهتم بالنادرة، ويتأسى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مداعبة أصحابه والتبسُّط معهم؛ ليسرِّي عن العاملين، حيث يعاملهم كالأبناء، وإليك طرفاً من ذلك:
1- يقول الشيخ عبد الله بن منيع الذي لازم سماحته في العمل معه مدة طويلة: "أذكر أنني أنا وأحمد بن قاسم مع سماحته بعد العصر في الطائف في منطقة الهدا؛ لعرض ما لديّ من معاملات على سماحته كالمعتاد، وفي رجوعنا وجَّه الكلام لأحمد بن قاسم قائلاً: يا أحمد، أمُّك جاءت بولد ليس أخاك ولا أختك فمن هو؟ فبهت أحمد من هذا، وقال: خلها في قبرها عفا الله عنك، وبعد أن أتاح له فرصة التأمل، قال: هو أنت يا أحمد، جاءت بك أمك؛ فتنفس الصعداء وقال: الحمد لله فرجت عني، جزاك الله خيراً".
2- ويقول الشيخ عبد الله بن منيع -حفظه الله- متحدثاً عن الشيخ محمد بن إبراهيم: "كان -رحمه الله- يحب النكتة ويسترويها؛ فقد صار من بعض الزملاء أن اجتمع لديه اثنان من فراشي الإفتاء فذكَّرهما أن الصوم يصير في الصيف، والشتاء، وكذلك الحج هكذا؛ فإن السنة تستدير، فإذا اجتمع الصوم مع الحج في إحدى السنين فمن منكما سيصوم ويترك الحج، ومن سيحج ويقضي الصوم، فقال أحدهما: سأحج وأترك الصوم لأيام أخر، وقال الآخر: سأصوم وأترك الحج، فذكر لسماحته فاستدعاهما وأعيد السؤال عليهما، فاحتج الأول على تركه الصوم بقوله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). [البقرة:184].
واحتج الثاني بقوله -تعالى-: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). [البقرة:185].
فضحك -رحمه الله- وقال: لقد بنيت هذه الدار على علم -يعني دار الإفتاء-.
ومن رواية النكتة ما ذكره لنا -أي الشيخ محمد بن إبراهيم- أنه أبلغ الشيخ عبد الله بن عجيان -رحمه الله- قرار نقله من نجران إلى طريف، فقال له: أسألك يا سماحة الشيخ: هل أمرك الملك بأن تُحَدِّد بي المملكة في قضائي".
3- وذكر الشيخ إسماعيل بن عتيق أن محمد عطاء الهندي سأل الشيخ في مجلسه فقال: ماذا نصنع بالميت إذا مات في السفينة؟ فقال الشيخ: ألقه في البحر.
فقال السائل: يطفح على سطح البحر، فقال له الشيخ: اعمل له مثقلاً، فقال السائل: يأكله السمك، فقال الشيخ: إذاً احمله على ظهرك ليكن معك حيث شئت.
4- وكان من مداعبته للشيخ علي بن خميس: أن علياً تكلم يوماً بالهاتف مخاطباً الشيخ عبد الله بن إبراهيم وهو في مكة، فقال له الشيخ محمد: كلمت مكة يا علي؟ قال: نعم، قال فكلم الدرعية، فقال: لا تليفون فيها، قال: عجباً لك! تكلم البعيد ولا تكلم القريب.
وقال الشيخ ابن عتيق: ومثل هذا يحصل من الشيخ أحياناً مع غيره.
5- وقرأ الشيخ عبد العزيز بن شلهوب، وهو حسن الصوت، قليل اللَّحن، ولكنه أخطأ في هذه القراءة بكلمة، وهي: وهذه "لغة حِمْيَر" قرأها: "وهذه لغة حَمِيْر"، فقال الشيخ: سبحان الله، وهل للحمير لغة.
ثالثاً: سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز (1330-1420هـ) رحمه الله:
كان -رحمه الله- ذا دعابة ومزاح، وحرص على ملاطفة جلاّسه، وإدخال السرور عليهم.
وكان يداعبهم، ويمازحهم مزاحاً لا إسراف فيه ولا إسفاف.
لا يكْفَهِرُّ إذا انحاز الوقارُ به |
| ولا تطيشُ نواحيه إذا مَزحا |
ومما يُذكر في هذا الباب ما يلي:
1- أنه -رحمه الله- إذا أراد الوضوء من المغسلة ناول من بجانبه غترته أو مشلحه ثم قال ممازحاً مداعباً: هذه يا فلان على سبيل الأمانة، لا تطمع بها.
2- ومن ذلك أنه إذا قام من المكتبة متعباً من القراءة والمعاملات، ثم تناول العشاء - قال: سنعود إلى المكتبة مرة أخرى؛ لأننا ملأنا البنزين، وتزودنا بالوقود، أو يقول بعبارته: (عَبَّينا) بنزين، ويعني بذلك أنه نشط بعد تناول الطعام.
