هذا يوم وفاء وبرّ).. سمِعها بعد أن قرَعته الرماحُ وهو يزاحم في كتيبةٍ مَسلَّحة من الفرسان، رافعاً يدَه وهو ينادي بكتاب معه: هذا كتابُك، كيف مرَّت ثمانِي سنوات بين كتابة هذا الكتاب ورفْعِه في هذا اليوم؟! ولا يزال يذكرُ يومَه ذاك، ويرى ما توقَّعه واقعاً ماثِلاً أمام عينيه.
تذكَّر يوم أتت رسُل قريشٍ إلى مضارب قومِه بني مُدلِج في قديد(1) يخبرونهم أنَّ قريشاً قد جعلت مائة ناقةٍ في محمد صلى الله عليه وسلم، ومائة ناقةٍ في صاحبه أبي بكر لِمَن قتَلَهما أو أسَرَهما، حين خرجا مُهاجِرَين مِن مكة إلى المدينة. لقد تشوَّقت نفسُه إلى هذه الجائزة بكل ما في الأعراب من لهَفٍ على جمع الإبل، وحبٍّ لاقتنائها وتفاخُرٍ بكثرتها، وبينما هو جالس في نادي قومه إذا أقبل رجلٌ منهم حتى وقف عليهم، وقال: والله، لقد رأيتُ سوادَ ثلاثةِ شخوصٍ مَرُّوا آنفاً بطريق الساحل، وإني لأُراهم محمداً وأصحابَه، وعَرَف هو مِن فوره أنَّهم هم، وأدرك بفراسة الأعرابيِّ أنَّ الذين سلكوا طريق الساحل قد تجنَّبوا الطريقَ المعهودَ؛ فراراً مِمَّن يطلُبُهم أو يرصُدهم، ورأى أن فرصة الظَّفَر بهذه الغنيمة قد أصبحت وشيكة، وأراد أن يستأثِر بها فلا يشركه فيها أحد، فأومأ بعينه إلى الرجل أن اسكُتْ، ثم قال: كلا، ليسوا هم، وإنما هم فلان وفلان، خرجوا أمام أعيننا يطلبون ضالَّةً لهم، فقال له الرجل: لعلَّه، ومكث في مجلسه قليلاً حتى لا يلفت انتباههم بسرعة قيامه، ثم قام ودخل بيته، فأمر جاريتَه أن تخرج بفرسه، وتنتظره بها خلف الأكمة، وخرج هو من مخرج خلفيٍّ في ظهر بيته، وقد لَبس سلاحه، وحمل كنانَتَه التي فيها الأزلام التي يستقسم بها، وأخذ رمحه وخفضه حتى خطَّ بطرفه الأرض حتى لا يراه أحد، ثم انسل حتى أتى فرسه فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج الأزلام فاستقسم بها على عادة أهل الجاهليَّة إذا أرادوا أن يستخيروا في أمرٍ، فخرجَ السهم الذي يكره أن لا يتبعهم، ولكن طمعه بتلك الجائزة غلب عقيدته الجاهلية، فعصى الأزلام، وركب فرسه يشتد عليها بالعدو، وكانت الأرض جَلْداً صلبة تعدو فيها الخيل ضابحة، وكان يسرع بفرسه جهده نحوهم حتى تبينت له شخوصهم، ثم دنا منهم حتى سمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان لا يلتفت وأبو بكر يُكثر الالتفات، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هذا طلبٌ قد لحق بنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)، ثم قال: (اللهم اكفناه بما شئت، اللهم اصرعه). فإذا الفرس التي كانت تتوثب على هذه الأرض الصلبة لا تمسها إلاّ بأطراف حوافرها تسوخ قوائمها في الأرض إلى بطنها كأنما تسوخ في الوحل، وسقط الفارس صريعاً وهو في حال ذهول ينظر إلى فرسه، وقد امتصت الأرض قوائمها، وهي أرضه التي خبر شدتها وصلابتها، فعلم أن هذه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى: يا محمد، إني قد علمت أن هذا عملك، وأنك قد دعوت عليّ، فادعُ الله أن يخلصني مما أنا فيه، فو الله لا أسوؤكما، ولا يأتيكم مني شيءٌ تكرهونه، فدعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقامت فرسُه تحمحِم، فلما انتزعت يديها من الأرض، ثار من تحتها دخان ساطع في السماء كالإعصار، فوقع في نفسه لما رأى هذه الآيات أن أَمْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر، وأيقن أن عاقبته النصر الغالب والفتح المبين، وظن -لجهله بخلائق النبوة- أنه إذا ظهر سيقول: ائتوني بأعرابي من بني مدلج تبعنا في طريقه طريق مكة فقد آن اليوم أن أجعله نكالاً، ولذا أراد أن يستوثق منه الآن لنفسه، فناداهم: أنا سُراقة بن جُعْشُم، انظروني أكلِّمْكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "قلْ له: وما تبتغي منا". فقال سراقة: تكتب لي كتاب أَمْن يكون آية بيني وبينك، فوقفوا وركب فرسه حتى جاءهم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قومك قد جعلوا فيك الدّية، وأخبرهم أخبار ما يريد الناس، وعرض عليهم الزاد والمتاع فلم يأخذوا منه شيئاً، فقال: إنكم ستمرون علي إبلي وغنمي فخذوا منها ما شئتم، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا حاجة لنا بها، قال: فمرني بما شئت. قال: أخفِ عنا، ولا تتركَنَّ أحداً يلحق بنا. وأمر عامر بن فُهَيرة فكتب له كتاب أمان في رقعة، ثم ألقاه إليه، فأخذه، فجعله في كنانته ثم رجع، وجعل لا يلقى أحداً إلاّ ردَّه ويقول: قد كُفيتم ما ها هنا، قد عَرَفتم بصري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأتُ لكم فلم أرَ شيئاً، فيرجعون عن هذا الطريق ليبحثوا في طرق أخرى.
