كثرت الفتاوى من حولنا، ودخل حلبتها كل من يريد سواء عن علم أو بجهل، وتعدد المفتون، حتى ليمكننا أن نسمي العصر الذي نعيش فيه الآن بعصر مهرجان الفتاوى. وأصبح للناس مواسم للفتاوى: ففي رمضان، تكثر الفتاوى عن الصوم والزكاة وزكاة رمضان، وفي أشهر الحج تكثر الفتاوى عن مناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة، وفي بقية شهور العام تكون أسئلة الصلاة والطهارة هي المادة الرئيسية للفتاوى. وكل هذه الأسئلة للأسف هي في مبادئ العبادات وأصولها، مما يدل على ضحالة علم المستفتين بالعلوم الشرعية. وحيث إن جميع هذه الأسئلة تدور حول العبادات، فإن النذر اليسير منها يتجه إلى المعاملات!! ونحاول هنا أن نرصد هذه الظاهرة، حتى يمكن أن نضع لها سبل العلاج الملائمة التي تقضي عليها وتمنع تفشيها. مدخل لغوي:[1] الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوى والفتاوي. يقال: أفتيته فَتْوى وفتيا، إذا أجبته عن مسألته. والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام. وتفاتوا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا. والتفاتي: التخاصم. ويقال: أفتيت فلاناً رؤيا رآها، إذا عَبَرَتها له،[2] ومنه قوله تعالى حاكياً عن ملك مصر: ? يَا أَيُّهَا الْمََلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي ? ] يوسف: 43 [.
والاستفتاء لغة: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى: ? وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ? ] الكهف: 22 [. وقد يكون بمعنى مجرد السؤال، ومنه قوله تعالى: ? فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ? ] الصافات: 11 [، قال المفسرون: أي اسألهم.[3]
والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه،[4] وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها. والمفتي لغة: اسم فاعل أفتى، فمن أفتى مرة فهو مفتٍ، ولكنه يحمل في العرف الشرعي بمعنى أخص من ذلك، قال الصيرفي: هذا الاسم موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعَلِم جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن عَلِم مسألة وأدرك حقيقتها، فمن بَلَغ هذه المرتبة سمّوهُ بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما اُستفتي فيه.[5] وقال الزركشي: المفتي من كان عالماً بجميع الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل وهذا إن قلنا بعدم تجزؤ الاجتهاد.[6] أسباب تراجع أثر الفتوى من النفوس: كانت الناس فيما مضى تقيم وزنا كبيرا لعلمائها، وكان لآراء هؤلاء العلماء وزنا كبيرا في حياتهم. أما الآن فلم يعد لفتاوى العلماء تأثير كبير في نفوس الناس. ولا شك أن لضياع هيبة الفتوى من النفوس أسباب متعددة، نذكر منها: @ ضياع الهيبة والنفوذ للشيوخ من نفوس الناس: وهذا العامل يعد في حد ذاته سببا ونتيجة في نفس الوقت. بمعنى أن ضياع الهيبة والنفوذ التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس الناس قد أدى إلى عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن هؤلاء الشيوخ. كما أن عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن الشيوخ قد زاد من ضعف مكانة وتأثير الشيوخ في نفوس الناس. ويحكي لنا التاريخ عن المكانة السامقة التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس العامة. ونذكر في هذا الصدد على سبيل المثال قصة سلطان العلماء: الشيخ العز بن عبد السلام. سار الشيخ إلى مصر فأكرمه ملكها، وولاه الخطابة والقضاء. وكان الحكم في مصر في ذلك الوقت للمماليك، فنظر الشيخ فرآهم لا يزالون في نظر الشرع عبيدا، لم يتحرروا هم، فضلا عن أن يحكموا الأحرار. فأعلن بوصفه القاضي، أنهم سيباعون بالمزاد العلني. وكان نائب السلطنة من المماليك، الذين حكم الشيخ ببيعهم!! وحسبوه يهزل، فإذا هو جاد. فشكوه إلى السلطان، فنهاه فلم ينته. فقال له السلطان كلمة فيها غلظة، فما كان من الشيخ إلا أن حمل أمتعته على حمار، وأركب أهله على حمار آخر. وخرج من مصر. فماذا حدث؟!! لقد صنع بفعلته هذه العجائب!! لقد خرج أهل مصر جميعا، بالضجيج والعويل، يسيرون خلفه. وارتجف البلد، وزلزلت مصر!! وأسرعوا إلى السلطان يقولون له: تدارك ملكك لئلا يذهب بذهاب الشيخ!! فلحقه فأرجعه وأجابه إلى طلبه.[7]
@ تضارب فتاوى المفتين: فتجد للموضوع الواحد أكثر من فتوى متعارضة، مما أضاع أثر الفتوى من النفوس. فقد يسأل أحد الأشخاص عن شيء ما، فيُفتي فيه برأي معين. فإذا ما بدأ في العمل به عن اقتناع، يفاجأ بعد حين بمن يتعجب من هذا العمل، بل ويأتيه برأي آخر قد يكون مضاد للرأي الذي بدأ في العمل به. ولذلك نجد هذا الشخص يتهاون بعد ذلك في السؤال عن أي شيء، أو يعمل بأيسر الآراء دون مراجعة أيٍ من المفتين.
