في البلد العربي الذي كنت أعمل فيه كانت تجمعني صداقة بزملاء من سبع دول عربية تقريبا. وكثيرًا ما كنا نتجاذب أطراف الحديث حول شجون وهموم ومشاكل بلداننا ونحن في الغربة. وعقب كل نقاش كنت أخرج بنتيجة واحدة خلاصتها: أننا كلنا في الهم عرب.
تسليات أطفال
فما زلت أذكر ذلك الصديق السوري الذي كان يحكي لنا عن قصص الفساد الطاغي في بلاده بحرارة ومرارة وسخرية تجعلنا لا نملك إلا أن نفتح أفواهنا دهشة وعيوننا ألمًا. وما زلت أذكر كيف كان يقاطعه زميلنا الفلسطيني وهو يحكي عن الفساد "المسدس" في بلده , وكيف كان بلدياتي المصري يكفيني مئونة الرد ويتدخل ويحكي عما هو أفظع وأشنع , وكيف كان صديقنا الأردني ينظر إلي الجميع شَذْرًا وهو يلوي شفتيه قائلا :
" يا زلمة أنت وهو والله هذا الذي تحكونه ما هو
إلا تسليات أطفال مقارنة بما يحدث في بلادنا "
فلا يملك زميلنا الخليجي إلا أن يستجمع شجاعته ويزيح طرفي شماغه للخلف ويهز رأسه ويتنهد بتنهيده (شقية) تقول أكثر وأكثر مما قاله الجميع . ونظل نسمع قصصا وحكايات عن الفساد الطاغي في بلادنا العربية أبطالها أهل الحكم , وأبنائهم , وذويهم , وأصهارهم , وعائلاتهم , ودوائرهم , ودوائر دوائرهم . وفي كل مرة كانت تترسخ لدي نفس النتيجة : أننا كلنا في الهم عرب .
حَمَلَة المباخر
وعقب أحداث تونس الأخيرة ونجاح ثورتها , وهروب طاغيتها , وخروج المتأثرون بها في العديد من بلادنا العربية وهي تريد الحياة , وتريد أن تحطم هذه القيود التي فرضت عليها ( وبالطبع كان آخرها تلك المظاهرات الحالية في مصر ) . كان الصادم للرأي العام خروج حملة مباخر الأنظمة العربية محاولين تشكيل عقلية شعوبهم بأن هناك فرق - وفرق شاسع جدا - بين حالة بلدانهم والحالة التونسية , وأنه لا وجه للمقارنة على الإطلاق بين الحالتين, وكأن الفساد في تونس صنع في اليابان , بينما الفساد في غير تونس صنع في تايوان . (مع الاعتذار للدولتين) . ونسى هؤلاء جميعا أنه لم يعد يجمعنا اليوم كأمة عربية إلا أننا جميعا أصبحنا في الهم عرب.
استخفاف لا يليق
في مصر - مثلاً - قالوا إن تحذيرات انتشار عدوى تونس في مصر كلام فارغ , وفي اليمن قالوا إن الحالة اليمنية تختلف عن الحالة التونسية , وفي سوريا قالوا إن سوريا ليست تونس , وفي الجزائر قالوا هناك فرق , وفي الكويت قالوا تشبيه الكويت بتونس خطأ كبير , وفي الأردن قالوا إن تشبيه الأردن بتونس كتشبيه التفاحة بالبرتقالة . والحقيقة أن هذا كله استخفاف لا يليق بعقول الشعوب.
الفساد فساد
والحقيقة أنه لا فرق. لا فرق على الإطلاق بين فساد في الشمال أو في الجنوب , ولا في المشرق أو في المغرب . ولا يوجد مفسد كبير وآخر صغير . فالفساد فساد , والمفسد مفسد . وكل مظلمة تقع على إنسان لابد وأن يكون وراءها حالة فساد , وكل ضرر يلحق بإنسان أو حيوان- أو حتى الحجر أو الشجر - فلابد وأن يكون وراءها مفسد .
في انتظار بوعزيزي
الحقيقة الأكبر أن بلادنا العربية يضربها الآن حالة من الفساد المتبجح في شتى مناحي الحياة : أشكاله واحدة , صوره متطابقة , وسائله متشابهه , أهدافه هي هي , ولا مجال لتجميل الصورة أو لتخفيف حدة قتامتها من رجال النظام هنا أو هناك . كل ما في الأمر إن هذا الفساد فقط ينتظر بوعزيزي جديد ليحوله من همس خفي في المنتديات إلي حقائق تصدح بها الجرائد والفضائيات .
حتى لا تشغلنا الفروع
إنني أخشى - في مرحلة ما بعد تونس - أن تنشغل جماهيرنا العربية بالفروع وتنسى الأصول. فما نحتاجه في الفترة القادمة ليس فقط الإطاحة برئيس , أو تغيير حكومة , أو تغيير نظام , أو تكوين حكومة وحدة وطنية , أو القيام بمظاهرات ضد الفساد هنا وهناك , ولكن ما يجب أن يشغلنا في المرحلة القادمة كتحد كبير في كل مكان هو إعلان الحرب على الفساد والمفسدين , وعدم السماح لحاكم أو مسئول بعد اليوم أن يتربح من منصبه قيد أنملة على حساب تعاسة ومعانة شعبه . ليكن هذا شغلنا الشاغل , ومشروعنا الكبير , وهمنا الأكبر . ألسنا متفقين على أنه لم يعد يجمعنا اليوم سوى أننا كلنا في الهم عرب ؟
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com