(2/1)
المراهقة هي مرحلة الشباب المتدفق، مــرحـلــة عـنـفـــــوان شباب المستقبل، وهي مرحلة التطورات السريعة، تطرأ على كيان المراهق كله جسمياً ونفسياً وجنسياً.. وما المراهقة إلا مرحلة من مراحل العمر المختلفة، لها خـصـــائصها ومميزاتها ومشكلاتها، شأن كل مرحلة كالطفولة أو الكهولة؛ ولذلك لا بد من التعامل مع هذه المرحلة على أسس علمية مدروسة، بعيداً عن التخبط والارتجال؛ ذلك أن الشبـاب أمل الأمة، ومعقد آمالها، هم وقود الحرب والجهاد، وعماد السلم والبناء إذا أحسنّا إعـــدادهــم منذ وقت مبكر من العمر. ولكن أيّ شباب نريد؟! نـريـــد شباباً تقياً ورعاً مجاهداً، يعتز بهويته وانتمائه إلى دينه، وتراث أمته، وأن يكون معتزاً بأبطال الإسلام، وأعلامه العظام على مر العصور. نريد شـبـابـــاً قدوته فتيان الرعيل الأول الذين نشروا هذا الدين، وكانوا نجوماً مضيئة في دياجير الظلام. نريدهم كما وصفهم الشاعر بقوله: شـــبـابٌ ذللــوا ســـبـل الـمـعـالي ومـا عــرفــوا سـوى الإسـلام ديـنا إذا شـهـدوا الـوغـى كـانـوا كـمـاة يـدكــون الـمــعـاقــل والحـصـونــا وإن جــن الـظــلام فــلا تـــراهــم مــن الإشـــفـاق إلا ســاجــديـــنــا نريد لشبابنا أن يتجهوا صوب المعالي، وأن يسلكوا سبل الرشاد وأن يديروا ظهورهم لهذا السيل الغازي من أفكار الحضارة الوافدة.. معنى المراهقة: فما المقصود بالمراهقة؟ وما أبرز خصائصها؟ وكيف نتعامل مع الشباب المراهق؟ الحقيقة أن هنالك رأيين مختلفين، ونظريتين متباعدتين: 1- معنى شائع عند علماء الغرب تأثر به بعض كتاب العرب. 2- ومعنى علمي يقول به المشتغلون بعلم النفس من المسلمين ومن المعتدلين الغربيين. الرأي الأول: يقول به علماء غربيون يرى أن المراهقة فترة من القلق والاضطراب،والصراع، يمتد من قُبَيْلِ البلوغ وحتى العشرين من العمر، ويرون أنها فترة حتمية يمر بهــــــا كــل إنسان، وأنها عاصفة تهز كيان المراهق كله. وأول من قال بذلك: (ستانللي هول) إذ يرى أن المراهقة هي مرحلة عواصف وتوتر وشدة، تكتنفها أزمات نفسية، وتسودها المعاناة والإحباط، والقلق والمشكلات. ويشبه بعضهم حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم، تتخلله أضواء ساطعة تخطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج(1). إن هـــذا الـمـفـهـــوم للمراهقة، مأخوذ من دراسات غربية أجريت على مجتمعات أوروبا وأمريكــــا، ثم عممت نتائجها على الآخرين، وكأن المجتمع الغربي عيّنة صحيحة تمثل الإنسان السوي. ويرى هؤلاء الـمربــــون، أنه لا بد من التغاضي عن هفوات المراهقين؛ ريثما يجتازون هذه المرحلة؛ لأن المراهق ـ عندهم ـ مريض، ولا حرج على المريض. وعلى ذلك فإن الشاب ـ هنالك ـ لا يحاسب قانونياً خلال هذه المرحلة، أي حتى يبلغ سن العشرين، أو الثامنة عشرة على أبعد تقدير. ويدحض هذا الرأي ما أثبته علم النفس لدى العلماء المسلمين، وحتى المعتدلين من الغربيين أنفسهم. بل يدحضه سن التكليف الشرعي عند المسلمين وهو سن البلوغ. ويسفّه ذلك الرأيَ أيضاً ما قام به فتيان الدعوة الإسلامية من جهاد وبطولات وتضحيات، فلم يحسوا بمعاناة وتوتر كما يزعم علماء الغرب. وقد جاء في الحديث الشريف:(رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)(2). وإن الفتى إذا اسـتـكـمــل خمس عشرة سنة يصبــــح مكلفاً، وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيرها. روى