بسم الله الرحمن الرحيم
أحداث مصر
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
ففي جامع الترمذي عن الزبير بن عدي قال: "دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: «مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» سَمِعْتُ هَذَا مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم.
دلَّ هذا الحديث النبوي على أنَّ الابتلاء بطواغيت هذا العصر أشدُّ من ابتلاء السابقين بالحجاج بن يوسف، وكلُّ من ذاق معتقلات هؤلاء ليؤكد على هذا المعنى الذي يستفاد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنَّ من هؤلاء الطغاة الذين كانوا فتنةً للذين آمنوا رئيس مصر: حسني مبارك([1]).
لقد أحببت في هذه السطور أن أقف سبع وقفات مع أحداث مصر وثورة شبابها المبارك..
الوقفة الأولى: حب السلطة والجاه سبب بلاء إخواننا بمصر
فالطاغية لا يريد أن يبرح منصبه، ولا أن يغادر كرسيَّه، وذلك لعظيم حرصه على الرئاسة.
وقد صحَّ في جامع الترمذي، عن كعب بن مالك الأنصاري t، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». ولهذا الإفساد الذي يُلحقه حبُّ السلطة بالدين كثرت الأحاديث التي ينهى فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرص عليها..
فقد ثبت أنه قال لعبد الرحمن بن سمرة t: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها» متفق عليه.
وقال لأبي ذر t: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» رواه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري t أن رجلين قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أمِّرْنا. فقال عليه الصلاة والسلام: «إنا لا نؤتي أمرنا هذا من سأله، ولا من حرَص عليه» رواه البخاري.
وفيه أيضاً عن أبي هريرة t، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة». «نعمت المرضعة»: مثل ضربه للإمارة وما يصل إلى الرجل من المنافع فيها واللذات، والمراد بقوله: «بئست الفاطمة» التذكير بالموت الذي يهدم عليه تلك اللذات ويقطع منافعها عنه.
وتأمل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود والترمذي في شأن القضاء: «من ولي القضاء أو جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين»، هذا في القضاء، فكيف بتحمُّل مسؤولية أعباء دولة؟!
قال عوف بن مالك t: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي»؟ قال: فناديت بأعلى صوتي: وما هي يا رسول الله؟ قال: «أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل، وكيف يعدل مع قريبه»؟ رواه البزار والطبراني في الكبير.
وفي المسند وصحيح ابن حبان قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «ليُوشكن رجل أن يتمنى أنه خَرَّ من الثريَّا ولم يلِ من أمرِ الناس شيئاً».
ولهذا كله قال بعض السلف: "ما حرص أحد على ولاية فعدل فيها".
لقد نظر سليمان بن عبد الملك إلى الناس يوم عرفة وبجواره مستشاره: عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال سليمان بفخر: كل هؤلاء تحتي. فقال له المستشار الصالح: وكلُّهم خصماؤك يوم القيامة! فبكى سليمان.
الوقفة الثانية: الظالم بعيد بغيض
فمن ذا الذي يرى هذا الطاغية أو يسمع عنه ولا يضيق بذكره صدرُه؟!
وقد قال تعالى: }وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ{ [آل عمران/57].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ» رواه أحمد.
ومن أبغضه الله زرع بغضه في قلوب عباده، ففي الصحيحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ».
قال طاوس بن كيسان رحمه الله -تلميذ لابن عباس رضي الله عنهما- قال: كنت جالساً عند المقام، فسمعت الجلبة، -يعني : الضجة، فالتفتُّ- فرأيت الحجاج وحرسه، فقلت: اللهم لا تمتعه بصحته ولا بشبابه. وهذه الدعوة هي الشاهد من القصة. فلما جلس الحجاج بعد أن أدَّى الركعتين، أتى رجل فقير من أهل اليمن، وقام يطوف بالبيت، ولم يعلم أنَّ الحجاج بن يوسف عند المقام، وفي أثناء طواف هذا الفقير، نشبت حربة بثوب هذا الفقير اليمني، ثم وقعت على بدن الحجاج، ففزع الحجاج وقال: خذوه، فأخذه الجنود، ثم قال: قرِّبوه مني، فقربوه منه، فقال الحجاج لهذا الفقير المؤمن : أعرفتني؟ قال: ما عرفتك. قال الحجاج: من واليكم على اليمن؟قال الفقير: محمد بن يوسف، أخو الحجاج، ظالم مثله!! قال: كيف تركته في اليمن؟ قال الفقير: تركته سميناً بطيناً. قال الحجاج: ما سألتك عن صحته، إنما سألتك عن عدله. قال الفقير: تركته غشوماً ظلوماً. قال الحجاج: أما علمت أنه أخي؟ أما تخاف مني؟ فقال الفقير: أتظن أنه بانتسابه إليك أعز مني بانتسابي إلى الله؟
إنّ الظالم لن يفلح سعيه، ولن يوفق في أمره، قال تعالى :} إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ [الأنعام/21و135، ويوسف/23، والقصص/ 7].