@ خروج التقدم الإنتاجي والتقني من يد المسلمين: كان المسلمون أصحاب حضارة، وكان التقدم الإنتاجي في أيديهم. فلم يكن العرب يقومون بإنتاج أي شيء إلا لما يوافق الشرع. ثم حدثت الانتكاسة التي للأسف خرج بموجبها المسلمون من الحضارة ومن التاريخ!! وانتقلت الحضارة إلى يد الغرب، فأصبح الغرب ينتج ما هو حلال وما هو حرام، وأصبح علينا ملاحقة هذا الإنتاج المادي بالفتاوى. وبالطبع ضاعت هيبة الفتوى أمام بريق المنتج الجديد وإغرائه.
@ التصدي للفتوى ممن ليس بأهل لها: فإذا كان المريض بالقلب يتخير أفضل الأطباء في هذا التخصص، ولا يلجأ لتخصص آخر كالمخ مثلا، فلماذا يقول بالفتوى كل من هب ودب؟ وللأسف فقد أصبح للإعلام من صحافة وقنوات فضائية سطوة كبيرة في توجيه رأي الناس إلى ما تريده، بغض النظر عن الرأي الصحيح للشرع. كما أصبح لبعض الإعلاميين فتاوى كثيرة في موضوعات شتى، بغض النظر عن خلفيتهم الشرعية!!
@ الهزيمة النفسية للمفتين: وهذا عامل في غاية الخطورة. فمعظم المفتين أمام ضغط العوامل السياسية التي تمر بها الأمة الإسلامية، وكثرة دعاوى المستشرقين المغرضة وطعونهم في الإسلام، ومحاولة منهم لكي يبرروا للناس الواقع الذي يعيشون فيه، تجدهم أمام هذه الضغوط يتهاونون في أمر الدين، ويحاولون إضفاء صفات ومعاملات وأحوال جديدة عليه لكي يبرهنون على أنه دين متطور ومناسب لهذا العصر. الإفتاء بين تهيب السلف وتجرؤ الخلف: الذي ينبغي للعالم أن يكون متهيباً للإفتاء، لا يتجرأ عليه إلا حيث يكون الحكم جليا في الكتاب أو السنة، أو يكون مجمعا عليه. أما فيما عدا ذلك مما تعارضت فيه الأقوال والوجوه وخفي حكمه، فعليه أن يتثبت ويتريث حتى يتضح له وجه الجواب، فإن لم يتضح له توقف.
أما الإفتاء بغير علم فهو حرام ومن الكبائر، لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله، ويتضمن إضلال الناس. قال تعالى: ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاْلإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا َلا تَعْلَمُونَ ? ] الأعراف: 33 [، فقرن سبحانه وتعالى القول على الله بغير علم بالفواحش والبغي والشرك. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ينتزعه من العباد. ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضّلوا وأضلوا.[8]
من أجل ذلك كثـر النقل عـن السلف أنهم كانوا إذا سئل أحـدهم عما لا يعلم أن يقـول للسائل: لا أدري، على ما سنرى. وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويعوّد نفسه عليه. ثم يجب عليه أن يعلم يقينا أنه إذا فعل المستفتي بناء على الفتوى أمراً محرّماً أو أدّى العبادة المفروضة على وجه فاسد، حمل المفتي بغير علم إثمه، إن لم يكن المستفتي قصّر في البحث عمن هو أهل للفتيا، وإلا فالإثم عليهما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أُفتي بغير علم، كان إثمه على من أفتاه.[9] ومن هنا فلا مجال للمستفتي للتعلق بمقولة: " علقّها في رقبة عالم " التي شاعت وراجت بين العامة. فيظن المستفتي أنه قد نجا بسؤاله للمفتي وتحليل الأخير أو تحريمه للمسألة.
ولذلك قال العلامة ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى، فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم! وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟!![10]
قال العلامة ابن جماعة في كتابه العظيم الماتع " تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ": وإذا سئل – أي العالم – عن ما لم يعلمه قال: لا أعلمه، أو لا أدري، فمن العلم أن يقول: لا أعلم. وعن بعضهم: لا أدري نصف العلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أغفل العالم " لا أدري " أصيبت مقاتله. وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها. قال محمد بن عبد الحكم: سألت الشافعي رضي الله عنه عن المتعة أكان فيها طلاق أو ميراث أو نفقة تجب أو شهادة؟ فقال: والله ما ندري.[11] وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية: ما منهم من يحدّث بحديث إلاَّ ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلاَّ ودّ أن أخاه كفاه الفتيا.[12] وقال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون.[13] وقال محمد بن المنكدر: العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم.[14] وقال سفيان: أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بدا من أن يفتوا. وقال: أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها، واجهلهم بها أنطقهم فيها.[15] ونُقل عن سفيان وسحنون: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً. وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب. وعن الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري. وعن الهيثم بن جميل: شهدت مالكا سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. وقد نُقل عن الإمام مالك أيضا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه، ثم يجيب. وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة! فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف.[16] وقال الشافعي: ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة، أسكت منه عن الفتيا. وقال أبو حنيفة: لولا الفَرَق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر.[17] وسئل محمد بن القاسم عن شيء، فقال: إني لا أحسنه. فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك. فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه! فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها! فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم!! فقال القاسم: والله لأن يُقطع لساني أحب إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي به.[18] وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة. وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: اُستفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. ثم قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السُراق. قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب، ولا يبدي جوابا بإحسان.[19] وقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه بسنده عن محمد بن سيرين، قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.[20] وقيل: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا تأخذ العلم من صُحفي.[21] تتبُّع الرخص: ذهب عامة العلماء إلى أنه ليس للمفتي تتبع رخص المذاهب، بأن يبحث عن الأسهل من القولين أو الوجهين ويفتي به. ذلك أن الراجح في نظر المفتي هو في ظنه حكم اللّه تعالى، فتركه والأخذ بغيره لمجرد اليسر والسهولة استهانة بالدين، شبيه بالانسلاخ منه، ولأنه شبيه برفع التكليف بالكلية. إذ الأصل أن في التكليف نوعاً من المشقة، فإن أخذ في كل مسألة بالأخف لمجرد كونه أخف، فإنه ما شاء أن يسقط تكليفاً ـ من غير ما فيه إجماع ـ إلا أسقطه. وإن أفتى كـل أحـد بما يشتهي انخرم قانون السياسة الشرعية، الذي يقوم على العدالة والتسوية، وهذا يؤدي إلى الفوضى والمظالم وتضييع الحقوق بين الناس. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: يعمل بمذهب أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع ( يعني الغناء )، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقاً.[22] وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام.[23] وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، أو قال: زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله.[24]
قال ابن سريج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: دخلت على المعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه وكان قد جمع فيه الرخص من زَلَلِ العلماء، وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين! مؤلف هذا الكتاب زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب.[25] هذه الأقوال تعني كذلك أن العامي المقلد، أي الذي ليس لديه علم شرعي ويقلد مذهب مفتيه، يمكن أن يتخذ شيخا واحدا له يفتيه في كل أموره وشئونه. ذلك أن تتبع المفتين والعمل برخصهم سيفضي بالمستفتي إلى الخروج من ملة الإسلام، كما حذر هؤلاء الأفذاذ. وهذا ما نشاهده واضحا جليا في حياتنا المعاصرة. فمع قلة عدد المتفرغين لتلقي العلم الشرعي، وضحالة هذا العلم أساسا، اعتمد معظم الناس في أمور دينهم على استفتاء بعض الأفراد. ونتج عن هذا انتشار الآراء الضعيفة في المذاهب الفقهية بين الناس. كما أصبحت فتاوى الدين تأتي ممن ليس لهم أدنى علم بأمور الشرع، بل كان لمناصبهم أكبر الأثر في انتشار آرائهم، كأن يكونوا رؤساء لتحرير الصحف والمجلات أو محررين فيها أو مذيعين في الفضائيات. على أن الذاهبين إلى هذا القول لم يمنعوا الإفتاء بما فيه ترخيص إن كان له مستند صحيح. قال ابن القيم: لا يجوز للمفتي ... تتبع الرخص لمن أراد نفعه ... فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استُحبّ، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث: بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربة واحدة ... فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم.[26] تشدد المفتي وتساهله: قال النووي: يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه. فمن التساهل ألا يتثبت، ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر. فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره. وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها، لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل. وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد.[27] قال الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يَحمِل الناس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ... بلا إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عنـد العلماء الراسخين ... وقـد رد النبي صلى الله عليه وسلم ( على عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه ) التبتل.[28] وقال لمعاذ رضي اللّه عنه لما أطال بالناس الصلاة: أفتّان أنت يا معاذ؟[29] ... ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا ... ولأنه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بُغّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ... وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.[30] اطمئنان قلب المستفتي قبل العمل بالفتوى: قال ابن القيم: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله ... ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها.[31] والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه ... سواء تردّد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسُّنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها. فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.[32] سبل العلاج نستعرض فيما يلي أهم سبل العلاج: 1- إبعاد مجامع البحوث الفقهية عن السيطرة الحكومية، بحيث يُترك أمر انتخاب أعضائها إلى العلماء الذين يختارون أفضلهم وأعلمهم وأورعهم. ثم التزام جميع المفتين بما يصدر عن هذه المجالس الفقهية من فتاوى والتقيد بها. ولنا في السلف الصالح أسوة، حيث جاء في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب – أحد فقهاء المدينة السبعة رحمه الله تعالى – أن ابن المبارك قال: كانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيصدرون.[33] لذا يحسن إصدار فتاوى جماعية في النوازل التي تحدث للأمة، وهي للأسف كثيرة في عصرنا هذا، فيكون الناس على بينة من أمرهم. 2- كثرة القراءة في تراجم المفتين، وكثرة الإطلاع على أخبار المستفتين، ومعرفة كيف كان ورعهم وتقواهم في أمور الدين. وهذه الأخبار مبسوطة في كتب أصول الفقه في مباحث الاجتهاد والتقليد، وكتب آداب الفتوى، وكتب آداب طلب العلم، وبعض الكتب الفقهية في كتب القضاء فيها. 3- تخلي المفتين عن حب الظهور فإنها مهلكة، والتجرد لله تعالى فيما يصدر عنهم من فتاوى، ومعرفة أنهم بمثابة موقعين عن الله تعالى إلى خلقه، فليخشوا الله وليتقوه، وليعلموا أنهم موقفون بين يديه سبحانه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فليقدروا لهذا اليوم قدره. 4- العمل على نشر العلم الشرعي بين أفراد الأمة، وتشجيع الناس على تلقي هذه العلوم، وتبصير الناس بأهميتها، حتى لا تقع الناس فريسة لمن يتلاعبون بالدين، وتستطيع أن توقفهم عند حدودهم. 5- تيقن أن هذا العلم دين، فليس معنى إحاطة أصحاب العلوم التجريبية ببعض العلوم الشرعية أو نبوغهم في مجالهم أن هذا يعطيهم الحق للتصدي للإفتاء بين الناس. وبحسب أصحاب العلوم التجريبية النبوغ في تخصصاتهم والإبداع فيها والاشتهار بذلك، لكي يفيدون الأمة الإسلامية التي هي أحوج ما تكون إليهم في هذه التخصصات. 26 من ربيع الثاني عام 1426 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 3 من يونيو عام 2005 ).
-------------------------------- الهوامش : [1] وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، الإدارة العامة للإفتاء والبحوث الشرعية، مجموعة الفتاوى الشرعية، ( 1397 ـ 1405هـ )، الجزء الأول. [2] لسان العرب والقاموس المحيط. [3] تفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير. [4] شرح المنتهى، 3/456؛ وابن حمدان، صفة الفتوى والمستفتي، ص 4. [5] بدر الدين الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، 6/305. [6] البحر المحيط، 6/306. [7] بتصرف من: علي الطنطاوي، رجال من التاريخ، ص ص: 252-253. [8] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 1712. [9] حسن. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني: 6068. [10] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/199-200. [11] بدر الدين محمد بن جماعة، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ص: 49. [12] الإمام النووي، المجموع شرح المهذب، 1/72-73؛ ومحمد بن مفلح المقدسي، الآداب الشرعية، 2/158. [13] الآداب الشرعية، 2/155. [14] الآداب الشرعية، 2/159. [15] الآداب الشرعية، 2/160. [16] المجموع شرح المهذب، 1/73. [17] المجموع شرح المهذب، 1/73. والفَرَق: الخوف. [18] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/201. [19] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/190. [20] صحيح مسلم بشرح النووي، 1/119. [21] أي من لا يتلقى العلم الشرعي عن طريق الشيوخ، وإنما عن طريق الكتب ( أي: الصحف ). [22] العلامة الشيخ محمد السفاريني، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، 2/466. [23] السنن الكبرى للبيهقي، 10 : 356، [ ح: 20918 ]. [24] لوامع الأنوار البهية، 2/466. [25] السنن الكبرى للبيهقي، 10 : 356-357، [ ح: 20921 ]. [26] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/205. [27] المجموع شرح المهذب، 1/79-80. [28] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 886. من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. [29] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 266. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. [30] أبي إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 4/607-608. [31] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 1114. من حديث أم سلمة رضي الله عنها. [32] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/236-237. [33] عبد الله بكر أبو زيد، التعالم وأثره على الفكر والكتاب، 50.
|