الاشتغال بفهـم القـرآن وتفسيره والتفقّـه فيـه يرقق إحساس المسلـم ويقـوي شعـوره،وينمـي فيه حب الآخرين؛ بحيث يتألم لآلامهم، ويفـرح لفرحهم، ويسعد لسعادتهم. ومن الأساليب القرآنية في التعبير عن هذا الإحساس أن جــعــل قـتـل الـرجــل لغيره قتلاً لنفسه، وجعل إخراج الرجل من داره إخراجاً لنفسه، وجعل ظن السوء بالغير ظناً بنفسه، وجعل لمز الغير لمزاً لنفسه، والسلام على الغير سلاماً على نفسه؛ وكل ذلك ذكره القرآن. قال الله ـ تعالى ـ في سياق أخبار بني إسرائيل: ((وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَـدُون ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفـُـسَــكُـــمْ)) [البقرة: 84، 85].فجعل دم كل فرد من أفرادهم كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسه وانتحر ذاته. قال القرطبي: (ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً، وكانوا كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها)(1). ومثل هذا السياق قوله ـ تعالى ـ: ((فَاقْتُلُواً أََنفُسَكُمْ)) [البقرة: 54] ومعناه: فليقتل بعضكم بعضاً بأن يقتل من لم يعبد العجل عابديه؛ فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه. قـــال القرطبي: (وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عَبَدَة العجل بأن يقتل نفسه) ثم نقل عن الزهري قوله: (أن يقتل من لم يعبد العجل من عبد العجل)(2). وقــال الله ـ تعـالى ـ في سياق هذه الأمة: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] أي: لا يقتل بعـضـكـم بعـضـاً، فجعل قتل الرجل لغيره قتلاً لنفسه، قال القرطبي: (أجمع أهل التأويل على أن المراد بـهــذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد مـنـه)(3). قـال الحافظ ابن كثير: (وهو الأشبه بالصواب)(4)، قال الزمخشري: (شبّه الغير بالنفس لـشـدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين؛ فإذا قتل المتصل به نسباً أو ديناً فكأنما قتل نفـسـه)(5)، وقال الحافظ ابن كثير: (إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة)(6). وقد بـيـّـن الله أن مــن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، فقال: ((..كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأََرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)) [المائدة: 32]. ومـن تعـبـيـرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة: 105]. حكى الفخر الرازي مقالة لعبد الله بـن المبارك أنه قال: (هذه أوْكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه ـ سبحانه ـ قال: ((عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ)) يعني عليكم أهل دينكم، ولا يضركم من ضل من الكفار، بأن يـعـظ بعـضـكم بعضاً، ويُرغّب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات)(7) لأن المؤمنين إخوة في الدين. ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير قوله ـ تعالى ـ: ((فَإذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)) [النور: 61] والمعنى: فليسلم بعضكم على بعض، وهم أهل البيوت التي يدخلونها؛ لأنهم بمنزلة أنفسهم في شدة المحبة والمودة والألفة، ولأنهم منهم في الدين، فكأنهم حين يسلمون عليهم يسلمون على أنفسهم. وقد أنـكـر الشيخ ابن عاشور على من فهم من الآية أن الداخل يسلم على نفسه فقال: (ولقد عكف قوم عـلــى ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقه، فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً، وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب)(8). وهذا هو المأثور عن سعيد بن جبيـر والحـسن البصري وقــتــادة والزهـري؛ حيث قالوا: (فليسلم بعضكم على بعض)(9). ومـن تعبـيـرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)) [الحـجــرات: 11] والإنسان لا يلمز ولا يعيب نفسه، وإنما اللامز يلمز غيره إشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم فكأنما عاب نفسه، فنزّل البعض الملموز منزلة نفس الإنسان لتقرير معنى الإحساس بالأخوة وتقوية الشعور بها. ومن تعبيرات الـقـــرآن عــن الـغـير بالنفس قوله ـ تعالى ـ: ((لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً)) [النور: 12]. المراد بأنفسهم هنا إخوانهم في الديـن والعـقـيـدة، والمـعنى: فهلاّ وقت أن سمعتم حديث الإفك هذا ظننتم بأنفسكم ـ أي: بإخوانكم وأخواتكم ـ ظـنـاً حسناً جميلاً؛ إذ لا يظن المرء بنفسه السوء، وفي هذا التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في الـعـقـيـدة بأنفـسـهم أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء والإحساس الصادق؛ حتى لـكـأن الذي يظن السوء بغيره إنما يظنه بنفسه(10). قال الرازي: (فجعل الله المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور؛ فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم)(11). فهذا الأسلوب القرآني، وهذا الخطاب الرباني يؤكد معنى وحدة الأمة، ويُحدِث في النفس أثراً وإحساساً يبعثها على الامتثال؛ فالمسلم الذي يُربى على هذه المعاني، وهــذه الدقائق القرآنية، لا شك في أنها تؤثر فيه وتغرس في أعماقه هذا الإحساس وهذا الشعور. ومـن تـدبـر هذا الأسلوب القرآني علم أنه لا قوام لهذه الأمة إلا بمثل هذا الشعور وهذا الإحساس، وشـعـور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمُ الآخرين، وظن السوء بهم ظنّ بنفـسـه، والسلام عليهم سلامٌ على نفسه، وعيبهم عيبٌ لنفسه؛ لا فرق في المحافظة على الــروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه، وبين الأرواح والأبدان التي يحيا بها إخوانه قال ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [ النساء: 1] وقـال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عـضــو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(12)، وكل هذه المعاني كامنة في القرآن والتفسير يكشفها ويجلّيها. الهوامش : (1) الجامع للقرطبي (2/19). (2) الجامع للقرطبي (1/376). (3) الجامع للقرطبي (3/136). (4) تفسير ابن كثير (1/524) (5) التحرير والتنوير (18/376). (6) تفسير ابن كثير (1/129). (7) تفسير الرازي (6/118). (8) التحرير والتنوير (18/303). (9) تفسير ابن كثير (3/336). (10) الجامع للقرطبي (6/186). (11) تفسير الرازي (12/178). (12) أخرجه مسلم، البر والصلة (2586).
|