الموت حق ولو كان أحد سيخلد في الدنيا لكان أولى بها أنبياء الله ورسله، ولكن الله كتب الفناء على الجميع وانفرد هو سبحانه بالبقاء جلَّ في علاه كما قال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (26) {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (27) سورة الرحمن· إذاً فالموت مصيبة لا بد منها ولو طالت المدة ولكن هناك من إذا مات فقدته أمم وهناك من لا يفقده إلا أهله، بل ربما استراح أهله بموته· وحديثنا اليوم عن فقد العلماء الذين هم نور الأمة الذي تستضيئ به عند حدوث الظلمة، وهم الهدى عند حدوث الحيرة، وهم النجاة عند حدوث الخوف والفتنة، وبفقدهم تفقد الأمة جزءاً كبيراً منها غالباً لا يسد، ولقد ثلمت الأمة الإسلامية ثلماً عظيماً بفقد عالم من علمائها، ألا وهو الشيخ العامل والباذل لنفسه ووقته، ولا غرو فهو الشيخ ابن الشيخ ابن الشيخ ابن الشيخ ابن الشيخ ابن الشيخ ابن الشيخ، وأعني الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب رحم الله الجميع· والشيخ معروف لدى الجميع وقد تولى مناصب عدة في دارة الإفتاء ووزارة العدل وبذل للأمة الشيء الكثير، ولست بصدد الحديث عن سيرته فالمعروف لا يعرف وإنما حسبي أن أذكر بعض ما ورد في فقد العلماء فقد جاء في بيان عِظم مصيبة الأمة بفقد العلماء· قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } (41) سورة الرعد · قال جمع من المفسرين: نقص الأرض بموت العلماء ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"· وقد دل هذا الحديث على أن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء· وما ورد عن السلف في ذلك ما جاء عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهما - رضي الله عنهم أجمعين - قولهم: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار"، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: "وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم؟"· وقد أخرج الدارمي في سننه قول سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس" روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما مات زيد بن ثابت قال: "هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليو علم كثير" وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "تعلموا العلم قبل أن يقبض العلم، وقبضه أن يذهب بأصحابه"، إلى أن قال: فما لي أراكم شباعاً من الطعام، جياعاً من العلم "جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر" وروى أحمد والدارمي وغيرهما عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة والملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"· قال أبو حاتم ابن حبان رضي الله عنه: "في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا هم الذين يعلمون علم النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من سائر العلوم ألا تراه يقول العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا إلا العلم وعلم نبينا صلى الله عليه وسلم سنته فمن تعرى عن معرفتها لم يكن من ورثة الأنبياء"· قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الماتع مفتاح دار السعادة: قوله: "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وأورثوا العلم" هذا من كمال الأنبياء وعظم نصحهم للأمم وتمام نعمة الله عليهم وعلى أممهم أن أزاح جميع العلل وحسم جميع المواد التي توهم بعض النفوس أن الأنبياء من جنس الحكام الذين يريدون الدنيا وملكها فحماهم الله سبحانه وتعالى من ذلك أتم الحماية· ثم لما كان الغالب على الناس أن أحدهم يريد الدنيا لولده من بعده ويسعى ويتعب ويحرم نفسه لولده سد هذه الذريعة عن أنبيائه ورسله وقطع هذا الوهم الذي عساه أن يخالط كثيراً من النفوس التي تقول: فلعله أن لم يطلب الدنيا لنفسه فهو يحصلها لولده فقال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا هو صدقة"، فلم تورث الأنبياء ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم· ومنه قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } (16) سورة النمل · فهو ميراث العلم والنبوة لا غير وهذا باتفاق أهل العلم من المفسرين وغيرهم وهذا لأن داود عليه السلام كان له أولاد كثيرين سوى سليمان فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمان مختصاً به· وأيضاً فإن كلام الله يصان عن الإخبار بمثل هذا فإنه بمنزلة أن يقال: مات فلان وورثه ابنه ومن المعلوم أن كل أحد يرثه ابنه وليس في الإخبار بمثل هذا فائدة، وأيضاً فإن ما قبل الآية وما بعدها يبين أن المراد بهذه الوراثة وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (15) سورة النمل {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } (16) سورة النمل · وإنما سيق هذا لبيان فضل سليمان وما خصه الله به من كرامته وميراثه ما كان لأبيه من أعلى المواهب وهو العلم والنبوة { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (16) سورة النمل · وكذلك قول زكريا عليه الصلاة والسلام {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} (5) {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (6) سورة مريم · فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله وإلا فلا يظن نبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوه ماله فيسأل الله العظيم ولداً يمنعهم ميراثه ويكون أحق به منهم وقد نزه الله أنبياءه ورسله عن هذا وأمثاله فبعداً لمن حرف كتاب الله ورد على رسوله كلامه ونسب الأنبياء إلى ما هم براء منزهون عنه والحمد لله على توفيقه وهدايته· فالعلماء ورثوا العلم، فبه يسوسون العباد والبلاد والممالك فموتهم فساد لنظام العالم"· وعن الحسن قال: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما طرد الليل والنهار" رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله· وعن أيوب السختياني قال: "إنه ليبلغني موت الرجل من أهل السنّة، فكأنما سقط عضو من أعضائي" (رواه أبو نعيم في الحلية)· وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (ص:47) "لما كان صلاح الوجود بالعلماء، ولولاهم كان الناس كالبهائم، بل أسوأ حالاً، كان موت العالم مصيبة لا يجبرها إلا خلف غيره له، وأيضاً فإن العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك، فموتهم فساد لنظام العالم، ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم خالفاً عن سالف يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده· وتأمل إذا كان في الوجود رجل قد فاق العالم في الغنى والكرم، وحاجتهم إلى ما عنده شديدة وهو محسن إليهم بكل ممكن ثم مات، وانقطعت عنهم تلك المادة، فموت العالم أعظم مصيبة من موت مثل هذا بكثير، ومثل هذا يموت بموته أمم وخلائق"· ولا شك أن وجود العالم المحقق بين الناس غنيمة عظيمة، يستفيدون من نصحه، ويستضيئون بنور علمه، فإذا فقدوه شعروا بالفراغ الواسع· ولقد أبدع الشاعر عندما قال:
أهكذا البدر تخفي نوره الحفر *** ويفقد العلم لا عين ولا أثر خبت مصابيح كنا نستضئ بها *** وطوحت للمغيب الأنجم الزهر واستحكمت غربة الإسلام وانكسفت *** شمس العلوم التي يهدى بها البشر تخرّم الصالحون المقتدى بهم *** وقام منهم مقا المبتدأ الخبر فلست تسمع إلا كان ثم مضى *** ويلحق الفارط الباقي كما غبروا
بقلم الشيخ خالد بن عبدالله الشايع إمام وخطيب جامع الحقباني بالبديعة Aroob60@hotmail.com
|