حسُّ المؤمن حسٌّ نقي، ذلك أنه ربيب شرعة الله التي تصقل فطرته المجبولة على حب الجمال الخالص من شوائب الانحراف، تراه في تفاصيل الحياة المعبّدة لله ومكونات الكون البديعة، وليست تراه أبداً في معصية الله ومخالفة أمره. جمالٌ يوقظ القلب فيذكر، ويطرب الروح فتشكر، ويستنهض الجوارح أن أدي ما عليكِ لتناغمي حركة الكون الموحّد ربَّه، الذاكرِ الشاكرِ له من إشراقة شمس حتى دبيب نملة.
من هذه المعاني المرهفة(1) تبحر النفس بعد يبوس ساحل. ومن لجج الحياة تنجدنا هجعة(2) الصيف بعد هيعة(3) سائر السنة. فقد أصبحت الحياة كتِرسٍ نتحرك معه في رتابة(4)، ونداء المشاغل يصيح بنا ليل نهار أنْ أدّوا ما عليكم. وصارت النفس بحاجة إلى أن تخرج عن خط السير الراتب لترتاح وتستجم "ساعة وساعة" مسلم، لتتأمل وتتفكر (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ). [آل عمران:191]، لتجدد الهمة، وتتقوّى على المسير. وذلكم متيسرٌ في الإجازة الصيفية.
وليست الإجازة الصيفية محطة توقّف، بل هي خطوة في طريق النجاح والفلاح إذا ما أديرت بذكاء. إنها ليست موسماً للنوم، وليست موسماً للتحرر من كل واجب أو قيد، وليست موسماً للانفلات والتراخي.
إنها في عين المؤمن محطة بديعة اللحظات، جميلة بمنافعها، لا بفوضويتها وانفلاتها. وهي له عمل آخر: تخطيط وتنظيم، تنفيذ وتقويم. هي مثل أعمالنا سائر السنة، غير أنها خروجٌ عن "الروتين". ذلك هو سر التجديد والترويح فيها.
ودونك أبرز مثال؛ إذ تجد منا من يستجم من عناء أعمال سائر السنة بعناء أعمال السفر ومشقته، بل يجد فيه من الترويح أفضل ما يكون.
وهو كذلك، وليس بيت الإمام الشافعي الشهير ببعيد عن حديث السفر، إذ يقول:
تغرّبْ عن الأوطانِ في طلبِ العلا
وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائدِ
تفريجُ همٍّ، واكتسابُ معيشةٍ
وعلم، وآداب، وصحبةُ ماجدِ
إن الإمام الشافعي - وهو الفقيه الذكي - ليحثّ على السفر ويثبت فوائده؛ فالسفر في أصله عملٌ مباح كسائر المباحات التي أحل الله للمسلم الاستمتاع بها في الدنيا وتحصيل منافعها، فقد قال تعالى فيما أنعم على عباده من الزينة والطيبات (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). [الأعراف: 32]، وكذلك الأمر في نعمة النظر في بديع صنعه وآياته في الآفاق.
وأطيب السفر ما كان في طاعة الله -عز وجل- إلى المساجد الثلاثة. فكّ الله أسر أقصانا، ورزقنا فيه صلاة طيبة.
ومن خلال السفر تتحقق عدد من المقاصد الشرعية كالنظر والاعتبار والتفكر؛ ففي السفر يتحقق تحصيل المعرفة واتساع الأفق، وبهما يتهيأ الفكر للنظر والاعتبار؛ فأنت تزور أرضاً غير أرضك، فترى فيهما من آلاء الله ما لا تراه في منطقتك، إن كنت في صحراء فتنتقل إلى ساحل، وإن كنت في أرض مقفرة الزرع شحيحة الماء فتنتقل إلى ذات مروج وأنهار، فتقلب ناظريك، وتسبّح خالقك وتعلم قدرته، وتعاين جمال تصويره وإبداعه، وتسبَح بفكرك في ملكوت الأرض ما لم يتهيأ لك في أرضك، كل ذلك تتخذ منه سبيلاً إلى تقوية إيمانك، وزيادة خشيتك لخالقك، وتهيئة عزيمتك للسير إلى مرضاة ربك وجنته.
