إن أشد ما أخشاه أن نكون في زمن يَـعِـزّ فيه وجود أخٍ واحدٍ في الله يغنمه الواحد منا في زماننا هذا، فينعم برباط الأخوّة الصادقـة التي ندر وجودها، وأُطلقت تساهلاً على مفاهيم دون مرتبتها بكثير. نعم، أقول ذلك خوفاً من وقوع ما قاله الصادق المصدوق: (قلّما يوجد في آخر الزمان درهم حلال، أو أخ يوثق به)(1). خشـيـت ذلك مع أني أتمنى من صميم قلبي عدم وقوع ما في الحديث في زماننا، فنحرم بذلك نـعـمـة الأخـوة الـصادقة التي لم يبق منها غير المعرفة السطحية المقتصرة على الابتسامة، والتلطف في أسلوب الكلام ولا تتعدى ذلك غالباً ـ إن كثرت ـ الملاقاة. ولقد قرأت كلاماً محزناً قاسـيـاً ـ ولـكـنها الحقيقة ـ للإمام الواعظ ابن الجوزي (ت: سنة 597 هـ) ـ رحمه الله ـ يقول فيه(2): (جمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر، أما الأخوة والمصافاة فذاك شـيء نـسـخ فلا يُطمَع فيه) ثم بيّن سبب نسخ وجود الأخوة والصفا لكون السلف كانت همتهم الآخـرة وحـدهـا فصفت نياتهم في الأخوّة والمخالطة فكانت ديناً لا دنيا. أما الآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب إلا ما شاء الله. فانـظـر ـ رحمك الله ـ إلى مقولة هذا الإمام وهو في القرن السادس الهجري؛ حيث يرى بهذه النظرة معنى الأخوة في زمانه، فكيف في زماننا هذا؟ والأصل في كل زمان متأخر عن سابقه وقوع صفة الشرفية للسابق، واقتراب الفتن وأشراط الساعة، والرقة في الدين. ولكن لا يخلـو الأمـر من تنفيس، والخير في أمة نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة. ولعل من أسباب ضعف ربـاط الأخوة في الله غموض الرؤية لدى بعض الناس لمعانيها في زماننا. ولذا رأيت أن أسوق مـن أقوال وصور السلف حول هذا الموضوع ما تنحلّ به حبوة القارئ، ويسيل لعابه عجباً واندهاشاً من هؤلاء الرجال الكبار، لنرى البون الشاسع بين ما قد حققوه من معاني الأخوة الصـادقة فيما بينهم، ونرى بالمقابل ما آلت إليه في زماننا، فنصلح الخلل، وإلا تحقق فينا الحديث الشريف السابق الذكر. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (إذا رزقكم الله ـ عز وجل ـ مودة امرئ مسلم فتشبثوا بها)(3). وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يذكر الرجل من إخوانه في بعض الليل، فيقول: يا طولها من ليلة، فإذا صلى المكتوبة غدا إليه، فإذا التقيا عانقه(4). وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا خرج إلى أصحابه قال: أنتم جلاء حزني(5). ولـمّا أتى عمر الشام استقبله أبو عبيدة بن الجراح، وفاض إليه ألـماً، فالتزمه عمر، وقبّل يده، وجعلا يبكيان(6). وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أَحبّ إخواني إليّ إذا رأيته قَبِلَني، وإذا غبت عنه عذرني(7). وكان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُقبّل رأس أبي بكر(8). ورئي على علي بن أبي طالب -رضـي الله عنه- ثـوب كـأنـه يُكثر لبسه، فقيل له فيه، فقال: (هذا كسانيه خليلي وصفيّي عمر بن الخطاب، إنّ عمر ناصح الله فنصحه الله)(9). ولقي الصحابي حكيم بن حزام عبدَ الله بن الزبير ـ رضي الله عـنهـما ـ بعدما قُتل الزبير فقال: كم ترك أخي من الدّيْن؟ قال: ألفي ألف. قال: عليّ منها ألف ألف(10). ودخل رجل من أصحاب الحسن البصري عليه، فوجده نائماً على سـريـره، ووجد عند رأسه سلة فيها فاكهة، ففتحها، فجعل يأكل منها، فانتبه، فرأى الرجل يأكل، فقـال: (رحمـك الله، هذا والله فعل الأخيار)(11). وقال أبو خلدة: دخلنا على ابن سيرين أنا وعبد الله بن عون، فرحب بـنــا، وقال: (ما أدري كيف أتحفكم؟ كل رجل منكم في بيته خبز ولحم، ولكن سأطعمكم شيـئـاً لا أراه في بيوتكم. فجاء بشهدة، وكان يقطع بالسكين ويطعمنا)(12). وقـال محمد بن واسع: (لا خير في صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا كانوا عبيد بطونهم؛ لأنهم إذا كانوا كذلك ثبّط بعضهم بعضاً عن الآخرة)(13). وقال عثمان بن حكيم الأودي: (اصحب من فوقك، ودونك في الدنيا)(14). وكان بلال بن سعد الأشعري يقول: (أخ لك كلما لقيك ذكّرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً)(15). وكان المحدث القارئ طلحة بن مصرف إذا لقي مالك بن مغول يقول له: (لَلُقياك أحبّ إليّ من العسل)(16). وقال ابن عيينة: سمعت مساور الورّاق يحلف بالله ـ عز وجل ـ: ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله ـ عز وجل ـ فأمنعه شيئاً من الدنيا (17). وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول لأصحابه: يُدخِل أحدكم يده في كُمِّ صاحبه ويأخذ ما يريد؟ قلنا: لا. قال: فلستم بإخوان كما تزعمون(10). وأخيـراً: فـمـن أمثلة أخوة زمن المتأخرين من علمائنا ما كان بين شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ المحدثيـن جمــال الدين المزّي ـ رحمهما الله ـ، فقد تأثر الثاني بشخصية شيخ الإسلام التي كانت قد اكـتـمـلـت، فأعجب به المزي الإعجاب كله، وترافق معه طيلة حياته. قال مؤرخ الإسلام الذهـبـي: (ترافق هو وابن تيمية كثيراً في سماع الحديث، وفي النظر في العلم، وكان يقرر طريقة السلف في السنة..) (18). ولقد أخلص (المزي) لرفيقه (ابن تيمية) الإخلاص كله، ولآرائه التجديدية، وجعله مثله الأعلى، ويظهر ذلك جلياً من خلال دفعه لثمن ذلك من الأذى الذي تعرض له عدة مرات من سجن وعدم تمكينه من التحديــث، ووضع العراقيل عند توليه لرئاسة دار الحديث الأشرفية. ولما توفي شيخ الإسلام (ابن تيمية) مسجوناً بقلعة دمشق لم يسمح لأحد بالدخول أول الأمر إلا بخواص أصحابه منهم (المزي) وكان ممن ساعد في غسله. وبالجانب الآخر كان (ابن تيمية) كـثـيـر الاعتماد على (المزي) وعلمه ومعرفته؛ فحينما خرج من سجنه بـ (مصر) سنة 709 هـ، وجلس في القاهرة ينشر علمه، واحتاج إلى بعض كتبه التي بالشام، كتب إلى أهله كتاباً يطلـب جملة من كتبه، وطلب منهم أن يستعينوا على ذلك بـ (جمال الدين المزي) وسبب ذلـك مـا قـالـه ابن كثير: (فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريد من الكتب التي أشار إليها)(19). وحـيـنما ولي (المزي) أكبر دار حديث بـ (دمشق) وهي الأشرفية سنة 718 هـ، فرح (ابن تيمية) فرحـاً عظيماً بذلك وقال: (لم يَلِ هذه المدرسة من حين بنائها إلى الآن أحق بشرط الواقف منه). وكـان شـرط واقـف الـدار أن يُـقَدّم من اجتمع فيه الرواية والدراية على من اجتمع فيه الرواية فقط، ففضله (ابن تيمية) بذلـك عـلـى عـلـمـاء عـظـام قد تولوا هذه الدار كـ (ابن الصلاح)، و (أبي شامة) و (النووي). وحصل أن أخرج (ابن تيمية) رفيقه (المزي) من السجن بنفسه. وبعدُ: فإن ما سقته من صور الأخوة في الله من حياة سلفنا لجديرة بالتأمل. ولعل من أسباب الفتور الحاصل بين شباب الصحوة ضعف رباط الأخوة الصادقة. فأين واقعنا الذي لا يخلو من المشاحنات والخلافات والبحث عن الزلات من واقع سلفنـا الصالـح ـ رضي الله عنهم ـ: (هيا بنا نؤمن ساعة)؟، و (هيا بنا نبك من خشية الله، فإن لم نجد بكاءً تباكينا علّ الله يرحمنا)؟. وأين الفائدة العلمية ومذاكرة العلم بيننا، مع وجود وسائل الاتصال الحديثة التي تسهّل وتحفز للحرص على لقاء الفائدة؟ نسأل الله صلاح الأحوال والقلوب للفوز بمرضاته إنه مجيب الدعاء. الهوامش : (1) أخـرجـه أبو نعيم في الحلية (4/94) وفي إسناده محمد بن أيوب الرقي، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عزيز الحديث، وله شاهد من حديث حذيفة بلفظ (سيأتي عليكم زمان لا يكون فـيـــه شيء أعز من ثلاثة..) فذكر: (أخ يستأنس به) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/88)، وأبـو نـعـيـم فـي الحلية (4/370) وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وضعفه الأكثر، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن لغيره ـ بإذنه تعالى ـ. (2) الاختراعات العصرية لما أخـبـر به سيد البرية، للغماري، ص 326، وله كلام طويل فلينظر. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخوان)، ص 81، ورجاله ثقات. (4) رواه أحمد في مسنده (123)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص134، ورجاله ثقات. (5) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 135، بإسناد فيه شعبة لم يدرك ابن مسعود والبقية ثقات. (6) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (7/101)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 182 ورجاله ثقات. (7) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 113. (8) أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد لا بأس به، كتاب (الإخوان)، ص 199. (9) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب (الإخوان)، ص 248 بإسناد رجاله ثقات وفيه انقطاع. (10) أخرجه البخاري في صحيحه (6/227). (11) أخرجه ابن أبي الدنيا في (الإخوان)، ص 245. (12) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 239، وأبو نعيم في الحلية (4/269)، بإسناد حسن. (13) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص 100. (14) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 96. (15) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 167، وأبو نعيم في الحلية (5/225)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 136، ورجاله ثقات وصرح الوليد بن مسلم بالسماع في رواية ابن المبارك. (16) أخرجه ابن أبي الدنيا كـمـا في المصدر السابق، ص 138، وأبو نعيم في الحلية (5/17) بسند حسن. (17) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في المصدر السابق، ص 202، وأبو نعيم في الحلية (7/299) بسند حسن. (10) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/187)، وابن أبي الدنيا في الإخوان، ص 203. (18) تذكرة الحفاظ (4/1499)، وانظر مقدمة الدكتور (بشار عواد) لكتاب تهذيب الكمال للمزي. (19) البداية والنهاية (14/54).
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (129)، جمادى الأولى 1419،سبتمبر 1998 .
|