نافع عن ابن عمر قوله: (عرضـني رســـــول الله لله يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني)(3). فهذا هو السن الذي يجعل صاحبه من المقاتلين، ويجـــــــري عليه حكم الرجال في أحكام القتال وغيرها. الرأي الثاني: وهو المعنى العلمي عند المشتغلين بعلم النفس من علماء المسلمين، فيعني أن المراهقة، هي فترة تغيرات شاملة وسريعة، في نواحي النفس والجسد، والعقل والروح لدى الشاب المراهق، وهي فترة نمو سريع في هذه الجوانب كلها، حتى قيل: (إن المراهقة فترة انقلاب كامل)(4). إنــهـــــــا مجموعـــــة من التغيرات التي تحدث في نمو الفرد الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي.. وفيها يحــــدث كثير من التغيرات التي تطرأ على وظائف الغدد الجنسية، والعقلية، والجسمية. إنها ولادة جديدة لشخصية المراهق، حيث تظهر وظائف جديدة، بطريقة فجائية فتسيطر على سلوك الشاب. فالمراهقة تعتبر مرحلة انتقال من الطفولة إلى الرشد، وذلك يعني أن القلق والاضطراب ليسا حتميين. (والـنمـــو الجنسي في المراهقة، قد لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات، ولكن النظم الاجتماعية الحديثة، هي المسؤولة عن أزمة المراهقة) كطول فترة التعليم، وتأخير الزواج... إلخ)(5). ولذلك فإن الأحكـــــام الشرعية لا تعترف بفترة انتقالية بين الطفولة والرشد، كما يسن في القوانين الوضعية التي لا تعـتـبـر الإنســان رجلاً يطبق عليه القانون قبل الثامنة عشرة من عمره. ولا يجوز أبداً تسويغ الانحراف، والتغاضي عـــــن إهمال التكاليف، وإنما تعني أن فترة المراهقة مرحلة من العمر لها خصائصها التي تميزها جسمياً وجنسياً وانفعالياً، شأنها شأن كل مرحلة من مراحل العمر(6). كيف نتعامل مع الشباب المراهق: للمراهقة سماتها ومطالبها، وإذا لم تُلَبّ هذه المطالب، فـقــــــد يقع المراهق في اضطرابات مؤلمة، أو يلجأ إلى وسائل غير سوية. ولذلك فواجب المربي الحكيم أباً كان أو أماً أو مدرساً أن يتفهم حاجات المراهق،ويوجهه نحو أفضل الوسائل لتلبية هذه الحاجات. علينا أن نزوده بخبرات ملائمة، ليتخلص من التردد، ويبتعد عن المكابرة والعناد، ويتعود على احترام رأي الآخرين. ولعل أبرز مهمات المربي تتلخص فيما يأتي: 1- تربية انفعالات المراهق وترويضها. 2- مراعاة حاجاته الأساسية. 3- معالجة أبرز مشكلاته. إن مهمة المربي تتمثل في تهذيب انفعالات المراهق، فلا تتركه في حيرة من أمره، بل نشيع في نفسه الطمأنينة، وحب الآخرين وتجاوز مصلحة الذات، نوجهه نحو حقيقة أن الناس في الإسلام يلتقون على العقيدة في الله، فلا تكون ذواتهم بارزة، ولا مـتـحـفــــزة لاقتناص المصلحة من الآخرين، وإنما يكون الجانب البارز هو الحب في الله، والمؤمن يتعامل تعاملاً سوياً مع الآخرين ويستطيع التلاحم معهم في يسر(7). إن حــــــب الذات من أقوى انفعالات هذه المرحلة، ولذلك تأتي أهمية التوجيه المنظم من الأسرة والمدرسة، حتى يتمكن الشاب من حسن التكيف مع بيئته، وإذا تهيأ المربي الصالح الذي يساعـــده على الفهم الصحيح لذاته بأسلوب تربوي لا يشعر معه بالتدخل المباشر في شؤونه الخاصة، فإن ذلك سيساعده على تخطي هذه المرحلة في أمان كما يجتنب مخاطرها النفسية كالقلق واليأس أو الحب المفرط للذات، والغرور والكبر(8). كما أن على المربي أن يراعي حاجات المراهق الأساسية: ومن أبرز هــذه الحـاجــات.. الحاجة إلى الاستقلال، فهو يبحث