إنك ترى قوماً غير قومك، تختلف ألسنتهم وتتغاير سَحنتُهم، وترى من حياتهم وعوائدهم وهموم معيشتهم ما لا تراه في بلدك، فتعلم كيف يفكرون، وكيف يعيشون.
ويكون لديك من قبول خلق الله على اختلاف أعراقهم وأعرافهم ومشاربهم ما لا يكون لك وأنت في بلدك، لا تعلم سوى نفسك أو نسخٍ منها. والثقافات على اختلافها إنما تقدّم بدائل الحياة المختلفة، فتمدك بمرونة ذهنية تخرج بك عن نطاق ما ألِفت.
إنك إن سافرت تطّلع على تاريخٍ غابر أو ثقافةٍ مختلفة، فتتكون لديك خبرة حسية تقرّب لك كثيراً من المعاني التي لم يكن لها في العقل سوى صورة تتخيلها خلف حُجُب أحرف الكتاب ووصفه.
فإن كان تاريخاً للمسلمين ابتهجت وتمنيت عودة عز الإسلام والمسلمين. وإن كان لغيرهم اعتبرت واتعظت وتذكّرت.
إن ما ذُكر آنفاً من الأهمية لحياة الإنسان أن الله أمره بالسير والنظر والاعتبار والتفكر، غير أن الله سبحانه وتعالى إذ يأمر العباد بذلك، يأمرهم أيضاً أن يزِنوا عملهم بميزان العدل والقسط، فإن كان هذا السير يوجب مخالفة أمره وتنكُّب صراطه، أو خالطه شيءٌ ما كان ضرره أعظم من نفعه، فهو بهذه الصورة ليس بمحمود، وإنما مذموم وصاحبه مأزور.
ولذا يفتى كثير من العلماء بحرمة السفر إلى غير البلد المسلم ما لم تكن ثمة حاجة مطلوبة ومصلحة راجحة؛ لمظنة الضرر ومباشرة الفساد. وهو مذموم إليها وإلى غيرها إذا كان سبيلاً لضياع الدين والنفس ولتبذير الأموال والأوقات. كل ذلك في ميزان المؤمن محسوب ومحسوم.
سافر واضرب في الأرض، وابتغ متعة النظر في أرض الله سبحانه وتعالى، ومتعة الفكر في جريان أحوال الخلق في حاضرهم وماضيهم، ومتعة الترويح والاستجمام. ولكن تجنب من السفر ما يكون إلى مكان تُفتن فيه وأهلك عن دينك، وما هو مدعاة لتبديد مالك وإفساد حالك، وما كان فيه من ضياع الوقت عما هو ألزم لك وأقوم، من واجبات نفسك وأهلك، وما أنت مسؤول عنه.
ثم إن سافرت سفراً لا يقتضي ما ذُكر من المفاسد، فاعرف جيداً أين تضع قدميك. لا تقربنّ مواطن الريبة والعبث والمجون والفتنة، ولا تتركنّ ذريتك لذلك. واختر من البقاع ما يليق بك عبداً مراقباً لله تعالى.
وليس السفر تخففاً عما أوجب الله عليك، إلاّ إن كنت تتقي من يعرِفُك من الناس، ولا تتقي ربك الذي ابتلاك وسيحاسبك. واحذر أن يلهيك ما أباحه الله لك عما افترضه عليك، فالصلاة الصلاة، وما أُمرت به من غض البصر، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تكن في سفرك متتبّعاً للهو ساعات طوال، وإن كان خالياً من المأثم؛ فليس يعني السفرُ البطالةَ عن العبادة وذكر الله، وسائر ما يصلح النفس والعقل والبدن. وليس هذا هو شأن المسلم، وإنما شأنه معاودة الذكر بعد الذكر، والنصب في العبادة عند الفراغ (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبّك فَارْغَبْ). [الشرح :7-8] وفي تفسيرها قال مجاهد: "إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك". ومثله قول ابن كثير: "إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلِص لربك النية والرغبة". والمسلم مأمور بالنظر في إصلاح حاله على كل وقت، ولربما كانت الإجازة من أثمن الأوقات التي تعين على تفريغ النفس للنظر في حالها وقربها أو بعدها عن ربها وخالقها، وتحسين سَيرِها في هذه الحياة الدنيا طريقاً إلى الآخرة، والفطنة كل الفطنة اغتنام ذلك والإفادة منه في حالي السفر والحضر.
