الحمد للَّه الواحد الأحد، حمى عباده المؤمنين وأولياءه المتقين من كافة الشياطين؛ شياطين الإنس والجن، فبقدر قرب العبد من ربه يحتمي بحمايته وينجو من عدوه. فإن عداوة الشيطان للإنسان قديمة، أبى السجود لآدم عليه السلام، وتوعد ذريته بالإضلال والفساد. قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير {فاطر: 6}، وقال سبحانه: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين {يس: 60}، وقال عز وجل: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا {النساء: 117- 120}، وقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم {النور: 21}. وقال عز وجل: وكان الشيطان للإنسان خذولا {الفرقان: 29}. وقد حصن الله العبد ضد الشيطان بالإخلاص، ومتابعة المرسلين، ودوام الذكر، ولزوم الجماعة، وبين سبحانه وتعالى أن الفرقة والاختلاف والعداوة طريق الشيطان؛ لحديث مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم". وفي حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا: إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه قد رضي منكم بما تحقرون (8796-2-368) وعند الترمذي من حديث عمرو بن الأحوص في روايته لخطبة حجة الوداع قال صلى الله عليه وسلم : "ألا وإن الشيطان قد أيس من أن يعبد في بلادكم هذه أبدًا ولكن ستكون له طاعة فيما تحقرون من أعمالكم فسيرضى به". "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه ويقول: نعم أنت، ويلتزمه". والشيطان يصوب سهامه إلى ما يحقق له من الإنسان غرضه: إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير {فاطر: 6}، وإن صلاح الأمة بصلاح البيوت والمساجد. لذا فإنه يصوب سهامه ليفرق بين الأرحام في البيوت وينشر الخلاف بين المصلين في المساجد، فحيله على البيت الذي دعمه الله تعالى بالدعائم الفطرية وعمق روابطه بالأسس الشرعية حيل كثيرة. فالله جعل الدعائم الفطرية في البيت من السكن والمودة والرحمة: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن {البقرة: 187}. ومن الدعائم الفطرية ميل الوالدين وحبهما للأولاد. والدعائم الشرعية تظهر في نيل الأجر لمن قام برعاية الولد وبر الوالدين والإحسان إلى الزوجة وطاعة الزوج، حتى جعل اللقمة تضعها في في زوجتك لك عليها أجر، وإن في بضع أحدكم لصدقة. ومن سهام الشيطان سهام في الإغراء بتقطيع الأرحام وعقوق الوالدين، وترك الأولاد بغير توجيه شرعي، وأشد ذلك سهامه التي صوبها لإيقاع الشقاق بين الزوجين. وإن مجالس الناس في البيوت إما أن تستصحب فيها الملائكة أو تستضاف فيها الشياطين. ومجالس الذكر تبحث عنها الملائكة فيتنادون: هلموا إلى بغيتكم فيحفونهم بأجنحتهم، وهذه المجالس يمكن أن تقام في المساجد أو في المدارس أو في البيوت أو في الطرقات. لذا علم النبي صلى الله عليه وسلم المسلم عند دخوله البيت: "إذا دخل أحدكم إلى بيته فلم يذكر اسم الله قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا جلس إلى طعامه فلم يذكر اسم الله، قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء". فمن أراد أن يستضيف الملائكة فليجعل مجالسه في البيت مجالس الذكر فلا يحرم بيته من الصلاة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبورًا". فيصلي الفريضة في الجماعة في المسجد ثم يرجع إلى بيته ليصلي به النافلة، كما يصلي في بيته الضحى وقيام الليل وغير ذلك من النوافل. وإذا دخل إلى بيته أفشى السلام على أهله وحرص على ذكر ربه حال الدخول والخروج في كافة أحواله. أخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة". ومن استضاف الشيطان في بيته فإنما يستحل الشيطان دخول بيته بإعراضه وأهله عن الذكر حال الدخول