عن فطامه عن الإشراف الأسري، وأن يصبج موجهاً لذاته. ومن ذلك حاجته إلى احتـرام الآخــــرين، وإشعاره بمكانته؛ فهو يريد أن يكون هامّاً، وله موقعه وسط الجماعة. وقد ربى رســـــــول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على ذلك وتعامل مع صغار أصحابه بهذه الروح، كان يجتمع مع أصحابه سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة، وجمع الأسرى من بني قريظة في دار أسامة بن زيد، وكان أسامة آنذاك فتى صغيراً(9). ومـن حـاجـات المراهق الأساسية أنه يهتم بالبحث عـن الحـق والـدين، والمثـل العليا، فلا بـد أن يراعي المربي في توجيهاته هذه الناحـيـــة، كما أن من حـاجاته الأساسية حاجته الجنسية، التي تظهر بقوة خـلال هذه الفترة، وتحصين الشباب بالدين ووازع التقوى من غـض البصر والبعـد عن المثيرات هو خير عــــلاج؛ إذ يسـمــو المراهق بغرائزه وانفعالاته ويضبطها بضـوابط الشـرع. ينبغي على المدرسين والآباء، ألا يفرطوا في بسط حمايتهم عـلــى المراهقين وألا يلجأوا إلى التعنيف على التافه من المخالفات، بل ينبغي أن يمدح التلميذ أمام زملائه، وقد أظهرت الدراسات الميدانية أن المدح أفضل من الذم في دفع الطلاب إلى التعلم(10). ومن أبرز الطرق النافعة لإشباع الحاجة النفسية لدى المراهق: ـ تشجيعه على أن يعبر عن حاجاته وألا يعمد إلى تخبئتها. ـ صرف الطاقة النفسية في وجهات اجتماعيـة مرغوبـة: كأن يشجعه لجلسات حـفــــــظ القرآن في المساجد، وخــروجــــــــه مـــع مجموعات المراكز الصيفية المأمونة في المدارس والجامعات، عـلى أن يكون الموجهـون فيها مـن ذوي الخـلق والـدين. ـ تدريب المراهق على قمع بعض الرغـبـات، دون تخويفه ولا العطف الزائد عليه حتى لا يتحول العطف إلى تدليل.. وإشغاله بهوايات فنية يتقنها، على أن تكون مباحة(11). ـ نعلّمه أن الحياة ليست كلها مباهج ومـســرات، وعليه أن يتعود الصبر واحتمال المكاره، فيحس بقيمته ويرتقي بمركزه الاجتماعي.. ونربيه على تحمل شظف العيش فلا نترفه في تلبية طلباته جميعاً، حسنها وسيئها، فينشأ وقد عرف الجهد والعمل(12). الهوامش: (1) ينظر علم نفس النمو: د. حامد زهران، ص 291، والمراهقون: سمير جميل الراضي، ص 2، وتربية الشباب المسلم للآباء والدعاة: خالد الشنوت، ص 3 ـ 12. (2) رواه أحمد وأبو داود والحاكم. وهو صحيح/ صحيح الجامع الصغير. ج1/659. (3) رواه الإمام مسلم: في كتاب الجهاد والسير. (4) انظر: منهج التربية الإسلامية: الأستاذ، محمد قطب، 2/196، وسيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر، د. عبد الرحمن العيسوي، ص 11. (5) المصدر السابق. (6) ينظر: السيرة النبوية لابن هشام، ج1/318، 1/485، والإصابة، ج3/648. (7) منهج التربية الإسلامية: الأستاذ محمد قطب، ج2، ص 40. (8) تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس، د. محمد السيد الزعبلاوي، ص 129. (9) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، وطبقات ابن سعد، 3/244. (10) سيكيولوجية المراهقة للمربين: بيلزوجونز. بإيجاز، ص 21 ـ 26. (11) رعاية المراهقين: يوسف أسعد، ص 125. (12) للتوسع في موضوع المراهقة: ينظر كتابنا: تربية المراهق في رحاب الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
(2/2)
