الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده رحمة بهم وإحسانًا، وأجزل لهم ثوابها، فكانت بالفعل خمسًا وبالثواب خمسين فضلاً منه وامتنانًا، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد: فإن للصلاة في الإسلام، بعد التوحيد منزلة رفيعة، لا تدانيها منزلة أي عبادة أخرى، لذا أردت أن أُذكر نفسي وإخواني الكرام بتعظيم قدر الصلاة، فأقول وبالله التوفيق: 1- الصلاة أول فريضة بعد التوحيد: قال اللَّه تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة [البينة: 5]. روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب». [البخاري 4347، ومسلم 19] 2- افتراض الصلاة على الأمم السابقة: قال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة [إبراهيم: 37]، وقال جل شأنه عن موسى وهارون عليهما السلام: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة [يونس: 87]، وقال اللَّه تعالى عن عيسى عليه السلام: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [مريم: 30، 31]، وقال سبحانه وتعالى عن إسماعيل عليه السلام: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا [مريم: 54، 55]. 3- افتراض اللَّه الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة: مما يدل على تعظيم قدر الصلاة في الإسلام أن اللَّه تعالى قد افترضها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة وبدون واسطة من الملائكة الكرام، وذلك حينما عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة. روى الشيخان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يتحدث عن رحلة الإسراء والمعراج: ففرض اللَّه على أمتي خمسين صلاة. [البخاري 349، ومسلم 162]، ثم خففها اللَّه برحمته إلى أن صارت خمسًا في العمل وخمسين في الثواب. 4- الصلاةُ أحد أركان الإسلام: روى الشيخان عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان». [البخاري 8، ومسلم 16] وروى الترمذي عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟» قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد». [حديث صحيح: صحيح الترمذي 2110] 5- الصلاة أول ما يُحاسب اللَّه عليه العبد من الأعمال يوم القيامة: روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من الفريضة شيئًا قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي مِنْ تطوع، فيُكملُ بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك». [حديث صحيح: صحيح الترمذي 337] 6- الصلاة أفضل الأعمال عند اللَّه بعد التوحيد: روى الشيخان عن عبد اللَّه بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أحبَّ إلى اللَّه ؟ قال: «الصلاة على وقتها». قال: ثم أي ؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أيّ. قال: «الجهاد في سبيل الله». [البخاري حديث 527، ومسلم حديث 85] 7- الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم: روى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُبب إليِّ من الدنيا: النساء والطيب، وجُعل قرة عيني في الصلاة». [حسن صحيح: صحيح النسائي للألباني 3949] 8- المحافظة على الصلاة آخر وصية للنبي صلى الله عليه وسلم: روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة، واتقوا اللَّه فيما ملكت أيمانكم». [صحيح: صحيح أبي داود 4295] 9- الأمر بتعليم الأطفال الصلاة:مما يدل على منزلة الصلاة في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الآباء بتعليم أبنائهم الصغار الصلاة مع أمرهم بالمحافظة على أدائها منذ طفولتهم، مع ضربهم على تركها تهاونًا ضربًا غير مؤذٍ، مع أنهم غير مُكلفين، وذلك حتى يعتادوا على أداء الصلاة في باقي مراحل حياتهم. روى أبو داود عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع». [حسن صحيح: صحيح أبي داود 466] 10- الصلاة صُلة بين العبد وربه: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ناقصة) ثلاثًا، غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال اللَّه تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال اللَّه تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال اللَّه تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». [مسلم 395] روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بُصاقًا في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبل وجهه، فإن اللَّه قِبَل وجهه إذا صلى». [البخاري 406] 11- جميع أعمال الصلاة توحيد وتعظيم لله تعالى: قال محمد بن نصر المروزي رحمه اللَّه: لا عمل بعد توحيد اللَّه أفضل من الصلاة لله، لأنه افتتحها بالتوحيد والتعظيم لله بالتكبير ثم الثناء على اللَّه وهي قراءة الفاتحة، وهي حمد لله وثناء عليه وتمجيد له، ودعاء، وكذلك التسبيح في الركوع والسجود والتكبيرات عند كل خفض ورفع، كل ذلك توحيد لله وتعظيم له، وختمها بالشهادة له بالتوحيد ولرسوله بالرسالة، وركوعها وسجودها خشوعٌ له، وتواضع، ورفع اليدين عند الافتتاح والركوع ورفع الرأس، تعظيم له، وإجلال له، ووضع اليمين على الشمال بالانتصاب لله، تذلل له وإذعانٌ بالعبودية. [تعظيم قدر الصلاة للمروزي ج1 ص268] 12- مَدْح اللَّه للمحافظين على الصلاة: ومما يدل على المنزلة العالية للصلاة في الإسلام أن اللَّه تعالى عندما مَدَحَ عباده المؤمنين، بدأ بذكر الصلاة قبل أي عمل آخر، قال سبحانه: قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون [المؤمنون: 1، 2]، ثم ذكر سبحانه باقي الأعمال وختمها بذكر المحافظة على الصلاة، فقال جلّ شأنه: والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [المؤمنون: 9- 11]. وقال سبحانه مادحًا أهل الصلاة: إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21) إلا المصلين (22) الذين هم على صلاتهم دائمون [المعارج: 19- 23]. 