وإنك إن دعت الحاجة إلى السفر إلى غير بلاد المسلمين كحاجةٍ إلى تحصيل علم أو دعوة أو علاج ونحوه، فاستثمر وجودك الذي أذِن الله لك به في زيارة إخوتك المسلمين في تلك الديار، والتعرّف على حالهم. وكن عوناً لهم في دينهم حسب استطاعتك، ولا تكن فتنة لهم في التفريق فيما بينهم وشق عصاهم، لأجل أن يكونوا على تفاصيل طريقتك التي عرفتها في ديارك فيما يسوّغ فيه الاختلاف الشرعي. وخذ مشكاةً من فقه الإمام مالك رحمه الله، فقد قال: "فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وإنَّ ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل بلد لأنفسهم". وقدّم للأمناء منهم ما استطعت من دعمك المعنوي والمادي ما يمكّنهم من حفظ دينهم وتبليغ دعوتهم لمن حولهم.
وإنك إذ ذاك سفير دينك وأمتك؛ فخالق الناس جميعهم بخلق حسن، تكن داعية خير إلى دينك بخلقك وسلوكك، ونموذجاً حسناً لأهل بلدك. ولا تكن فتنة لخلق الله عن دينه، فتأثم أعظم الإثم عن نفسك وعمن فتنته عن الدين. فكم داخلٍ في الإسلام دعاه ما عاين من حسن أخلاق المسلمين! وكم منصرفٍ معرضٍ عن دين الله الحق بسبب كذبة كذبها من ينتسب للإسلام، أو غش مارسه، أو غلظةٍ في المعاملة لم يأمر الله بها! يفعل ذلك كله يظن أن غير المسلم لا حق له، ولا خلقٌ حسن مطلوبٌ في التعامل معه، وظنه غير صحيح.
وإن سِفارتك تقتضي أن ترتقي بسلوكك وتعاملك، وأن تنظر في موضع وجودك وتحركاتك. كل ذلك محسوب عليك عند الله تعالى، وعلى أمتك وبني وطنك عند الناس.
وليكن لك نصيب مما خلق الله تعالى من جمال الطبيعة، ومن مواطن المعرفة والاطلاع. فخذْ منها ما لا يضطرك إلى مخالطة أهل الشبهات والشهوات والفسوق والتبذُّل.
فلتصاحب في كل خطواتك ميزان الحق، تتعقب به الطاعات والحسنات، وما فيه صلاح دينك ودنياك، وتدع عنك المعاصي والفجور والسيئات.
بذلك تكن جميلَ السّفر..
والمؤمن كيسٌ فطن !
(1) اللطيفة
(2) الهجعة هي النومة الخفيفة من أول الليل واستعيرت هاهنا للدلالة على أخذ راحة سنوية قصيرة.
(3) الهيعة هي كل ما أفزع من صوت. واستعيرت كذلك، فكأن أعمال السنة كالزاجر يدعو المرء إلى الإنجاز.
(4) الروتين نعبر عنه عادة بـ "الرتابة" غير أني لم أجدها فيما اطلعت عليه من المعاجم وإنما مصدر رَتَبَ هو "رتوب" وليس رتابة. في تاج العروس للزبيدي، رتب الشيء يرتب رتوباً: ثبت ودام ولم يتحرك كترتب، وعيش راتب: ثابت دائم وأمر راتب. وكذلك في لسان العرب: رتب الشيء يرتب رتوباً