حدد الكاتب في الحلقة الماضية معنى المراهقة ومرحلتها السنية، ثم تحدث عن أهمية هذه المرحلة، وكيفية التعامل الصحيح مــــع الـشـبــاب في هذا السن، ومنها: تربية انفعالات المراهق وترويضها، ومراعاة حاجاته الأساسية. ويواصــل الكاتب إيضاح جوانب أخرى في هذه الحلقة. - البيان - شباب السلف الصالح قدوة مثلى: إن هذا السن هو سن الطاقات المتفجرة، سن الإبداع البناء، ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في مختلف ميادين الدعوة والتضحية والعلم والجهاد، ولـمّـا يبلغوا ســن العشرين، بل كان بعضهم لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره. كانوا فتياناً بعمر الورود عندما تحملوا العذاب والاضطهاد في سبيل عقيدتهم فـي جنـبـات مكة المكرمة. مـنـهــم مصعب بن عمير، والزبير بن العوام، وطلحة الخير، وسعد بن أبي وقـاص، وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ، فقد تحملوا الجوع والعطـش، وهم محاصـرون في شِعب أبـي طـالــب، حتى جهدوا، فكانوا يأكلون ورق الشجر ولم يتجاوزوا سن الخامسة عشرة من أعمارهم. أمـــــا آل ياســـر، وبلال بن رباح، وخباب بن الأرت، فقد لاقوا من العذاب ألواناً، وهم صابرون لا يغير ذلك من دينهم شيئاً. فهذه تطبيقات واقعية،تدحض أقوال الزاعمين: (أن فترة المراهقة فترة أزمات، وصراعات) وتؤكد أن التربية المتوازنة تحت مظلة العقيدة قد حوّلت صغار الشباب أولئك إلى مجاهدين بررة، بل إلى قادة للجيوش الإسلامية، تنشر التوحيد في ربوع الأرض(1). كان صغار الشباب في فجـــر الدعوة يتسابقون إلى ساحات الجهاد كما يتسابق شباب اليوم إلى ساحات الملاعب، وأماكن اللهو والترفيه. وهل سمعت أخي الكريم! بشـبــــاب يبكون لأنهم رُدّوا عن ساحات المعارك، ولـمّا يبلغوا الحلم بعدُ؟! وهل تُغلب أمة هذا شأن صغارها، فما بالك بكبارها؟! أولئك آبائي فجئني بمثلهـم إذا جمعتنا يا جرير المجامع كــــان معاذ بن الحارث ومعوذ أخوه، وهما ابنا عفراء، شابين من شباب الأنصار، شهدا معركة بدر الكبرى. قال الـشـــابان لابن عوف ـ رضي الله عنه ـ قبل بدء المعركة: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قد بلغنا أنه يــؤذي رسول الله؛ فدلهما عليه، وعندما حمي الوطيس، شد الشابان على عدو الله، فوقع صريعاً، وأجهز عليه بعد ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ. شابان في سن المراهقة، لا يقبل طموحهما أقل من قائد معسكر الشرك وصنديدهم آنذاك. أما الذين ردهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصغر سنهم في معركة أحد فكثير، منهم: عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ رُدّ في أحـد، وفي غزوة الخندق أجـازه رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغ الخامسـة عشرة(2). وقد رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وأجازهم كلهم يوم الخندق. وممن رُدّ يومئذ: سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهـما ابنا خمـس عشـرة، فقيـل: يا رسول الله إن رافعاً رامٍ؛ فأجازه، وقيل: يا رسول الله إن سمرة يصرع رافعاً؛ فأجازه(3). قصص البطولة عند أبناء هذه المرحلة لا تنتهي.. فعمير بن أبي وقاص أخي سعد، ومن تلك الروائع المأثورة عنه ما يروي سعد أن أخاه عميراً كان يتوارى قبل أن يعرضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج إلى بدر: فقلتُ: ما لك يا أخي؟ فقال: أخاف أن يراني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة. وبالفعل رده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكى عمير، فأجازه رسول الله. قال سعد: كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة، قتله عمرو بن ود، وكان هذا من صناديد قريش(4). ماذا يقول شباب اليوم أمام هؤلاء الصبيان وقد كانوا في سن المرحلة المتوسطة في هذه الأيام؟! ماذا يقولون؟ وها هو حنظلة ـ رضي الله عنه ـ، يخرج ليلة زفافه تاركاً عروسه ليلبي منادي الجهاد، وعندما استشهد في معركة أحد، أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إن صاحبكم ـ يعني حنظلة ـ لتغسله الملائكـة، فاسألـوا أهلـه ما شأنه؟ (فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة. قال ابن إسحق: فقال رسول الله: (لذلك غسلته الملائكة)(5). هذه هي تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وهذا ما ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه تربيةً واقتداءً.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ظهرت كفاءات قيادية نادرة، سيّروا الجيوش المجاهدة، ومن هؤلاء علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، ومن سار على نهجهم كمحمد بن القاسم الثقفي. فكان علي ـ رضي الله عنه ـ بطلاً مغواراً، وكان اللواء بيده في كثير من المشاهد والغزوات، ودفع الرسول لله إليه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة وكان حامل الراية يوم خيبر. أما أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ، فقد كان أحد القادة الفتيان، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأسامة عشرون سنة، وقيل ثمانية عشر عاماً، وكان قد أمّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جيش عظيم فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنفذه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ، لمحاربة الروم في الشام، وكان عمر بن الخطاب يجله ويكرمه، وكان لم يلق أسامة قط إلا قال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت عليّ أمير. قال عروة بن الزبير: فلما بلغ الجيش الشام أصابتهم ضبابة شديدة فسترتهم حتى أغاروا وأصابوا حامية العدو(6). ومن القادة الشباب محمد بن القاسم الثقفي، ولاّه الحجاج فتح السند (باكستان الآن) فهدم صنم الهنود، وقتل ملكهم، ورجع بجيشه بغنائم عظيمة. قال أحد معاصريه فيه: ساس الرجال لسبع عشرة حجة ولداتـه عـن ذاك في أشغـال أخي الشاب: إن أمتك في انتظارك، حتى تقيل عثرتها وتعيد أمجادها.. قـد أعـدّوك لأمـر لو فطنت لـه فاربأ بنفسـك أن ترعى مع الهمل(7) وقد نبغ شباب الرعيل الأول في العلوم المختلفة: فنبغوا وكانوا قمماً عالية في كل شيء، ويأتي على رأس هؤلاء الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ. قال عنه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس) كان أصحابه يسمونه الحَبْر، كان يطلب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمره حين وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً، يقول ـ رضي الله عنه ـ: (إن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: (يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟ (فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله الحديث..) فكان عَلَماً في التفسير والقرآن وعلومه، والحديث وعلوم الشعر واللغة(8). وزيد بن ثابت الأنصاري، كان عمره حين قدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- المدينة