الحمد لله خلق الناس فمنهم كافر ومنهم مؤمن والله بما يعملون بصير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، وبعد: ففي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة». [اللؤلؤ المرجان برقم 1687]، ويقول أيضًا فيما رواه أبو هريرة وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بسند حسن صحيح: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». فمن هذين الحديثين يتضح لكل ذي بصيرة تأثر الجليس بجليسه إن كان من أهل الصلاح أو من أهل الفساد، ومن أمثلة هذا التأثر والتأثير بالإنسان في الطبع والمجالسة ما رواه عمر بن الخطاب قال: «كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصخبت عليَّ امرأتي فراجعتني فأنكرتُ أن تراجعني، قالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه». [فتح الباري ج9 رقم 5191] والشاهد من الحديث تأثر نساء المهاجرين بأدب نساء الأنصار، فبعد أن كن لا يراجعن أزواجهن في مكة أصبحن يراجعنهم في المدينة لأنهن جالسن نساء الأنصار، وكذلك قوله تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم [التوبة: 97]، فالأعراب سكان البوادي أشد كفرًا ونفاقًا من كفار المدينة ومنافقيها لأن الآخرين يساكنون الصحابة والرسول ويُجالسونهم، بخلاف منافقي البادية فإنهم لا يجالسون الرسول والصحابة ولا يسمعون منهم ولا يتأثرون بهم فكانوا أشد كفرًا ونفاقًا. ويتأثر الإنسان بطبعه كذلك بالحيوان كما روى الشيخان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم». [اللؤلؤ والمرجان برقم 33] ومعنى الفدّادين: الأعراب أهل الجفاء من رعاة الإبل الذين يعيشون بالبادية، وهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك، ووجه ذمهم شغلهم بما هم فيه عن أمر دينهم. ونقول- والله أعلم-: فالجمل والفرس يمشيان رافعي رؤوسهما إلى أعلى فيؤثر ذلك والله أعلم في صاحبه كبرًا وعجبًا، والشاة ساكنة متواضعة خافضة الرأس لأسفل بحثًا عن طعامها حتى تسمى في عرف عالم الحيوان بالحيوانات الكانسة فيؤثر ذلك في صاحبها سكونًا وتواضعًا. وأمثلة التأثر بالجمادات أنك تجد من يركب سيارة رخصية متواضعة لا يتعاظم في نفسه ولا يتكبر مثل الذي يركب سيارة فارهة باهظة الثمن فيتعاظم في نفسه ويتأثر بمركوبه وملبوسه ومأكوله ومشروبه. من كل ما سبق يتبين تأثر الجليس بجليسه، فإن كان جليسًا سيئًا كان خطرًا على جليسه وخطر جلساء السوء متنوع ومتعدد الصور، وصوره هي: 1- جلساء السوء يزينون لك الباطل ويحببونه إليك، وتدبر في ذلك قوله تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والـجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون [الأنعام: 122]، فهذا الجليس السوء- شيطان الإنس- يوحي إلى جليسه زخرف القول فيسمي له الشرك ودعاء الأولياء من دون الله توسلا إلى الله تعالى، وربما استدل بقوله تعالى: اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [المائدة:53]، ويجعل دعاء آل بيت النبي والاستغاثة بهم والذبح لهم والنذر لهم والطواف حول قبورهم هو المودة المرادة من قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [الشورى:32]، كذلك يسمون الحرام بغير اسمه، فيسمى الربا مرابحة وعائدًا استثماريًا، ويسمى الخمر بالمشروب الروحي أو المنشط، والمخادنة والخلوة المحرمة بالصداقة البريئة وهكذا. 2- جلساء السوء يصرفونك عن الخير ويزهدونك فيه: يؤخذ هذا من قوله تعالى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين [التوبة:47]، وجليس السوء يجعل جليسه بدلاً من أن يأخذ الكتاب والسنة بقوةٍ يجعله يتهاون فيهما لما يسمعه منه من استهزاء، بل ربما سمع منه الكفر، والله تعالى يقول: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا [النساء: 140]. 3- جلساء السوء يشككونك فيما أنت عليه من الحق: وشاهد ذلك قوله تعالى: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون [آل عمران: 72]، كذلك من تشكيك جلساء السوء قولهم: عدم صلاحية الشريعة للتطبيق كاملة في هذا الزمان وخصوصًا الحدود فيها، أو أن أسلمة الاقتصاد وتطهيره من الربا يؤدي ذلك إلى الفقر! 4- جلساء السوء هم جند الشيطان وأولياؤه: وكاشف ذلك قوله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [الفرقان: 27- 29]، فهذا الظالم لنفسه جاءه الذكر وعرف أنه الحق ولكن خليله كان من أولياء الشيطان وحزبه فأضله. 5- جلساء السوء يغررون بجلسائهم ويمنونهم الأماني الكاذبة. ودليل ذلك قوله تعالى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون [العنكبوت: 12]. 6- جلساء السوء يحبون لجلسائهم الزيغ والغواية: لقوله تعالى: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما [النساء: 27]، وقوله تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [النساء: 89]. فمن أراد لنفسه وأهله السلامة فلا يجالس أهل الفواحش والشهوات ولا أهل النفاق والبدعة والشرك؛ لأنهم يريدون أن يميل معهم ميلاً عظيمًا. 7- جلساء السوء يجعلونك تستصغر أعمالك السيئة وتتجرأ على المعاصي: وصدق حذيفة رضي الله عنه فيما رواه البخاري قال: «إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعُدها على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الموبقات».
حال جلساء السوء يوم القيامة
وأما في الآخرة فإن ثمرة مجالسة أهل السوء هي التلاعن والتخلي والبراءة كما في قوله تعالى: قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [الأعراف:38]، وقوله: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون [الزخرف: 67، 68]. وجليس السوء قد يكون إنسانًا شاخصًا، وقد يكون كتابًا مشحونًا بالشركيات والضلالات والبدع والإسرائيليات والأكاذيب على الله ورسوله، وقد يكون مجلة أو جريدة حوت الصور الفاضحة، وقد يكون فِلْمًا يعرض القاذورات سواء عن طريق الأرضيات أو الفضائيات، وكل هذه الأشياء السيئة الجلوس معها إما أن يحرق الثياب وأعظم هذه الثياب هو التقوى التي يتزيَّى بها العبد كما في قوله تعالى: ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله. وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة، نعوذ بالله من فعل السوء وقول السوء والجليس السوء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
|