لفضيلة الشيخ/ علي عبد الرحمن الحذيفي ـ إمام المسجد النبوي الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فاتَّقوا الله وأطيعوه، واخشوا يومًا يجازِي الله فيه كلاًّ بعمله، فلا تظلَم نفس شيئًا وإن كان مثقالَ حبّة ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [فاطر:18]. أيّها النّاس، إنَّ الإسلامَ مبنيٌّ على أن لا نعبدَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، فلا نشرِك معه أحدًا في أيٍّ نوع من أنواع العبادةِ الظاهرة والباطنَة، قالَ الله تعالى: ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير [هود:2]، ومبنِيٌّ كذلك على أن لا نعبدَ الله إلاّ بما شرَع، لا نعبده بالبِدَع والمحدثاتِ، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7]، وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رَسول الله : «مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»، و«من أحدَث في أمرنا هذَا ما ليس منه فهو ردّ» رواه البخاري ومسلم. ألاَ وإنَّ مِن أصول الدّين أخوّةَ الإسلام، فأخوّةُ الإسلام رابِطةٌ متينَة ودرع حصينَة ونُصرة مبينة، أخوَّةُ الإسلام بها يتواصَل المسلمون، وبها يتناصرون ويقوَون، وبها يتراحمون ويتعاطَفون، وبها يتوارَثون، وبها يتعاوَنون، وبها يتناصَحون، ذكرها الله تعالى بعد الأمرِ بتقواه فقال عزّ وجلّ: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [الأنفال:1]، وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10]، وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله [التوبة:71]، وعن النّعمانِ بن بشير رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم مثَلُ الجسد إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له الجَسَد بالحمَّى والسّهَر» رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضه بعضًا» [رواه البخاري ومسلم]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابَروا، ولا يبع بعضكم على بيعِ بَعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدرِه ثلاث مرّات ـ، بحسب امرِئٍ من الشّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرَام: دمه وماله وعِرضُه» رواه مسلم. ومن عنايةِ الله العظمى بأخوَّة الإسلام أنَّ الله أمر بالإصلاحِ بين المسلمين إذا شجَر بينَهم خلافٌ والقضاءِ على النزاعِ الذي يقع بينَهم بالعدل والحقِّ والقِسط، ومن بغى واعتَدَى على الأخوَّةِ الإسلاميّة أمَر الله مَن له قدرةٌ أن يقاتِلَه بقدر ما يندَفِع به بغيُه وعدوانه حتى يرجعَ إلى حكم الله تعالى ويدخلَ في حِصن الأخوة الإسلاميّة، قال الله تَعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:9، 10]. ولِعِظَم أمر الأخوَّة الإسلاميّة آخَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرِين والأنصارِ أخوّةً عامّة وأخوّةً خاصّة، فكان يؤاخِي بين المهاجريِّ والأنصاريّ أوّلَ قدومِه إلى المدينة النبويّة، وكانوا يتوارثون بهذه الأخوَّة الإيمانيّة، ثم نسِخَ التوارث بالأخوّة الإسلاميّة فصار التوارُث بالقرابة، وأخبرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ كمالَ الإيمان أن يحبَّ المسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه، فقال : «لا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» رواه البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه. أيّها المسلمون، إنَّ الله تعالى لم يؤكِّد على تقويةِ أواصرِ الأخوّة بين المسلِمين ويقوِّ رَوابِطَها إلاّ لإعزازِ دينِ الله تعالى وحمايةِ مصالح المسلمينَ الدينيَّة والدنيويّة؛ ولذلك أمر الله بالاجتماعِ والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلافِ، فقال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [آل عمران:103]، وقالَ تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [الأنفال:46]، ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «وكونوا عبادَ الله إخوانًا». وإذا اجتمع المسلمون لبحثِ قضاياهم ومشكلاتهم بتوجيهٍ وحضٍّ من دينِهم فهم لا يريدون الظلمَ والعدوان على أحدٍ؛ لأنّ الإسلامَ ينهى عن العدوان وينهى عن الظلمِ كما قال تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [البقرة:190]. والإسلام لا يريد للبشريةِ إلاّ الخير والصلاحَ، والمؤمنون خير الناس للناسِ، وأرحمُ الناسِ بالناس. وأخوّةُ الإسلام يحمِي الله بها العدوانَ على الإسلام، وينصر بها الحقَّ والعدلَ، ويحفظ بها المصالحَ العامّة والخاصّة، قال الله تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم [الأنفال:62، 63]؛ لأن الناسَ لا تأتلِف قلوبهم ولا يجتَمِعون إلاّ على الحقِّ الذي بعَث الله به محمَدًا صلى الله عليه وسلم ، ويقول تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء:92]، ويقول صلى الله عليه وسلم : «المسلِمون تتكافَأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهم، وهم يدٌ على من سِواهم». في وقتٍ تضعضَع فيه حالُ أمّة الإسلام، وهانت على غيرها من الأمَم، وتفرَّقت كلِمتها، وأُهملت قضاياها في المحافِلِ الدوليّة، واشتدَّ الهجومُ على دينِها الإسلاميّ دينِ العدل والرحمة والخيرِ والسلام للبشريّة، وألصِقَ به ما ليس منه، في هذا الوقت تتطلَّع شعوب العالم الإسلاميّ إلى قادة هذه الشعوب أن يقفوا صفًّا واحدًا لصدِّ الهجماتِ الشّرِسة الحاقِدة على عقيدةِ أمّة الإسلام التي هي عقيدةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقيدَةُ الصحابةِ رضي الله عنهم والتابِعين لهم بإحسانٍ ومن تبعهم بإحسان، وأن يدافعوا عن هذه العقيدةِ النقيّة المضيئة، وأن يدافعوا عن أخلاق الأمّة أخلاق الفضائل الإسلاميّة والمكرُمات المحمّدية وأن يظهِروا وجهَ الإسلام الحقيقيّ لغير المسلمين بما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه وبالاستقَامَة على دينه، ويبرِّئوه من كلّ فريةٍ وبدعة مخالفةٍ لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والشّعوب الإسلاميّة تتطلَّع إلى الأفضلِ في كلّ شيء، والإصلاح لا يكون إلاّ من داخل الشعوب الإسلاميّة، نابعٌ من القرآن والسنة، بِتعاون المجتمعاتِ مع حكّامِها وتوافُقهم على مصالحِ الأمّة وتفاهُمِهم، مَع حذَرِهم من العُنف والفِتن المدمِّرة التي لا تخدم إلاّ أعداءَ الإسلام، ومع الحِرص على تحكيم الشريعةِ الإسلاميّة في كلّ صغيرة وكبيرةٍ. وللشعوبِ الإسلاميّة أملٌ ومطلب أن يرحِّب قادَتُها بنصحِ العلماء ومشورَتِهم وتقريبِهم في كلِّ ما يخدم الدين والمجتَمَع، ومِن التَّحدُّثِ بنِعمة الله علَينا أنَّ بابَ المناصحةِ مفتوح بين العلماءِ وبين ولاةِ الأمر في بلادنا وفَّقهم الله، بل بينهم وبين أفرادِ الرعيّة عبرَ قنوات متعدِّدَة، فتحقَّق بذلك مَصالحُ عظيمَة واندفَع مفاسِدُ جسيمة ولله الحمد؛ لأنَّ الشريعةَ توجب ذلك، وهِي مرجِع الجميع، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «الدّين النصيحة، الدِّين النصيحة، الدّينُ النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «للهِ ولكتابه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامَّتِهم». [رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه] ونَدعوا علماء المسلمين أيضًا إلى تبصيرِ الناسِ بمنهَج سلفِ الأمّة منَ الصحابة والتابعِين ومَن تبعهم بإحسان، والدّعوة إلى الله بالحِكمة والموعظة الحسنَة والمجادلة بالتي هي أحسن، وتفقيه الناس وتعليمهم الإسلامَ بالأدلَّة من القرآن والسنّة، فلن يصلح آخرُ هذه الأمة إلاّ بما صلح به أوّلُها، قال الله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون [آل عمران:104-107]. أيّها المسلِمون، إنَّ الله تبارك وتعالى ربَط مصالِحَكم كلَّها وسعادةَ دنياكم وآخرتكم بدينِكم واستِقامتكم عليه، قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:2،3]، وقالَ تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [الأحقاف:13]، وعَن سفيانَ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: «قل: آمنت بالله، ثم استقم» رواه مسلم. واجتماع كلمة المسلمين تتحقَّق بها المصالح كلُّها، وتنتفي معها المفاسد كلّها، ويندَحِر بها كيدُ أعداءِ المسلمين. عبادَ الله، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]، وقد قال : «مَن صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا». فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين. والحمد لله رب العالمين
|