الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد خرجنا من مدرسة رمضان التربوية، والتي درسنا فيها كثيرًا من الأخلاق، واليوم ندخل مدرسة أخرى من المدارس التربوية، لنتعرف على بعض الأخلاق فيها، ونربي أنفسنا عليها، تلك هي مدرسة الحج التربوية.
1- الإخلاص:
يقول الله تعالى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:26-29]. فانظر كيف بدأ إبراهيم عليه السلام عمله كما أمره الله عز وجل بترك الشرك بالله أي أمره بإخلاص العمل لله تعالى، وكذلك أول ما حرص عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا النسك هو الإخلاص، ففي حديث جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم: «فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك»، فكل عمل لا بد أن يبنى على الإخلاص حتى يقبله الله تعالى، فما لم يبن على الإخلاص لا يقبل، وهو أول ما يعلن عنه الحاج: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك».
2- الطهارة:
ثم يقول الله تعالى: وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، فما المقصود بالطهارة هنا؟ هل هي طهارة الظاهر فقط؟ يقول ابن كثير في تفسيره: «وطهر بيتي» قال قتادة ومجاهد من الشرك. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
الطهارة أنواع:
1- منها الطهارة من الكفر والفسوق، كما يراد بالنجاسة ضد ذلك؛ كقوله تعالى: إنما المشركون نجس [التوبة: 28]. 2- ومنها: الطهارة من الحدث وضد هذه نجاسة الحدث. 3- ومنها: الطهارة من الأعيان الخبيثة التي هي نجسة. [مجموع الفتاوى 21/67، 68]. ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: المراد من قوله تعالى: وثيابك فطهر [المدثر: 4]، الآية تعم كل ما ذكره ابن تيمية سابقًا، إن كان المراد طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك، ولذلك حرم ما حرم من اللباس، لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات التي تلبس جلودها، فإن الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن. [إغاثة اللهفان 1/69].
3- الاستجابة:
أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس إلى الحج، فقال له: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، فاستجاب إبراهيم عليه السلام لأمر الله تبارك وتعالى واستجاب الناس لدعوة إبراهيم عليه السلام وما يزالون يستجيبون حتى الآن. يقول الله تبارك وتعالى عن هذا الخلق: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال: 24]. وقال البخاري: «استجيبوا» أجيبوا «لما يحييكم» لما يصلحكم. وروي عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: «ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ؟» ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج» فذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرتُ له..(الحديث). وقال معاذ: حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع حفصًا سمع أبو سعيد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقال: «هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني». [البخاري 4647 كتاب التفسير]
4- الإنفاق في سبيل الله:
والمسلم الذي يأتي إلى الحج من كل فج عميق راكبًا أو ماشيًا؛ ماذا يتكلف وما الذي يدفعه إلى هذا الإنفاق في سبيل الله تعالى من أجل الحج إلى بيت الله عز وجل؟ ثم يجد التوجيهات الكثيرة التي تدفعه للإنفاق: منها الأمر بذبح الهدي للقارن والمتمتع وكذلك في الفدية لجبر القصور الحاصل في أداء المناسك فضلاً عن توزيع تلك الذبائح؛ قال تعالى: فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [الحج:28]، فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [الحج:36].
5- الهداية:
يقول الله تبارك وتعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين [البقرة:198]. ويقول تبارك وتعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [الحج:37]. فمناسك الحج مظهر من مظاهر شكر الله تبارك وتعالى على هدايته، فربنا هو الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ويزداد الشعور بنعمة الهداية عندما يتذكر الإنسان ما كان فيه من ضلال.
6- الإحسان:
وفي آية سورة الحج: لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ، وفي سورة البقرة: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [البقرة:195]. ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنها في حديث جبريل المتفق عليه: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة، فإنها تفعل الطاعات وتنتهي عن المعاصي كلها، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته». [رواه مسلم 1955]
7- الوفاء:
يرشدنا الله تبارك وتعالى إلى الوفاء في قوله تعالى في سورة الحج: ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:29]. والوفاء لغة يعني الإكمال والإتمام وضده الغدر. [لسان العرب] وقد أمرنا الله تعالى بالوفاء في كل أمورنا فقال: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم [البقرة:40]، وقال: وبعهد الله أوفوا [الأنعام:152]، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [النحل:91]، وقال تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [الإسراء:34]، وقال تعالى: وأوفوا الكيل والميزان بالقسط [الأنعام:152]، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [المائدة:1].
8- التقوى:
يقول الله تعالى في سياق الحديث عن الحج من سورة البقرة: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [البقرة: 197]، ويقول: واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون [البقرة:203]. ويقول: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم [البقرة: 206]، ويقول: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج: 32]، ويقول: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم [الحج: 37]. ويقول ابن كثير في تفسيره: فإن خير الزاد التقوى لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى إليها كما قال: قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدًا إلى اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة والتقوى وذكر أنه خير من هذا وأنفع.
9- الذكر والدعاء والاستغفار:
يقول الله تعالى مرشدًا لنا إلى الإكثار من ذكره: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة: 199]. ويرشدنا أيضًا إلى آداب الدعاء؛ فلا ينبغي أن يدعو الداعي بأمور دنياه فقط وهو معرضٌ عن أخراه: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب [البقرة: 200- 202]. ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». وقال أحمد: عن عبد العزيز بن صهيب قال: سأل قتادة أنسًا أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها. رواه مسلم. [ابن كثير ج1 ص245].
10- تعظيم حرمات الله:
يقول الله تعالى: ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه [الحج: 30]. يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه فهو خير له عند ربه أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما أنه على فعل الطاعات ثواب كبير وأجر جزيل كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات، قال ابن جريج قال مجاهد في قوله: ذلك ومن يعظم حرمات الله قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى عنه من معاصيه كلها. وكذا قال ابن زيد.
11- تعظيم شعائر الله:
يقول تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج: 32]. يقول ابن كثير: يقول تعالى هذا ومن يعظم شعائر الله أي أوامره، فإنها من تقوى القلوب ، ومن ذلك تعظيم الهدايا (الهَدْي في الحج) والبدن (وهي الإبل التي تذبح في الحج وواحدتها بَدَنَة). وبعد، فهذه أمثلة فقط لدروس هذه المدرسة، مدرسة الحج التربوية، والحمد لله رب العالمين. |