الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد: فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة وأبرها قلوبًا، زكاهم الله تعالى في كتابه فقال: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم. {التوبة: 100}
وقال تعالى: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم {التوبة: 117}. وقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما {الفتح: 29}. وقال تعالى: وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير {الحديد: 10}. وقال تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم {الحشر: 10- 10}. والآيات في فضلهم كثيرة، وكل فضيلة اختصت بها هذه الأمة فهم أولى الناس بها لأنهم كانوا المشافهين بالخطاب والمختصين به، ومن بعدهم تبع لهم، وذلك كقوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله {آل عمران: 110}، وقوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس {البقرة: 143}. فأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير قرون الأمة على الإطلاق، ولا يثبت الفضل ولا الخيرية لمن بعدهم إلا بقدر متابعتهم لهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر هذه الحقيقة في أحاديث كثيرة فيقول: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته". متفق عليه. فجيل الصحابة هو خير أجيال هذه الأمة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم أمان للأمة من البدع والضلالات والفتن، والضعف والتخاذل، والذل، وتكالب الأمم عليها، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أبي موسى الأشعري قال: صلينا المغرب مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ما زلتم هاهنا؟ قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال: أحسنتم أو أصبتم. قال: فرفع رأسه إلى السماء- وكان كثيرًا مما يرفع رأسه إلى السماء- فقال: النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون. مسلم ك فضائل الصحابة. وكان من ثمرة هذا الأمان حفظ الدين ونقل القرآن والسنة وحسن الفقه في دين الله، ورفع راية الجهاد وفتوح البلدان، وعز الإسلام، ونبذ البدع وأهلها مما عانت الأمة بعد ذلك من فقده بعد قرون الخيرية الأولى قرن الصحابة ومن جاء بعدهم، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على علاقة الصحابة بفتوح الإسلام فقال: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من رأى مَنْ صَحِب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فيقولون: نعم، فيفتح لهم". متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "فيوجد الرجل، فيفتح لهم به". من هو الصحابي؟ قال البخاري: ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، وهذا هو المشهور عند أهل السنة والحديث اعتبار الرؤية ومن العلماء من اشترط لثبوت الصحبة ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم فترة زمنية تعرف بها صحبته، وهذا رأي علماء الأصول، وكان سعيد بن المسيب لا يَعُد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدًا، أو غزا معه غزوة فصاعدًا، ومن هنا قال عاصم الأحول: رأى عبد الله بن سرجس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، غير أنه لم يكن له صحبة، مع أن عاصمًا روى عن عبد الله عدة أحاديث ومن جملتها أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له. ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارقه عن قرب، كما جاء عن أنس أنه قيل له: هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا، مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب من أحداث الصحابة. والقول الأول قول البخاري وأحمد وجمهور المحدثين، فإنهم اتفقوا على عد جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع. بدعة سب الصحابة: وقد ظهرت هذه البدعة قديمًا بسبب الخلاف والقتال الذي نشب بين المسلمين في الفتنة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وقد أخذت هذه البدعة مظهرين: الأول: ما فعله بعض خلفاء بني أمية من سب علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، وربما جعلوا ذلك على المنابر، وقد أبطل هذه البدعة عمر بن عبد العزيز، روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أن معاوية قال له: ما منعك أن تسب أبا تراب. فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم وذكر بعض فضائل علي رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين. {مسلم ك فضائل الصحابة- ب من فضائل علي رضي الله عنه} الثاني: ما فعله أهل البدع من الخوارج والروافض من سب أعيان الصحابة وتفسيقهم وتكفيرهم، وقد حمل الروافض لواء هذا اللعن إلى يومنا هذا فعليهم من الله ما يستحقون، زعموا أنهم على مذهب آل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنالوا من صحابته وتبنوا مذهب الوقيعة بين الصحابة وبين آل بيت النبوة ففرقوا بذلك بين الأمة وجعلوها شيعًا وأحزابًا، وقد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن سب أصحابه فقال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه". {متفق عليه} والمد: ما يملأ الكفين من الطعام، ونصفه ما يملأ اليد الواحدة. وذكر مسلم أن سبب الحديث ما كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف من خلاف، فسبه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا أصحابي". وأخرج الحاكم عن عويم بن ساعدة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى اختارني، واختار لي أصحابًا فجعل لي منهم وزراء وأنصارًا وأصهارًا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل". قال الحافكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، لكن ضعفه الألباني في ظلال الجنة. ومع هذا فإن بعض المنتسبين لأهل السنة شكلاً يقولون ببعض مقالة الشيعة ويسبون بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اعتمادًا منهم على بعض روايات الإخباريين التي حوتها كتب التاريخ دون أن يمحصوا هذه الروايات. وكتاب الفتنة الكبرى لطه حسين خير دليل على هذا المنهج المتخبط، وقد تجرأ بعض القصاصين على هذا النهج في الآونة الأخيرة. فتجرأ بعضهم ونال من بعض الصحابة، فهذا رئيس تحرير جريدة الوفد السابق جمال بدوي يتهم ابن عباس رضي الله عنه بالسرقة واختلاس بيت مال المسلمين اعتمادًا على رواية لا إسناد لها عند الطبري في التاريخ، مع أن الطبري ذكر ما ينفيها، وهذا كاتب مسلسلات يصف عمرو بن العاص بكلام ينبو القلم عن نقله، ولو قال بعض هذا الكلام في شخصية معاصرة لتعرض للمحاكمة بتهمة السب والقذف، ولكنه زمن اجترأ وتجرأ فيه سفلة الناس على من زكاهم الله في كتابه وزكاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صحيح السنة وأجمعت الأمة على فضلهم وعدالتهم. المفاضلة بين الصحابة وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليسوا في درجة واحدة في الفضل، فمنهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ومنهم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومنهم من تبعهم بإحسان، وأنفق من بعد الفتح وقاتل. والذي عليه أهل الحق أن خير الأمة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة وهم سعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهم جميعًا من السابقين الأولين. ثم بعد ذلك أهل بدر وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً قال عنهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". متفق عليه. وقال عن حاطب بن أبي بلتعة: "لا يدخل النار فإنه قد شهد بدرًا والحديبية". متفق عليه. ثم من بعد ذلك أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في الحديبية وأنزل الله تعالى في حقهم: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا {الفتح: 18}. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها". فقالت حفصة: وإن منكم إلا واردها {مريم: 71}. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد قال الله عز وجل: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا {مريم}، والحديث متفق عليه. ثم بعد ذلك سائر الصحابة يشملهم اسم الصحبة، ويلحقهم فضل الصحبة الثابت في الكتاب والسنة، وقد روى مسلم عن الحسن البصري أن عائذ بن عمرو دخل على عبيد الله بن زياد فقال له: أي بني إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الدعاء الحطمة فإياك أن تكون منهم. فقال له: اجلس فما أنت إلا من نخالة أصحاب محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فقال: وهل كانت لهم نُخالة، إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم. مسلم ك الإمارة ب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر. موقف المسلم من الفتنة والقتال الذي دار بين الصحابة قال شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كما وصفهم الله به في قوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم {الحشر: 10}. ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح. ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله به عليهم من الفضائل علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وإنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله.
|