3- وكان -رحمه الله- مرهف الشعور؛ وبمجرد إحساسه أن أحداً ممن معه متضايق من أمر ما فإنه يلاطفه بما يشرح صدره، وينسيه همه؛ فربما قال لمن معه: ماذا عندك؟ ماذا ترغب؟ وربما قال له: ممازحاً: ما تريد الزواج؟ وإذا أُحْضِر الطعام قال لبعض جلاسه: تغدوا معنا، أو تعشوا؛ الذي لا يخاف -يعني من أهله- يتفضل معنا.
4- ومن هذا القبيل -أيضاً- أنه إذا سلم عليه أحد سأله عن اسمه، فإذا كان في الاسم غرابة أو معنى غريب أو حسن - داعب سماحتُه صاحب ذلك الاسم.
وذات مرة جاءه مطلِّق فقال له: ما اسمك؟ قال: ذيب، قال: وما اسم زوجتك قال: ذيبة؛ فقال سماحته مداعباً: أسأل الله العافية! أنت ذيب، وهي ذيبة، كيف يعيش بينكما أولاد؟
5- وذات يوم كان أحد الذين عنده يقرأ عليه، وفي أثناء قراءته تردد في كلمة ولم يفصح عنها، أي لم يستطع أن يقرأها.
وكان ضمن الحاضرين في المجلس د.عبد الله بن محمد المُجَلِّي فقال سماحة الشيخ: أعطها ابن مُجلِّي؛ لعله يجلِّيها.
6- ومما يذكر في ذلك -أيضاً- أن سماحته كان كثيراً ما يمازح الشيخ عبد الرحمن بن حمد بن دايل-رحمه الله-، والشيخ عبد الرحمن من قدامى كتاب سماحة الشيخ، وممن له باع طويل في تحرير قضايا الطلاق، وهو معروف بسرعة إنجاز الأعمال، وضبطها، وكان مع سماحة الشيخ أيام كان في المدينة، وهو المسؤول عن الأوراق التي ترد إلى بيت سماحته وروداً وصدوراً، وكان يعمل مع سماحته جل أوقاته، وهو محبٌّ للخير، وذو همة عالية، وإتقان للعمل -كما مر ذكره-.
وكان يُعِدُّ الفتاوى على معاملات الطلاق، باسم سماحة الشيخ، ويندر أن يجد سماحته فيها نقصاً، أو خطأً.
وفي بعض الأحيان يرسل ثلاثين معاملة أو أربعين، أو أكثر أو أقل، وتوزع بين الموظفين لقراءتها؛ فإذا جاء وقت عرضها قال سماحة الشيخ: أبو حمد ضابط لعمله، ثم قال: ممازحاً، ولو، نختبر أبا حمد، اقرؤوا ما كتبه، فإذا قرؤوه وإذا هو في غاية الضبط والإتقان.
وكان الشيخ عبد الرحمن يتصل بسماحة الشيخ، أو يقابله، ويبدأ بسرد الأعمال، وقراءة القضايا بكل نشاط وهمة، فإذا رآه سماحة الشيخ هكذا قال: يا أبا حمد! ألا تريد أن تتزوج؟ فيقول الشيخ عبد الرحمن: يا سماحة الشيخ، أنا في وادٍ وأنت في وادٍ، أين أنا والزواج، فيقول سماحة الشيخ مداعباً: وسّع صدرك، وسّع صدرك.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن دايل: إذا أجريت اللازم على معاملة ما، ثم قرأتها على سماحته، وأعجبه ما قرئ عليه، قال: قالون، قالون، يعني: جيد؛ بالفارسية.
7- ومن النماذج على دعابة سماحة الشيخ أنه كان قبل وفاته بعام واحد مدعواً عند الشيخ محمد الموسى -مدير مكتب بيت سماحة الشيخ- بمناسبة سكناه بيته الجديد، وكان المجلس مليئاً بالمشايخ وطلاب العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- وصاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين، وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله الفنتوخ، وصاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز السدحان وجمع من المشايخ.
وكان سماحة الشيخ يعمر المجلس بالفوائد، والإجابة على الأسئلة، وحصل أنَّ حديثاً طويلاً دار حول الرقية، وتلبس الجني بالإنسي.
ومما دار في ذلك المجلس أن الشيخ عبد العزيز السدحان ذكر أنه ورد في ترجمة أحمد بن نصر الخزاعي -رحمه الله- أنه رقى رجلاً فيه مس من الجن، فتكلمت على لسانه جنية، فقالت لأحمد بن نصر: يا شيخ، لن أخرج من هذا الرجل حتى يدع القول بخلق القرآن.
فتبسم سماحته -رحمه الله- وقال: ما شاء الله، هذه جنية سنية، هذه من أهل السنة والجماعة.
رابعاً: سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين (1347-1421هـ) -رحمه الله-:
للمزاح في حياة شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله- نصيب غير منقوص، فلقد كان -مع جدِّه، وصرامته، ودقته، وانضباطه- ذا روح مرحة، يُرَفِّه بها عن جلاّسه، وطلاّبه، ومعاشريه.
وكان يسعدهم بذلك، ويرفع عنهم الكلفة، ويبعثهم إلى مزيد من الجد والنشاط.
