في حادثة عاصرها فقيه الأدباء، الشيخ علي الطنطاوي، وعاش تفاصيلها، يقول: (أدركت في الشام عدداً من المفتين العلماء الأجلاّء، كان منهم الشيخ محمد شكري الأسطواني، وكان كبير السن، كثير العلم، رقيق الحاشية، وكان مرفّه العيش، واسع الغنى، ولم يكن له ولد يرثه، فمرض مرضة شديدة أشرف فيها على الموت، حتى أيس منه الأطباء، وكان منهم ابن عم لي من قدامى أطباء الشام، تخرج في كلية الطب في دمشق سنة 1920م، فخبرني تلك الليلة- وقد سألته عنه بالهاتف- أن الأعمار بيد الله، ولكنه وإخوانه من الأطباء يرجحون أنه لن يصبح حياً!!
واجتمع في بيته ورثته من أبناء إخوته ونساؤهم، وبدرت كلمة من إحدى النساء جعلتهن ينسين مرض المريض والموت الذي يحوم حول بيته بجناحيه، واختصمن في توزيع التركة: من يأخذ الدار الفخمة في الشارع العظيم الذي فيه القصور، وفيه مساكن الأغنياء، شارع أبي رمانة؟ وكانت منهن واحدة، هي أعلاهن صوتاً، وأكثرهن حرصاً، وأشدهن طمعاً بهذه الدار...، أفتدرون ماذا كانت خاتمة القصة؟ إن في خاتمتها العبرة منها، والموعظة من روايتها، كانت خاتمتها أن الشيخ شفي، وأن هذه الفتاة التي كان يعلو صوتها ماتت، ومشى الشيخ في جنازتها، ووقف على قبرها، بعد أن صلى هو عليها..!). أهـ
الله... ما أعظم العظة والعبرة من هذا المشهد لمن كان له قلب..
لقد أضحى تعلق الناس بالدنيا، ونسيان الموت، وتربص ورثة الغني بوفاته للظفر بثروته واقعاً نلمسه اليوم وللأسف..! وأهم أسباب هذا الواقع ضعف الوازع الديني لدى الورثة، وأحياناً يكون السبب تقتير المورث على ورثته بما يجعلهم يحسبون أيام حياته، وينتظرون لحظة وفاته على أحرّ من الجمر، لاسيما إذا انضم إلى التقتير تفضيل بعض الورثة على بعض..! وإن كان هذا السبب ليس مسوّغاً على الإطلاق، لكنه الحقيقة والواقع فعلاً.
ولهذا، فإن المورث الذي يحسن قراءة الأحداث والعبر، ويدرك جيداً أهوال يوم القيامة، فإنه يضع من سلم اهتماماته الأمور الآتية:
1- الرفع من مستوى الوازع الديني لدى ورثته ممن هم تحت رعايته كأولاده، وذلك بالتربية الصالحة التي تنشِّئهم على مراعاة رضا الله تعالى، ومحبة الوالد واحترامه وتوقيره، وقبل ذلك اختيار الزوجة الصالحة التي تعينه على التنشئة الصالحة، مع ملاحظة مراعاة الصلاح الحقيقي، لا الذي يرتكز على المظاهر وحسب..
2- توفير الحاجات الرئيسة للورثة، ولاسيما الزوجة والأولاد، وعدم التقتير عليهم، أو إثارة الضغينة في نفوسهم بتفضيل بعضهم على بعض، أعني التفضيل بين الزوجات، أو بين الأولاد بعضهم على بعض(اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)، مع إرخاء اليد عليهم بما جرى به عرف الناس دون إسراف أو تبذير.
3- إحياء روح الصدقة والتبرع والإحسان في النفس، وبذل ما يتيسر من المال في حال الحياة(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا..) فهل تؤخر الصدقة بمالك -أيها الغني- حتى يجيء أجلك، ويختصم الورثة على ثروتك وأنت في حال الاحتضار، أو بعد دفنك في حفرة القبر..؟
لماذا لا تتصدق ببعض مالك وأنت صحيح؟
هل (بيل جيتس) رئيس شركة (مايكروسوفت) أكثر حرصاً منك على الخير حين أوقف مئات الملايين من ثروته لأعمال الخير، وأنت تملك أعظم رصيد شرعي يدعوك للوقف ودعم مشروعات الخير؟
(لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ).
وهل بعض المؤسسات التنصيرية أكثر اهتماماً منك في نشر تعاليم دينها بمليارات الدولارات، وأنت تملك أعظم رصيد ديني يدعوك لنشر الدين الصحيح، وكسب هداية الناس؟
"لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم".
هل تملك أيها الثري العقل المؤسسي لإدارة أموالك وتنميتها بالمشاريع الاستثمارية، ولا تملك العقل الاستثماري لإدارة أوقافك؟
إنني على ثقة بقدرتك على تكوين إدارة مستقلة لأوقافك، فلماذا تتثاقل عن البدء في مشروع وقفي يضمن استمرار عملك الصالح وأنت متوسد تراب قبرك، وأنت تعلم جيداً أن العبد إذا مات انقطع عمله إلاّ من ثلاث، ومنها(صدقة جارية) فهل تفضل أن يتصدق عليك ورثتك من مالك الذي ورثوه منك(طبعاً إن فطنوا لك) أم تفضل أن تتصدق أنت من حر مالك؟ اختر أيهما شئت..
لماذا تتلكأ عن حبس بعض مالك لله تعالى في حال غناك ليعود ريعها لك في لحظات تتمنى فيها حسنة واحدة (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) فهل تتأخر عن هذه الخطوة ليكون للوارث غنم مالك، وعليك غرمه؟ ليكون له ربحه، وعليك ضمانه؟
يا سبحان الله..!!
أتنجح في تجارة الدنيا، وتخسر في تجارة الآخرة؟
أتشتري بالربح، وتبيع بالخسارة؟
أتحرص على الربح العاجل الفاني، وتزهد في الربح الآجل الباقي؟ أتحرص على الخردة، وتزهد في الجوهرة؟
لا..لا.. ليس هذا من خلق التاجر الفطن..
من فضلك: أرع لي سمعك لأهمس في أذنك: اتخذ قرارك الآن.. ولا تتأخر عن موعد الاستثمار في أسهم الآخرة..