الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وبعد: فمجالسة الصالحين فضيلة أمر اللَّه سبحانه نبيه بها، فقال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف: 28]، وقال تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [الأنعام: 52]. فهذا أمر اللَّه سبحانه لرسوله بأن يكون أولى الناس بالمجالسة هم الصالحون، ومثل له أروع الأمثلة فقال فيما رواه أبو موسى الأشعري: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة». [اللؤلؤ والمرحان 1687] وهذا الحديث يفيد أن الجليس الصالح جميع أحواله مع من يجالسه خير وبركة ونفع ومغنم، مثل حامل المسك الذي تنتفع بما معه، إما بهبةٍ، أو بيع أو برائحة المسك التي تنبعث منه. ثمار مجالسة الصالحين أولاً: لا يشقى بهم جليسهم: فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون تنادوا هلموا إلى حاجتكم». قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي ؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال فيقول: هل رأوني ؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني ؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشدَّ لك تمجيدًا وأكثر لك تسبيحًا، قال: فيقول: فما يسألوني ؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها ؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها، قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا وأشد لها طلبًا وأعظم فيها رغبةً، قال: فمم يتعوذون ؟ قال: يقولون من النار، قال: يقول: وهل رأوها، قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا وأشدّ لها مخافةً، قال: فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم». [اللؤلؤ والمرجان 1722] قال القاضي عياض رحمه اللَّه: ذِكْرُ اللَّه ضربان؛ ذكر بالقلب وذكر باللسان، وذكر القلب نوعان؛ أحدهما وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة اللَّه وجلاله وجبروته وملوكته وآياته في سماواته وأرضه، والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهي؛ فيتمثل ما أمر به ويترك ما نهي عنه ويقف عما أشكل عليه، وأما ذكر اللسان مجردًا فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث. انتهى. ثانيًا: يحشر المُجالس للصالحين معهم في الآخرة: ففي الصحيحين من رواية أنس بن مالك أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه متى الساعة قائمة ؟ قال: «وما أعددت لها». قال: ما أعددتُ لها إلا أني أحبُ اللَّه ورسوله، قال: «إنك مع من أحببت». ثالثًا: يستفاد من مجالسة الصالحين علم وصلاح وفقه: فهذا موسى عليه السلام يقول للخضر: هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [الكهف: 66]، وهذا زكريا عليه السلام يكفل مريم ويتردد عليها في المحراب فتثير فيه الرغبة في الدعاء وطلب الولد من اللَّه تعالى الذي يعطي بأسباب وبغير أسباب، لما رأى عندها رزقًا في غير ميعاده فسألها أنى لك هذا ؟ قالت: هو من اللَّه إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب. فتوجه إلى ربه بالسؤال: هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء [آل عمران: 38]. رابعًا: الجليس الصالح يُذكر صاحبه بالله: ويجدد فيه كَوَامِنَ الإيمان ويوقظ التوكل والخوف والرجاء وشاهد ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين اللَّه ثالثهما؟». وهؤلاء أصحاب موسى عليه السلام يقولون له: إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء: 61، 62]. خامسًا: الجليس الصالح ربما كان سببًا في خروجك من الدنيا على التوحيد والإيمان: فقد أخرج البخاري عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار. [فتح الباري 3/136] وذكره الألباني في أحكام الجنائز بزيادة قوله عليه السلام: «فلما مات قال: صلوا على صاحبكم». [أحكام الجنائز ص26] فأي فضل نال هذا الصبي اليهودي بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم عنده في هذا الساعة الحرجة من عمره حتى خرج من الدنيا بالإسلام وأنقذه اللَّه من النار. والجليس الصالح قد يكون إنسانًا حيًا، ولا يكون صالحًا إلا إذا كان ذا دين متمسكًا بالكتاب والسنة وبفهم سلف الأمة موحدًا ربه كمال التوحيد. وقد يكون كتابًا، وأسمى الكتب وأعلاها صلاحًا وإصلاحًا كتاب اللَّه تعالى وما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم من سنة قولية أو فعلية أو تقريرية أو تركية. وقد يكون هذا الجليس شيئًا معنويًا لا يرى ولا يسمع ولكنه يؤثر في جليسه ويظهر عليه حسنُ المجالسة وشاهد ذلك حديث الصحيحين من رواية أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وكان آخرهم ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه». [اللؤلؤ والمرجان برقم 61] ولنا أن نتخيل من هو فليس الرجل السابع إنه ذكر اللَّه بالتفكر والقلب واللسان الذي عاش معه فترة من الوقت فأثر فيه حتى فاضت عيناه شوقًا إلى مولاه ورجاءً في ثوابه ورضاه وخوفًا من عذابه وأذاه. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد.
|