إحدى عشرة سنة، جمع القرآن زمن أبي بكر كما ثبت في الصحيح. ومن فتيان الصحابة وعلمائهم: عمرو بن حزم الخزرجي، استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن سبع عشرة سنة، على أهل نجران ليفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن. وربيعة الرأي صار محدّث المدينة وفقيهها وإمامها رغم حداثة سنه؛ كان مجلسه يضم مالك بن أنس (صاحب المذهب المعروف) وأبا حنيفة النعمان وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد(9). والإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كان قد برع في طلب الحديث وعمره ست عشرة سنة، نشأ يتيماً وعنيت به أمه. واشتهر علمه في الآفاق، وقيل: إنه طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وأنه حج وعمره عشرون سنة ماشياً، ليس معه إلا جراب فيه كتبه، كان يضعه فوق لَبِنَةٍ، ويضع رأسه عليه(10). ومن علماء هذه الأمة الإمام البخاري، ربته أمه ثم قرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، وصنف في قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وهو ابن ثماني عشرة، وصنف كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله لله في الليالي المقمرة (هدي الساري مقدمة فتح الباري). أدبهم مع شيوخهم: تلقى الإمام أحمد بعض العلم والسنن عن الإمام الشافعي خلال إقامته بالعراق، وانتقل إلى مصر وتوفي فيها. كان الإمام أحمد يقول: (ما بتّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له) ولما سأله ابنه عبد الله: أي رجل كان الشافعي؟ قال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خَلَفٍ؟ أو عنهما من عِوض؟)(11). وعندما علم سفيان الثوري بقدوم الإمام الأوزاعي إلى مكة للحج خرج منها سفيان يستقبل ضيفها، حتى لقيه بذي طوى، وأخذ بخطام بعيره يقوده قائلاً: الطريقَ للشيخ... هكذا كان طلب العلم عند شباب هذه الأمة، علماً وأدباً وخشوعاً لله. بقدر الجـد تكتسـب المعالـي ومن طلب العلا سهر الليالـي تـروم العـز ثـم تنـام ليـلاً يغوص البحـر من طلب اللآلي هؤلاء هم قدوتك أخي الشاب، أبناء الرعـيــل الأول؛ وليسوا شباب الفن والطرب وأجيال الهزائم! هذه نماذج نضعها بين يديك ولك فيها قدوة حسنة تنسج على منوالها بإذن الله، عسى أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وفقنا الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين. الهوامش : (1) ينظر كتب السيرة، السيرة لابن هشام، ج1 /485، والإصابة: ج3/648 مطبعة السعادة بمصر. (2) سير أعلام النبلاء، ج2/359. (3) البداية والنهاية، ج4/15، والإصابة، ج1/146. (4) صفة الصفوة، ج1/394. (5) سيرة ابن هشام، ج2/75. (6) الإصابة، ج1/46، سير أعلام النبلاء، 2/397 وحتى ص 503. (7) البداية والنهاية، ج9/87، مع الرعيل الأول لمحب الدين الخطيب، ص200 ـ 207. (8) الإصابة، ج2/326، وصفة الصفوة، ج1/754، والطبقات لابن سعد، صغار الصحابة، ج1/196، ص 137، تحقيق د. محمد بن صامل السلمي. (9) ينظر: سير أعلام النبلاء، ج2/426، وما بعدها، والإصابة: ج1/545، الاستيعاب، ج2/510، صور من حياة التابعـين، د. عبد الرحمن الباشا، ص 77 - 110. (10) البداية والنهاية، ج10/326، سير أعلام النبلاء، ج11/186. (11) ينظر: مع الرعيل الأول، ص69 - 70.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (128)، ربيع الآخر 1419،أغسطس 1998 .
|