النظرة المادية البحتة للأمور, أوصلت الفيلسوف الأمريكي (( فرنسيس فوكوياما )) عام 1989م , إلى نظريته المتمثلة بأن انتصار الرأسمالية يعني ( نهاية التاريخ ) , وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يملكه, وبالتالي فإنّ فقدان الملكية يعني انعدام قيمة مالكها , وبناء عليه فإن المجتمعات البشرية ستكون أمام أحد خيارين: إمّا أن تأكل , أو أن تؤكل. وراح الرأسماليون يزدادون ثراء , والفقراء يزدادون فقراً , وأخذت المنافسة غير المتكافئة بين الحيتان والأسماك الصغيرة , تطحن الناس والمجتمعات طحناً , مدمرة البنى الاجتماعية والتماسك الاجتماعي , وأخذت الفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة تزداد فقراً , وباتت معها الطبقة الوسطى في تضاؤل مستمر . ( أوناسيس ) و ( جونتر الرابع ) اسمان لامعان , دخلا موسوعة غينيس من أوسع أبوابها , وقد جمع بينهما في باب واحد , كونهما من أصحاب الملايين , ممن خلقوا وعاشوا على وجه البسيطة , مثلهما كمثل أي مخلوق يمشي على قدمين , أو على أربع , أو قد يقطع المسافات زحفاً على بطنه .. وقد تودد لهما خلق كثير ممن اعتاد شرب الذل وركوب الهوان , ساعين وراء الفتات , وراء كل ما هو زائل لا يدوم . أمّا ( أوناسيس ) وهو من بني البشر , فقد مات منذ ثلث قرن , وقد أكلت دابة الأرض منسأته , وما عادت تنفعه ملايينه أو بلايينه , وأمّا ( غونتر الرابع ) فلا هو من بني البشر , ولا ممن يملك الحجر أو الشجر , وإنّما هو كلب إيطالي ورث عن صاحبته الكونتيسة ( كاراوتا لبيثاتي ) ملايين الدولارات بعد أن أوصت له بثروتها الطائلة ؟!. وإذا كانت المسافات قد تقاربت في عصرنا بفعل تقدم وسائل الاتصالات , فإنّ الجمع بين المواصفات القياسية للبشر والحيوان في عصرنا هذا , قد بات أمراً واقعاً وملموساً بعد أن سيطرت على البشرية القيم المادية البحتة , وأصبحت معها القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة من الندرة بحيث أصبح معها حاملوها غرباء في مجتمعاتهم , لينطبق عليهم قول شاعرنا الحكيم وصاحب البصيرة النافذة أبو الطيب المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ولم تصل البشرية إلى التقدم والرخاء , بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي وتزايد الفروقات بين البشر , أهم ميزات العصر الأمريكي الراهن , وباتت معها أسواق المال العالمية اليوم , أشد خطراً على الاستقرار العالمي من الأسلحة النووية ذاتها . إنّ مفهوم المال في حضارتنا وتراثنا يختلف عما هو عليه في الحضارة الكونية الحديثة , فهو عندنا موجود لخدمة البشر والمجتمع , فكل ثراء لا يزيد من فرص العمل مرفوض , وكل تكديس للثروات مرفوض , فالثروات في حضارتنا العريقة ليست سوى وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي غرضه تحسين مستوى معيشة الأمة والمجتمع ( فرادى وجماعات ) , إذا ما أنفقت في وجوه الخير , خلافاً لما هو عليه الحال في الحضارة الحديثة التي جعلت منها معبوداً يلهث وراءه , ويتقرب إليه , أصحاب النفوس الضعيفة والمهزوزة , ممن أعمت حمى الاستهلاك وتكديس الثروات بصيرتهم , وما عاد من فارق يميزهم عن ( جونتر الرابع ) أو عن القطة الإيطالية المليونيرة ( كيتي ). المال في حضارتنا ليس بمقياس على علو منزلة الإنسان , فالمال إذا ما أخذ بغير حق أذل أعناق الرجال وغير المباديء وأفسد الأمور , وقد تم التأكيد والتشديد على تجنب أكل أموال الناس بالباطل والتحايل ( ومن أساليبها الرشوة والتهرب من سداد الدين , وعمليات النصب والاحتيال , وأكل أموال اليتامى , وعدم إعطاء الأجير أجره …وغيرها كثير ). مع التشديد وعدم التساهل حول ألاّ يدخل مال إلاّ من حلال. إنّ العودة إلى مناهل تراثنا وحضارتنا أمر لا بد منه للوقوف في وجه حضارة الانحلال الأخلاقي المستشرية , ونظرة حضارتنا إلى المال قد أوضحها لنا أمير المؤمنين الخليفة الراشد ( عمر بن الخطاب ) موضحاً بذلك إحدى أهم الأسس التي بني عليها الاقتصاد الإسلامي , بقوله : (( إنّي لا أجد هذا المال يصلحه إلاّ خلال ثلاث : أن يؤخذ بالحق , ويعطى بالحق , ويمنع من الباطل )). قديماً قالت العرب : ( عند جهينة الخبر اليقين ) وما عداه باطل الأباطيل وقبض الريح .
|