الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه. وبعد: فإن أمر الشرك عظيم، وهو أظلم الظلم، ولا يمكن للإنسان أن يحذر منه ومن الوقوع فيه إلا إذا عرفه وعرف خطره، ولذا يجب على كل مسلم معرفته ليسلم منه وليكون على بينة من أمره حتى لا يقع فيه، لأنه إذا لم يعرفه، ربما يقع فيه وهو لا يدري، ولذلك كان حذيفة رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يقع فيه، كما جاء في الصحيحين عنه رضي الله عنه أنه قال: "كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني". وبسبب الجهل بالشرك وأنواعه نرى كثيرًا من المسلمين اليوم قد وقع فيه، فلا تكاد تجد بلدًا من بلاد المسلمين إلا وترى فيها تقديس القبور، والنذر لها، والذبح عندها، والاستغاثة بأهلها، وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله. والله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه الكريم أنه لا يغفر الشرك أبدا لمن لم يتب منه، وذلك لأنه جناية على حق الله الخالص، وهو التوحيد، أما ما دون الشرك من الذنوب، فهو داخل تحت مشيئة الله –عز وجل- إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه. قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يُشرك به. ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء/48) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأعظم الذنوب عند الله الشرك به، وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والشرك منه جليل ودقيق وخفي وجلي"، وقال أيضًا: "وقد يقال: الشرك لا يغفر منه شئ لا أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن، وإن كان صاحب الشرك –أي الأصغر- يموت مسلمًا، لكن شركه لا يغفر له، بل يعاقب عليه وإن دخل بعد ذلك الجنة"، وقال ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان": "فأما نجاسة الشرك، فهي نوعان: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة، فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر كيسير الرياء". وقوله كيسير الرياء يعني أن كثير الرياء قد يُوصِل إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله. وبهذا يتبين أن الشرك ينقسم إلى قسمين: أكبر وأصغر القسم الأول: الشرك الأكبر: وهو أن يجعل الإنسان لله ندًّا في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته وهو كما قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في "القول السديد": "أن يجعل لله ندًّا يدعوه كما يدعوا الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعًا من أنواع العبادة، ولا فرق في هذا بين أن يسمي تلك العبادة التي صرفها لغير الله عبادة، أو يسميها بغير ذلك من الأسماء فكل ذلك شرك أكبر، لأن العبرة بحقاق الأشياء ومعانيها دون ألفاظها وعباراتها". القسم الثاني: الشرك الأصغر: وهو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركًا وهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك، كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة، وكالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك. وقال ابن القيم رحمه الله: "مَثَل المشرك كمن استعمله سيده في داره فكان يعمل ويؤدي خراجه وعمله إلى غير سَيِّده. فالمشرك يعمل لغير الله تعالى في دار الله تعالى ويتقرب إلى عدوِّ الله بِنِعَم الله تعالى". وقال ابن حجر رحمه الله: "المشرك أصلاً من وضع الشئ في غير موضعه، لأنه جعل لمن أخرجه من العدم إلى الوجود مساويًا فنسب النعمة إلى غير المُنعم بها"، وقال أيضًا: "الشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي"، وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى: "إن العامِّي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين. كما قال تعالى: "وإن جندنا لهم الغالبون" (الصافات/173) فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسِّنان". والله جل وعلا حرَّم الجنة على المشرك وجعله خالدًا مخلَّدا في نار جهنم، قال تبارك وتعالى "إنه من يُشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار. وما للظالمين من أنصار"(المائدة/72). والآيات في ذم الشرك كثيرة والأحاديث كثيرة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" (متفق عليه). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آتٍ من ربي فأخبرني –أو قال بشرني- أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق" (متفق عليه). وهذا الحديث يبين أنه لا بد للموحدين من دخول الجنة، وذلك إما أن يكون دخولاً كاملاً غير مسبوق بعذاب، وإما أن يكون مسبوقًا بعذاب لمن لم يتم العمل. فقد ذكر ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث في فتح الباري أن الزين بن المنير قال: "حديث أبي ذر من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفل الله بها عمن يريد أن يدخله الجنة، ومن ثم ردَّ صلى الله عليه وسلم على أبي ذر استبعاده ويحتمل أن يكون المراد بقوله (دخل الجنة) أي صار إليها إما ابتداء من أول الحال وإما بعد أن يقع ما يقع من العذاب". وهذا لا يدل على أن ما عدا الشرك كله صغائر، بل يدل على أن من لم يشرك بالله شيئًا فذنوبه مغفورة كائنة ما كانت، ولكن ينبغي أن يعلم العبد ارتباط إيمان القلوب بأعمال الجوارح وتعلقها بها وإلا لم يفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بل وقع في الخلط والتخبيط. يقول ابن القيم رحمه الله: "أن النفي العام للشرك وهو أن لا يشرك بالله شيئًا لا يصدر من مصر على معصية أبدًا، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفوا له التوحيد، بل قلبه يكون كالحجر وذلك لأن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله". وعن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار" (رواه مسلم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله –تبارك وتعالى- أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (رواه مسلم). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شئ كنت تفتدي به؟ قال: نعم. قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك"(متفق عليه). والنبي صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين واستباح دماءهم وأموالهم وسبى نساءهم، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"(متفق عليه). من مضار الشرك: حبوط الأعمال وإن كانت كثيرة. الخلود الأبدي في النار. استباحة دمه وماله وعرضه بالسَّبْي. القلق والاضطراب والنكد والكمد والخوف الدائم والحزن اللازم. لا يجد عونًا ومددًا من الله على ما يلقاه من مصائب الأقدار. أعظم من جميع المعاصي. عدو لله وللبشرية ولنفسه التي بين جنبيه. يدعوا إلى كل رذيلة ويبعد عن كل فضيلة. ولما كان هذا حال الشرك، وهذا شأنه عند الله تعالى، فإنه يجب على العبد أن يخافه ويحذره، لأنه تنقُّصٌ لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، كما قال تعالى: "ثم الذين كفروا بربِّهم يعدلون" (الأنعام/1). ولا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، فهذا إبراهيم عليه السلام وهو خليل الرحمن وإمام الحنفاء يخاف الشرك على نفسه ويقول: "واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام" (إبراهيم/35). فما بالك بمن دونه من البشر. فلا تأمن الشرك، ولا تأمن النفاق، إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولهذا قال ابن أبي مُلَيْكَة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه" (رواه البخاري). وأخيرا نختم بهذه الأبيات لابن القيم رحمه الله: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسـم ليس بقابل الغفران وهو اتخـاذ النـد للرحـمن أيًا كان من حجر ومن إنسان يدعـوه أو يرجـوه ثم يخافه ويحبـه كمحبـة الديَّــان هذا وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بقلم/علي حسين الفيلكاوي
|