13- التحذير الشديد لمن تهاون بالصلاة: إن منزلة الصلاة في الإسلام رفيعة، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن والسنة من التحذير الشديد من إضاعتها والتهاون في أدائها، قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا [مريم: 59]، روى ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز: «لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت». [تفسير الطبري ج16 ص98]، وقال سبحانه: فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يراءون (6) ويمنعون الماعون [الماعون: 4- 6]. روى مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. [مسلم 82] 14- الوصية بالاستعانة بالصلاة على جميع أمور الدنيا والآخرة:قال المروزي - رحمه اللَّه - أمر اللَّه عباده أن يفزعوا إلى الصلاة ويستعينوا بها على كل أمر من أمور دنياهم وآخرتهم، ولم يخص الاستعانة بها شيئًا دون شيء، فقال: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [البقرة: 45]، وهم المنكسرة قلوبهم إجلالاً لله ورهبة منه، فشهد لمن حقت عليه أن يقيمها له، إنه لمن الخاشعين. [تعظيم قدر الصلاة للمروزي ج1 ص218] روى أبو داود عن حذيفة بن اليمان قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى». [حديث حسن: صحيح أبي داود 1171] 15- الصلاة تؤدى بالقلب مع جميع الجوارح: قال المروزي - رحمه اللَّه - من الدليل على عظم قدر الصلاة وفضلها على سائر الأعمال أن كل فريضة افترضها اللَّه، إنما افترضها على بعض الجوارح دون بعض، ثم لم يأمر بإشغال القلب بها إلا الصلاة، فإنه أمر أن تقام بجميع الجوارح، وذلك أن ينتصب العبد ببدنه كله ويشغل قلبه بها ليعلم ما يتلو وما يقول فيها، ولم يفعل ذلك بشيء من الفرائض، لم يمنع أن يشتغل العبد في شيء من الفرائض بعمل سواه إلا الصلاة وحدها، فإن الصائم له أن يلتفت وينام ويتكلم بغير ذكر الصوم، ويعمل بجوارحه ويشغلها فيما أحب من منافع الدنيا ولذاتها مما أُحلَّ له، والمقاتل في سبيل اللَّه له أن يلتفت ويتكلم، والحاج في قضاء مناسكه قد أبيح له أن يتكلم كذلك فيما بين ذلك وينام ويشتغل بما أحبَّ من منافع الدنيا المباحة له، وله أن يتكلم في الطواف وكذلك إعطاء الزكاة وجميع الطاعات له أن يعمل فيها ويتفكر في غيرها. [تعظيم قدر الصلاة للمروزي ج1 ص171: 172] 16- الصلاةُ تشتمل على معظم أنواع العبادات: تشتمل الصلاة على الاعتقادات القلبية كالانقياد والإخلاص والمحبة والخشوع والمراقبة لله تعالى، وتشتمل على أقوال اللسان من الشهادتين وتلاوة القرآن والتسبيح وسائر أنواع الذكر، وتشتمل الصلاة أيضًا على عمل الجوارح من الركوع والسجود والقيام والرفع والخفض وغير ذلك، وتضمن الصلاة أيضًا كثيرًا من الشرائط والفضائل منها: الطهارة الحسية من الأحداث والأنجاس، والطهارة المعنوية من الإشراك والفحشاء والمنكر، وغير ذلك مما لم يجتمع في غيرها من العبادات. [معارج القبول ج2 ص42] 17- الصلاة تميز بين المؤمنين والمنافقين في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فإن الصلاة ثقيلة على المنافقين، قال سبحانه إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [النساء: 142] روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا». [البخاري 657، ومسلم 252] وأما في الآخرة فإن المنافقين لا يستطيعون السجود إذا أمروا بذلك، قال تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون [القلم: 42، 43]. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا». [حديث 4919] 18- النار لا تحرق آثار السجود: قال المروزي رحمه اللَّه: من فضل الصلاة على سائر الأعمال أن من دخل النار من المؤمنين لم يجدوا شيئًا من الأعمال التي عملوها بجوارحهم تمنع شيئًا من أجسامهم من الاحتراق إلا السجود لله في الدنيا، فإن النار لا تصيب مواضع السجود من المصلين خاصة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. [تعظيم قدر الصلاة ج1 ص292] روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فرغ اللَّه من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا، ممن أراد اللَّه أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا اللَّه، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم اللَّه على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا (احترقوا) فيُصبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل». [البخاري 7437، ومسلم 182] وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |