الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على المصطفى المبعوث رحمة وهداية للناس أجمعين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد.. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئًا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: "نعم".
أولاً: تخريج الحديث
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في أربعة مواضع، أولها: في كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله برقم (1513). والثاني في كتاب جزاء الصيد، باب: الحج عمن لا يستطيع أن يثبت على الراحلة برقم (1854) وباب حج المرأة عن الرجل برقم (1855). والثالث في كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع برقم (4399) والرابع في كتاب الاستئذان، باب: قول الله تعالى: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم وقوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم... وقوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن برقم (6228). وأخرجه الإمام مسلم في الصحيح في كتاب الحج باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت برقم (1334) وبرقم (1335)، وأخرجه الإمام أبو داود في سننه كتاب المناسك باب الرجل يحج عن غيره برقم (1809) وأخرجه الإمام الترمذي في جامعه في كتاب الحج، باب: ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت برقم (928)، والإمام النسائي في سننه، في كتاب: مناسك الحج، باب: حج المرأة عن الرجل برقم (2642)، والإمام ابن ماجه في سننه في كتاب المناسك، باب: الحج عن الحي إذا لم يستطع برقم (2907) والإمام مالك في الموطأ في كتاب الحج، باب: الحج عمن يحج عنه، والإمام أحمد في المسند بالأرقام {1-76، 157، 212، 219، 251، 329، 346، 359} والإمام الدارمي في سننه في كتاب المناسك.
ثانيا: أحاديث في الموضوع نفسه
منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شُبْرُمة. قال: "ومن شبرمة؟" قال: أخ لي أو قريب لي فقال: "حججت عن نفسك؟" قال: لا، قال: "فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". {أخرجه أبو داود في المناسك باب الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه في المناسك وابن حبان في صحيحه} ومنها حديث أبي رزين العقيلي قال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، قال: "احجج عن أبيك واعتمر". {أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه النسائي وابن ماجه} ومنها حديث بريدة قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج، أفأحج عنها؟، قال: "نعم حجي عنها" أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومنها حديث ابن عباس أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج، قال: "حجي عن أبيك". {أخرجه النسائي} ومنها حديث حصين بن عوف قال: قلت يا رسول الله: إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع الحج إلا معترضا، فَصَمَتَ ساعة، ثم قال: "حُجَّ عن أبيك". {أخرجه ابن ماجه}
ثالثًا: شرح الحديث
( أ ) تعريف بالفضل بن عباس رضي الله عنهما:
هو الفضل بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد ويقال: أبو العباس المدني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية وكان شقيق عبد الله بن عباس، روى عنه أخوه عبد الله وغيره، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحنينًا، وثبت معه يومئذ حين ولى الناس، وشهد معه حجة الوداع وأردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه وأمهر عنه، وكان فيمن غَسَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم وولي دفنه، مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(ب) مفردات الحديث:
الرديف: الراكب خلف الراكب. خثعم: اسم قبيلة مشهورة. الوضيء: حسن الوجه جميل الصورة. عَجُزُ الراحلة: مؤخرها. فأخلف يده: أدارها من خلفه. الذقن: مجتمع اللحيين من أسفلهما، العظم أسفل الفم. لا يستطيع أن يستوي: أي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة لشيخوخته وكبر سنه. فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ أي: فهل يجزئ عنه أن أحج عنه؟.
(ج) معنى الحديث وفقهه:
في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي سُقناها مشروعية الحج عن الغير، قال الحافظ في الفتح: واستدل الكوفيون بعمومه على جواز أن يحج الإنسان عن غيره وإن لم يحج عن نفسه، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه واستدلوا بحديث ابن عباس فيمن سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عن شُبْرُمَة" فقال: "أحججت عن نفسك؟" قال: لا، قال: "هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة". قال الحافظ: واستُدل به على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب. وأجابوا عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على سبيل التبرع وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب. وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، ثم قال الحافظ ابن حجر: وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح؛ لأن عبادة الحج مالية بدنية معًا فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة. وقال عياض: لا حجة للمخالف في حديث الباب؛ لأن قوله: "إن فريضة الله على عباده في الحج..." معناه: إن إلزام الله عباده بالحج. وتعقب أيضا بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال. وفي بعض طرق مسلم "إن أبي عليه فريضة الله في الحج" ولأحمد في رواية "والحج مكتوب عليه". وادعى بعضهم أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعمية والخثعمية، كما خُص سالم مولى أبي حذيفة برضاعه في حال الكبر، قال ابن عبد البر: وممن قال بذلك مالك وأصحابه، وهو مروي عن عبد الله بن الزبير وعكرمة وعطاء والضحاك، قال الحافظ ابن حجر: وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية وقد قال صلى الله عليه وسلم للمرأة الجهنية: "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء"، قال: وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه ولا يخفى أنه جمود. اه. وكذلك يرده حديث من لبى عن شبرمة بقوله: أخ لي أو قريب لي. عمن تكون النيابة في حج الفريضة؟؟ قال الحافظ في الفتح: واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عطب فلا يدخل المريض؛ لأنه يرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه يرجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يرجى خلاصه ولا الفقير؛ لأنه يرجى استغناؤه، والله أعلم. وأما في النافلة فلا يشترط الموت والعطب، والله أعلم. هل يلزم المَحْرَمُ للمرأة في حج الفريضة؟ قال أبو عمر ابن عبد البر: وقد زعم بعض أصحابنا أن في هذا الحديث دليلا على أن للمرأة أن تحج وإن لم يكن معها ذو محرم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة الخثعمية: "حجي عن أبيك" ولم يقل: إن كان معك محرم. ثم قال: وهذا ليس بالقوي من الدليل؛ لأن العلم ما نطق به لا ما سكت عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر إلا مع ذي محرم أو زوج". {رواه مسلم من حديث ابن عمر}. ورواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أيضًا: "لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم". من الفوائد في هذا الحديث 1 ركوب شخصين على دابة إذا كانت الدابة تطيق ذلك، قال ابن عبد البر: هذا مما لا خلاف في جوازه. 2 إباحة الارتداف؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردف الفضل، كما أردف عبد الله بن عباس وأردف معاذ بن جبل وغيرهم. 3 تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر: وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم كلها سُنَنٌ مرغوب فيها يحسن التأسي بها على كل حال، ومنها جميل الارتداف بالجليل من الرجال. 4 بيان ما رُكِّبَ في الآدميين من الشهوات وما يخشى من نظر الرجال إلى النساء والنساء إلى الرجال، قال ابن عبد البر: وكان الفضل بن عباس من أجمل الشبان في زمانه، ووقع في رواية الطبري في آخر الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "رأيت غلاما حدثا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان". 5 أن على العالم والإمام أن يغير من المنكر كل ما يمكنه بحسب ما يقدر عليه إذا رآه، وليس عليه ذلك فيما غاب عنه. 6 فيه دليل على أنه يجب على الإمام أن يحول بين الرجال والنساء اللواتي لا يُؤمَن عليهن ولا منهن الفتنة، وأن يمنعهن من الخروج والمشي في الحواضر والأسواق وحيث ينظرن إلى الرجال وينظر الرجال إليهن، أفاده ابن عبد البر ورَوى حديث أسامة بن زيد "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". {أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه} 7 منزلة الفضل بن العباس رضي الله عنهما من النبي صلى الله عليه وسلم. 8 تحريم النظر إلى الأجنبيات ووجوب غض البصر عنهن، قال الحافظ في الفتح: قال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول. ثم قال: لعل الفضل لم ينظر نظرًا ينكر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك. 9 جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم. 10 بر الوالدين والاعتناء بأمرهما والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة وغير ذلك من أمور الدين والدنيا. 11 قال ابن العربي: حديث الخثعمية أصل متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس للإنسان إلا ما سعى رفقا من الله تعالى في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله. 12 فيه صحة حج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة، خلافا لمن منع حج المرأة عن الرجل معللا أن حج المرأة غالبا ما يعتريه النقص وأنها تلبس ولا يلبس، فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة السائلة أن تحج عن أبيها. 13 فيه جواز أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح؛ وذلك لما جاء في رواية أبي يعلى لهذا الحديث بإسناد قوي كما قال ابن حجر عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه...".
الاستئجار على الحج
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في الحج عن الميت أو المعضوب بمال يأخذه، فإما أن يكون المال الذي يأخذه نفقة فهذا جائز بلا خلاف، وإما أن يكون أجرة على الحج أو جعلا، فهذا فيه نزاع بين الفقهاء، فمن أصحاب الشافعي من استحب ذلك وقال: هو من أطيب المكاسب؛ لأنه يعمل صالحًا ويأكل طيبًا، والمنصوص عن أحمد أنه قال: لا أعرف في السلف من كان يعمل هذا، وعده بدعة، وكرهه، ولم يكره إلا الإجارة والجعالة، قلت القائل ابن تيمية : حقيقة الأمر في ذلك أن الحاج يستحب له ذلك إذا كان مقصوده أحد شيئين: الإحسان إلى المحجوج عنه بإبراء ذمته في الفرض وهذا بمنزلة قضاء دينه كما جاء ذلك في عدة أحاديث. فإن كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا فهذا محسن إليه، والله يحب المحسنين فيكون مستحبًا، وذلك يكون الباعث عليه إما رحم بينهما وإما مودة وصداقة أو إحسان له عليه يكافئه به ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه بمقدار الكفاية، وكذا لو وصَّى بحجة مستحبة وأحب إيصالها إليه. ولهذا جوزنا نفقة الحج بلا نزاع. والموضع الثاني: إذا كان الرجل مؤثرًا أن يحج محبة للحج وشوقًا إلى المشاعر، وهو عاجز فيستعين بالمال المحجوج به على الحج، وهذا قد يعطى المال ليحج به لا عن أحد، كما يعطى المجاهد المال يغزو به، فلا شبهة فيه، فيكون لهذا أجر الحج ببدنه ولهذا أجر الحج بماله، كما في الجهاد فإنه "من جهز غازيًا فقد غزا"، وقد يعطى المال ليحج به عن غيره، وهذا أيضا إنما يأخذ ما ينفقه في الحج كما لا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو. قال: فهاتان صورتان مستحبتان، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويرد الفضل أي الزيادة . وأما إذا كان قصده الاكتساب بذلك فهو صورة الإجارة والجعالة، والصواب أن هذا ليس مستحبًا، وإن قيل بجوازه؛ لأن العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه إذا لم يقصد به إلا المال فيكون من نوع المباحات، ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق. {انتهى بتصرف واختصار من مجموع الفتاوى ج26 ص14 وما بعدها} نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
|