وكل من خالطه، أو تتلمذ على يديه يحفظ له عشرات القصص من هذا القبيل سواء في دروسه في مسجده، أو في الحرم المكي، أو غير ذلك.
ومما يحضرني الآن من ذلك أنه كان يأتي إلى الزلفي في كل عام مرة؛ ويمكث فيها من الصباح إلى ما بعد العشاء، فيزور كبار السن، وأهل الفضل، ويلتقي طلبة العلم، ويلقي محاضرة في تلك الزيارة.
وكانت مجالسه عامرة بالعلم، والفائدة، وكانت لا تخلو من دعابة حلوة.
وفي إحدى زياراته زار مركز الثوير -ضاحية من ضواحي الزلفي من جهة الشمال في آخر رمال الثويرات - وصار يتحدث مع الشيخ عبد الله بن عبد المحسن القشعمي -إمام جامع الثوير- الذي كان من مواليد 1331هـ -كما أخبرني هو بذلك-.
ومما دار في ذلك الحديث أن فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- قال للشيخ عبد الله القشعمي: ما هذا الاسم؟ الثوير؟ أفلا سمي بالثور؟
فقال الشيخ عبد الله: أحسن الله إليك يا شيخ محمد؛ نحن في هذا المكان الصغير الذي يليق بنا، ويناسبنا أن يسمى بهذا الاسم، ثم إن الثور كبير، وإذا صغِّر ففيه شيء من الكِبَر، لكن أنتم في بلد العلماء، والفضلاء، والوجهاء، وهو بلد كبير ويُسمى عُنيزة، وعَنْز صغيرة، فكيف إذا صغرت؟
فضحك الشيخ محمد -رحمه الله- كثيراً، وأعجب بسرعة بديهة هذا الرجل الكبير، وقال: "لو سكتُّ لسلمتُ".
فهذه نبذة عن بعض مزاح الأكابر، ولا يعني ذلك أنهم متمحضون للمزاح، مُطَّرحون للجد، وإنما المقصودُ بيانُ وجهٍ مشرق من جوانب سِيرَ أكابرنا؛ فإذا أراد الناشئُ أن يقتدي بأمثال أولئك فلينظر في سيرهم من جميع الجوانب؛ حتى تكتمل أمامه الصورة.
من خلال ما مضى يتبين لنا أن المزاح ليس على وتيرة واحدة، وأنه ليس مذموماً بكل حال، وأن المحمود منه ما روعي فيه الوقت، والحال، والشخص، والقدر.
أما إذا لم يُراعَ فيه ذلك دخل في المذموم، ونُزِّل عليه جميع ما ورد في ذم المزاح من إسقاطه الهيبةَ، وإخلاله بالمروءة، وتسببه في جرأة السفهاء، بل ونقص الديانة، أو المروق منها إذا كان المزاح يتضمن سخرية في الدين، أو شيءٍ من شعائره.
قيل في منثور الحكم: "المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب".
وقال بعض الحكماء: "من كثر مزاحه زالت هيبته".
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح؛ لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء".
وكان يُقال: "لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح".
وكان يُقال: "لو كان المزاح فحلاً ما ألقح إلاّ الشر".
وقال سعيد بن العاص: "لا تمازحِ الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك".
وقال ميمون بن مهران: "إذا كان المزاح أمام الكلام فآخره الشتم واللطام".
وقال أبو هفان:
مازحْ صديقَك ما أحبَّ مزاحا فـلـربما مزحَ الصديقُ بمزحة |
| وتـوقَّ منه في المزاحِ جماحا كـانت لبابِ عداوةٍ مفتاحا |
وقال آخر:
لا تَمْزَحَنْ وإذا مزحت فلا يكن واحـذرْ مـمازحةً تعودُ عداوةً |
| مزحاً تُضافُ به إلى سوءِ الأدبْ إنّ الـمزاحَ على مقدمةِ الغضبْ |
وقال آخر:
فإياكَ إيـاكَ المـــزاحَ فـإنه ويـذهـبُ ماءَ الوجهِ بعد بهائه |
| يُجَرِّي عليك الطفلَ والدَّنِس النذلا ويـورثُـه مـن بعدِ عزّتـه ذلاَّ |
والمقصود أن المزاح لا ينبغي الإكثار منه، ولا الإسفاف فيه.
أما ما عدا ذلك فيحسن؛ لما فيه من إيناس الجليس، وإزالة الوحشة، ونفي الملل والسآمة.
وإنما المزاح في الكلام كالملح في الطعام،إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.
أفـدْ طبعَك المكدودَ بالجدِّ راحة ولـكن إذا أعطيتَه المزحَ فليكنْ |
| يجمّ وعلّلْه بشـيء مـن المـزحِ بمقدار ما تعطي الطعامَ من الملحِ |
وقد أطلت في هذا الباب؛ لكثرة الإخلال فيه إفراطاً، أو تفريطاً.
(1) هذه كلمة دارجة معناها: نريد أن تقدم لنا شيئاً إما وليمة أو غيرها؛ لأجل أن ترضينا بسبب خطئك علينا.
(2) يعني أنا أول من يهنئك بوصول زوجتك أم عبد الله.