الحمد لله الذي جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، والصلاة والسلام على النبي المجتبى والرسول المرتضى صلى الله عليه وسلم وبعد ،، فإن فريضة الحج تأتي على رأس العبادات التى تحقق التوحيد في أسمى معانيه فمظاهر العبودية في مناسك الحج ، ظاهرة وواضحة فقد جمع الله عز وجل فيه ألوان العبادات القلبية والقولية والبدنية والمالية، فإن أول شئ يبدأ به الحاج في هذه الشعيرة المباركة ويفتتح به ويستهل هي كلمة التوحيد، فهي المقصود الأعظم لهذا الدين كما يشتمل الحج على الصلاة وإنفاق المال والذبح لله عز وجل والصيام لمن لم يجد الهدي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والحلم والشفقة والرحمة وتعليم الناس الخير وجهاد النفس ، وغير ذلك من ألوان العبادة، فأعظم بها من شعيرة وأكرم بها من عبادة. والحج هو قصد البيت الحرام لأداء مناسك الحج أو العمرة، وكان الحج في شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث أمره ربه ببناء البيت والأذان في الناس بالحج كما أخبر الله عز وجل فقال : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [الحج:72-28]، فالحج عبادة جليلة القدر عظيمة الشأن فيها فوائد كثيرة منها غفران الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [رواه البخاري 2/209]، ومنها شهود المنافع العظيمة التى قال عنها الله سبحانه وتعالى: ليشهدوا منافع لهم والمنافع كثيرة دينية ودنيوية، ومنها كذلك ذكر الله في الأيام المعلومات والأيام المعدودات بالتكبير والتلبية والوقوف بعرفة والمزدلفة وذبح القرابين ورمي الجمار والطواف والسعي والمبيت بمنى . ومن منافع الحج العظيمة تعارف المسلمين حين يلتقون في تلك البقاع الطاهرة والمشاعر المقدسة في المسجد الحرام وفي صعيد عرفات وبقية المشاعر، يلتقون في زمن واحد وفي مكان واحد لأداء عبادة واحدة لرب واحد قال تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء:92].
الحج وسلوكيات الجاهلية
استمر الحج بعد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام على الحنيفية السمحة لم تشُبْه شائبة ولكن مع مرور الأيام وتطاول الزمن دخله بعض التغيير في عهد الجاهلية؛ من ذلك: 1 ـ أنهم كانوا يضمنون تلبيتهم الشرك بالله عز وجل حيث يقولون: «لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك» فجعلوا لله شريكاً من عباده فرد الله عليهم بقوله: ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون [الروم:28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً، فإذا لم تخافوا هذا من مواليكم ولم ترضوا هذا لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي؟!. 2 ـ وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك طاعةً أمر الله بها فرد الله عليهم بقوله: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون [الأعراف:28]، أي لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره . ثم أمرهم ربنا سبحانه وتعالى باللباس وستر العورة في الصلاة والطواف وغيرهما فقال سبحانه: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [الأعراف:31]. 3 ـ وكان سكان الحرم لا يقفون مع الناس في عرفة ، بل يقفون في المزدلفة لأنهم بزعمهم من أهل الحرم ولا يجوز لهم الخروج منه ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب في عرفات فرد الله عليهم ذلك وأمرهم بأن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى مزدلفة مع سائر الناس وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فقال سبحانه : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة:199]. فأعاد الله سبحانه وتعالى الحج كما كان على ملة إبراهيم على يد محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم على التوحيد الخالص وباللباس الساتر والوقوف بالمشاعر، وأعلن للناس قبل أن يحج بقوله: «لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» [رواه البخاري4/69] عملاً بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم [التوبة:28] وبقوله تعالى : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود [الحج:26].