ومرت السنوات سراعاً وأخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتردّد بين مكة والمدينة حتى أتت الأخبار أنه فتح مكة، وهزم هوازن في حنين، وحاصر الطائف، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فخرج إليه ومعه كتابه الذي كتبه له، فوصل إليه وهو بالجعرانة قريباً من مكة، ووافاه وحوله كتيبة مسلحة من فرسان الأنصار، فدخل في الكتيبة يتخلل الفرسان وهم يقرعونه برماحهم ويقولون: إليك، إليك، ماذا تريد؟ حتى دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على ناقته، قد انحسر إزاره عن ساقه، يبرق بياضها كأنها جمَّارة(2)، فرفع يده بالكتاب وصاح: يا رسول الله، هذا كتابك إليّ!! أنا سراقة بن جعشم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، اليوم يوم وفاء وبر وصدق، أدْنِه" فدنا منه، وأعلن إسلامه، وشعر سراقة وهو قريب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمشاعر شتى، وهي مزيج من النشوة بهذا القرب والدهشة لهذا المشهد، والمهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكر شيئاً يسأل عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يذكر شيئاً؛ لازدحام مشاعره تلك، إلاّ أنه قال: يا رسول الله، الضالَّة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتُها لإبلي، هل لي من أجر في أن أسقيَها، قال: "نعم في كل كبد حرى(3) أجر".
لقد تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدناه وهش له، ولم يذكره بشيء مما كان، وكأنه لم يكن.
إنني على يقين أنه شعر حينها أنه لم يكن بحاجة إلى كتابه ذلك، وأنه كان في أمان من ذاك الخلق النبوي العظيم.
ثم رجع سراقة إلى قومه فعمد إلى إبله فساق منها فرقة وأرسلها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقة لله عز وجل.
أعاجيب الخبر:
يدهشني في هذا الخبر مفارقات هي أعاجب العجب:
أولها: سؤال سراقة كتاب أمان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في حاله تلك، فهل سمعت من قبل بأمان يسأله الطالب من المهاجر المطلوب.
ثانيها: كيف كان سراقة أول النهار جاهداً في طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقتله أو يسلمه، وآخر النهار حارساً يدفع عنه من يطلبه.
ثالثاً: شتان بين اللقاءين؛ لقي سراقة النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجراً في الصحراء ليس إلاّ هو وصاحبه ودليله وخادمه على راحلتين والقبائل تتعقبه وتترصد له، ثم لقيه ثانياً وحوله عشرة آلاف مقاتل هم جنده الفاتح، وقبائل العرب تفد إليه مؤمنة منقادة.
رابعاً: شتان بين سراقة وهو يطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- طمعاً في الإبل، وسراقة وهو يسوق الإبل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طمعاً في مرضاة الله.
وأخيراً ما أقصر ثماني سنوات في عمر الزمن تمرّ كومضة برق، ولكنها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- سنوات حافلة مزدحمة بالأحداث عبرت فيها بدر وأحد والخندق والحديبية، ثم جاء نصر الله والفتح ليشهد سراقة فيها كل تلك المفارقات العاجبة.
(1) - موضع بين مكة والمدينة بينه وبين مكة نحو من (125) كيلاً.
(2) - الجمارة هي قلب النخلة وشحمتها، يشبه بها في شدة البياض وصفائه.
(3) - أي عطشى.