وحال الطعام والشراب وحال النوم وحال الجماع. ولقد أخرج مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده وإنا حضرنا معه مرة طعامًا فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها". والشيطان إذا دخل مع الرجل بيته عبث به وبأهل بيته وأكثر الوسوسة، فيشوه جمال زوجته في عينه، ويرى زوجته منه الحسن سيئًا، والطيب رديئًا، والجميل قبيحًا، والكثير قليلاً، والعذب مريرًا، فتكفر الزوجة العشير، وهذا لها طبع يقع منها كثيرًا، ولكن العجب الشديد أن يقع الزوج في ذلك، فيكفر العشير، فلا يرى من زوجته إلا القبيح، ويخفى الشيطان عنه كل طيب فلا يرى إلا السيئ. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنهن خلقن من ضلع، وأن أعوج شيء في الضلع أعلاه،وإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمعت بها استمتعت بها وفيها عوج، إن كرهت منها خلقًا رضيت منها غيره". الشيطان يتخذ من بني الإنسان أعوانًا على الفساد والإفساد وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة". إن أوثق الحقوق على الرجل بعد حق الله في عبادته وتوحيده- حق أمه؛ لقوله #- حين سُئل-: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك". قال: ثم مَن؟ قال: "أمك". قال: ثم مَن؟ قال: "أمك". قال: ثم من. قال: "ثم أبوك". وإن أوثق الحقوق على المرأة- بعد حق الله- حق زوجها، فأيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة. لذا تسلط الشيطان في البيوت بالعقوق والعصيان والهجر والكفران، حتى صارت البيوت جحيمًا على ساكنيها وغابت المودة والرحمة. ولقد جعل الله العقد للزواج ميثاقًا غليظًا يربط بكلمة من ولي الزوجة مع الزوج، ثم جعل حله من الزوج وحده لا ينزع منه، وإن جاز أن يوكل فيه غيره، وأن يسحب ذلك التوكيل ويلغيه. وجعل رب العزة باب توثيق الكلام وتصديقه في ذكره سبحانه، فأباح الحلف باسمه وصفاته وأفعاله وكل ما يدل عليه، ثم حظر الحلف بغير ذلك، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليذر، ثم لم يجعل الحلف الذي يحلفه المسلم على أمر في مستقبل أيامه حجرًا يحجر به على السلوك الحسن والتصرف المشرق حتى قال سبحانه: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم {البقرة: 224}. لكن الشيطان جاء للناس من هذا الباب، وجعلهم يعرضون عن الحلف بالله للحلف بغيره، فزين لهم الشيطان الحلف بالآباء والأمهات والأنبياء والأولياء والأطعمة والنعم والموتى، فتنوع حلفهم غير المشروع تنوعًا عجيبًا فاق الوصف، حتى صرت لا تكاد تجد من يحلف بالله سبحانه، إلا من رحم ربي. ثم أدخل عليهم بابًا جديدًا من الحلف، وهو الحلف بالطلاق والعتاق، وإن كان العتق من باب القربات، فليس الطلاق كذلك، فإنك إذا سمعت من يستفتي أحدًا من أهل العلم في شأن بيته وما يقع فيه وجدت عجبًا من التفنن في الطلاق والتحريم وتضييق ما وسع الله. ويستخدم في بيع السلعة في الأسواق الحلف بالطلاق، وفي مخاطبة الوالدين جرأة في الحلف بالطلاق، في تهذيب الولد الحلف بالطلاق، وفي مخاطبة الجار والقريب والبعيد حلف بالطلاق، حتى صار العزب يحلف بالطلاق، وتجرأت المرأة كذلك عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. بل تجد المرأة تتحدى زوجها قائلة: إن كنت رجلاً فطلقني، بعد أن طالت العشرة وأنجبت منه تقول له: إن كنت رجلاً، فمن يعرف رجولته إن لم تكن زوجته؟!! وأعجب من ذلك أن الشيطان يستهويه ليثبت لها رجولته فيقول لها: أنتِ طالق. هذه البيوت فتحناها للشياطين فقاموا بتخريبها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، فهل من عقل يرجع إلى الناس ودين يلتزمونه ليعلموا بما يرضي ربهم، وإلى الله المرجع والمصير. والله من وراء القصد.
|