مظاهر التوحيد تتجلى في مناسك الحج
لقد أمر الله بأداء الحج والعمرة فقال سبحانه وتعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [البقرة:196]، مما يدل على أن كل حج وعمرة لا يتوفر فيهما التوحيد فليسا مقبولين عند الله. وقد جعل الله مناسك الحج مظاهر لتوحيده، فمن مظاهر التوحيد في الحج: أولا: رفع الأصوات بعد الإحرام بالتلبية لله ونفي الشريك عنه وإعلان انفراده بالحمد والنعمة والملك: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك» يرددها المحرمون بين كل فترة وأخرى حتى يشرعوا في أداء المناسك. فالحج من أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس حيث ينصرف العباد إلى مقتضى الاسترقاق ، وتظهر فيه معاني العبودية المحضة عندما تعظم شعائر الله ، ولذلك لبى أنس رضي الله عنه: «لبيك بحجة حقاً، لبيك تعبداً ورِقًا» ولبى غيره «لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل». والتزم النبي صلى الله عليه وسلم قول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». وكلها إعلان بتوحيد الله عز وجل وإدامة للطاعة والعبودية له ، والاعتراف بفضله سبحانه، وهي في ذات الوقت مجانبة للمشركين الذين كانوا يلبون كما سبق بيانه. والمسلم يستشعر وهو يلبي قيمة العقيدة التي توحد قلوب العباد، ويعلم بتجاوب الكون من حوله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا» [رواه ابن ماجه وصححه الألباني برقم (1292)] فالتلبية يتجلى فيها الإخلاص بأسمى معانيه، فهي كلمات عظيمة لها دلالات كبيرة في تحقيق الإيمان والتوحيد لأنها تعني الاستجابة لله تعالى بالحج كما أمر الله سبحانه، كما تشتمل على معاني المحبة والإجلال والتعظيم لله عز وجل لأن عبارة «لبيك» لا تصدر إلا لمن يحب، ولا يستحق ذلك كمالاً وتقديساً وتعظيماً إلا ربنا عز وجل، فالتلبية من اللب ولب الشئ خلاصته، والتلبية كذلك فيها إثبات لصفات الكمال لله تعالى والإقرار به مثل الكلام والسمع والقرب، كما تضمنت التلبية كل معاني التوحيد لله تعالى بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وكذلك إبطال الشرك والإلحاد. وإعلان التلبية من المسلم هي تهيئة للنفس للاستجابة لدين الله عز وجل وشرعه، والاستعداد لقبول أوامر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أعمال الحج وغيرها والكف عن المحظورات وأن العبد مستعد لإصلاح شأنه ظاهرًا وباطنًا. ثانيًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن الله تعالى أمر بالطواف ببيته، فقال تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق [الحج:29]، مما يدل على أن الطواف خاص بهذا البيت فلا يجوز الطواف ببيتٍ غيره على وجه الأرض ولا بالأضرحة ولا بالأشجار والأحجار، ومن هنا يعلم الحاج أن كل طواف بغير البيت العتيق فهو باطل وليس عبادة لله عز وجل، وإنما هو عبادة لشياطين الإنس والجن، ومن أعجب العجب أن بعض الحجاج يعتقدون أن حجهم لا يكتب له الكمال بل لا يقبل إلا إذا عادوا إلى أوطانهم وطافوا حول أضرحة الأولياء بزعمهم، فبعدًا لقومٍ لا يفقهون. ثالثًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الطواف بالبيت العتيق أن الطائف حين يستلم الركن اليماني والحجر الأسود يعتقد أنه يستلمهما لأنهما من شعائر الله، فهو يستلمهما طاعة لله واقتداءً برسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استلم الحجر وقبله: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك». ومن هنا يعلم المسلم أنه لا يجوز تقبيل شيء من الأبنية والأحجار إلا الحجر الأسود؛ لأن ذلك مخالف لشرع الله، ولأنها ليست من شعائر الله. بل من مناسك الجاهلية. رابعًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن الحاج حينما يفرغ من الطواف ويصلي الركعتين فإنه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية يقرأ (سورة الإخلاص)، لما تشتمل عليه هاتان السورتان من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة ، وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه من خلال هذا الدرس العملي العظيم . خامسًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في السعي بين الصفا والمروة أن