الوقفة الثالثة: لا يجوز لأعوان الظلمة أن يعاونوه على ظلمه.
كيف يسمح آدمي لنفسه أن يطيع طاغيةً فيقتلَ أخاه المسلم!! كيف يستجيب أفراد الشرطة إلى قتل إخوانهم وأرحامهم بسبب هذا الطاغية؟!
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن عجرة t، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بواردٍ عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض».
ومما استقر من السنة النبوية في أذهان الناس كلِّهم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه أحمد. وفي سنن الترمذي: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ عَلَيْهِ وَلَا طَاعَةَ».
الوقفة الرابعة: أين المفرُّ من تبعة الدماء التي أريقت يا مبارك؟
أين المفرُّ والله يقول: }وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا{ [النساء/93].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي المقتول متعلِّقا رأسَه بإحدى يديه، مُتَلَبِّبا قاتلَه باليد الأخرى، تشخب أوداجُه دما حتى يأتيَ به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني! فيقول الله عز وجل للقاتل: تعِست. ويذهب به إلى النار» رواه الطبراني.
وعن البراء بن عازب t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» رواه الترمذي وابن ماجه. وللترمذي: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ».
الوقفة الخامسة : لا سبيل للأمن من بطش الله، ومن ثورة الشعوب إلا بإقامة العدل
قال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا{ [النساء/58]. فالعدل أساس الحكم في الإسلام، كما أن الأمانة - بكل مدلولاتها- هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي.
وقال: }إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ{ [النحل/90].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل» رواه الترمذي.
بالعدل يعطف الله قلوب الرعية على الإمام، ويأمن من ثورتهم وعصيانهم وتمرُّدهم وبطشهم، ولله درُّ حافظ إبرهيم وهو يقول في عمريته:
وَرَاعَ صَاحِبَ كِسْـرَى أَنْ رَأَى عُمَرًا --- بَـيْنَ الرَّعِيَّةِ عُطْلًا وَهوَ رَاعِيـــهَا
وَعَهْدُهُ بِمُلُوكِ الْفُـرْسِ أَنَّ لَـــهَا --- سُورًا مِنَ الْـجُنْدِ والْأَحْرَاسِ يَـحْمِيهَا
رَآهُ مُسْتَغْرِقًا في نَوْمِـهِ فَــــرَأَى --- فِـيهِ الـجَلَالَةَ فِـي أَسْمَى مَعَانِـيهَا
فَوْقَ الثَّرَى تَـحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلًا --- بِبُرْدَةٍ كَادَ طُـــولُ العَهْدِ يُبْلِـيهَا
فَهَانَ في عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْــــبِرُهُ --- مِنَ الأَكَاسِرِ والدُّنْـيَا بِأَيْــــدِيهَا
فقال قولة حق أصبحت مثـــلا --- وأصبح الجيل بعد الجيل يَرويـــها
أمنت لما أقـــمت العدل بينهمُ --- فنمت نوم قريــــر العينِ هانيها
الوقفة السادسة: الأمن من أعظم نعم الله، ويجب علينا أن نحافظ عليه
قال تعالى: } وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{ [البقرة/126]، فبدأ بالأمن قبل الرزق لسببين:
الأول: لأن استتباب الأمن سبب للرزق، فإذا شاع الأمن واستتبَّ ضرب الناس في الأرض، وهذا مما يدرُّ عليهم رزق ربهم ويفتح أبوابه.
الثاني: ولأنه لا يطيب طعام ولا يُنتفع بنعمة رزقٍ إذا فُقد الأمن.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» رواه الترمذي.
الوقفة السابعة: إن الواجب الشرعي يملي علينا أن نكثر من الدعاء لإخواننا بمصر
فاللهم أزل حكم مبارك، وأرنا فيه عجائبَ قدرتِك، اللهم أرنا فيه ما تسبب به من ضرر لحق المسلمين في غزة، اللهم احقن دماءَ إخوانِنا في مصر، وأخمد الفتنة في بلادهم، ومكن لهم، وثبتهم، وانصرهم، وألف بينهم، واجمع على الحق كلمتهم، وافضح المندسين في صفهم، وحقق مطلبهم، اللهم كن لهم، واشف مريضهم، وداو جريحهم، واغفر لمن مات منهم. اللهم ولِّ عليهم خيارهم، ولا تول عليهم شرارهم.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------
[1] / اسمه: محمد حسني مبارك، ولقد أكرم الله اسم نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يدعى هذا الشقيُّ به.