العبد يسعى؛ امتثالاً لقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [البقرة:158]. ومن ذلك يتعلم المسلم أنه لا يجوز السعي في أي مكان من الأرض إلا بين الصفا والمروة ؛ لأنهما من شعائر الله. سادسًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن أعظم الذكر الذي يقال في يوم عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير»، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» ، فهذا إعلان في هذا المجمع العظيم وفي هذا اليوم المبارك لتوحيد العبادة من خلال النطق بهذه الكلمة وتكرارها لأجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها فيؤدي أعمال حجه خالصة لله عز وجل من جميع شوائب الشرك. سابعًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج ما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق من ذكره وحده ، قال تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات [البقرة:203] وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الأعمال العظيمة التي تؤدى في أيام منى من رمي الجمار وذبح الهدي وأداء الصلوات الخمس في هذه الأيام المباركة، كل هذه الأعمال ذكر لله عز وجل. فرمي الجمار ذكر لله؛ ولهذا يقول المسلم عند رمي كل حصاة: (الله أكبر)، وذبح الهدي ذكر لله عز وجل، كما قال تعالى: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [الحج:28]، وقال تعالى: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36) لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [الحج:36-37]. ومن هنا يتعلم المسلم أن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، فلا يذبح لقبر ولا لولي ولا لجني أو مخلوق ؛ لأن الذبح عبادة وصرف العبادة لغير الله شرك . ثامنًا: ومن مظاهر توحيد العبادة في الحج أن الله أمر بذكره أثناء أداء مناسكه وبعد الفراغ منها، فقال تعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202) واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون [البقرة:200-203].
شعائر الحج رد على دعاة إتباع العقل
تاسعًا: ومن مظاهر التوحيد أن الحج تحدٍ لعُبَّاد العقل ، ودعوة إلى الإيمان بالغيب وإتباع الأمر المجرد بعيداً عن العادات والمألوفات والحضارة المصطنعة والمجتمع القاسي، فالبيت الحرام يزوره الناس من كل فج عميق، شعثاً غبراً متواضعين لرب ذلك البيت ومستكينين له خضوعاً لجلاله . ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم ولذلك وظف عليهم في الحج أعمالاً لا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية الـم(1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:1-3] والحكمة ظاهرة في الصلاة والزكاة والصيام، أما أعمال الحج فلا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها إلا باعث الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الإتباع فقط . ولذلك قال أنس: لبيك بحجة حقاً تعبداً ورِقًا، ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها. وعباد الرحمن إذا عرض لهم الشيطان بخاطر أو وساوس فقال لهم: سعت هاجر فلماذا تسعى ، ورمى إبراهيم لما عرض إبليس له فلماذا ترمي ؟ فاعلم أنها وسوسة ولابد من إرغام أنف الشيطان ، ولأن تخر من السماء إلى الأرض أهون عليك من أن تجد ما تجد فأنت عبد لله إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [الأعراف:201].
الحج إذعان للواحد الديان
وختامًا فالحج طاعة يتقلب بها الحاج بين المشاعر، يقيم ويرحل ويمكث ويتنقل ويخيم ويقلع ليست له حرية ولا اختيار ولا حكم إلا الامتثال فهو طوع إشارة ورهين أمر ، وهكذا كانت حياة إبراهيم وحياة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، نزول وارتحال ومكث وانتقال وعقد وحل ونقض وإبرام ووصل وهجر لا خضوع لعادة ولا إجابة لشهوة ولا اندفاع للهوى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفه: «كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث إبراهيم». [رواه الترمذي وقال حسن] ولا يملك المسلم في النهاية إلا أن يهتف بقوله تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:162-163]. والحمد لله رب العالمين |