إن توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة هو غاية خلق العالمين، وهو أصل دعوة الرسل أجمعين، وهو أول ما يخاطب به الناس من أمور الدين، وهو سبب العصمة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو الشرط لصحة وقبول سائر الطاعات. أما إنه غاية خلق العالمين، فلقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {الذاريات:56}، وأما إنه دعوة الرسل أجمعين فلقوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون {الأنبياء:25}، وقال سبحانه: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت {النحل:36}، فالتوحيد حق الله على العبيد. وأما إنه أول ما يخاطب به الناس من أمور الدين فلقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله {آل عمران:64}، ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن: "يا معاذ: إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم" الحديث(1). وأما إنه سبب العصمة في الدنيا فلأن الإقرار بالتوحيد يعصم الدم والمال، ويثبت عقد الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله"(2). وأما إنه سبب النجاة في الآخرة فلقوله تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار {المائدة:72}، ولقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: وما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار"(3). وأما إنه الشرط لصحة وقبول سائر العبادات، فلقوله تعالى في حق المؤمنين العاملين: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا {النساء:124}، ولقوله جل وعلا عن أعمال الكافرين: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا {الفرقان: 23}. فالشرك محبط لجميع الطاعات، قال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين {الزمر:65}، فكما لا تقبل صلاة بغير وضوء، لا تقبل عبادة بغير توحيد. فالتوحيد أول ما يتعلمه الداعية، قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله {محمد: 19}، وأوجب ما يدعو الناس إليه، قال تعالى على لسان أنبيائه: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {الأعراف:59}، فهو عمدة الأصول التي ينطلق منها الداعية في دعوته إلى الله، وخلافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ولرسل الله عامة، وهو أصل كل صلاح في هذه الحياة، كما أن الشرك ومعصية الرسول أصل كل فساد، يقول ابن تيمية رحمه الله: "فأصل الصلاح: التوحيد والإيمان، وأصل الفساد: الشرك والكفر"(4). ومما يؤكد أهمية الدعوة إلى التوحيد أن الخلل الواقع في جانبه أعظم خطرًا، وكذا فإن فساد العقيدة سبب مباشر في حدوث الاختلاف والتفرق والتنازع بين طوائف الأمة، فتحقيق كلمة التوحيد هو السبيل لوحدة الكلمة. فالداعية الحق يجعل الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، والتوحيد الخالص أولاً ودائمًا، وقبل كل شيء، ومع كل شيء، يدل على ذلك: - أن الإيمان عند الإطلاق في الكتاب والسنة لا يقتصر على اعتقاد القلب؛ بل يشمل إقرار اللسان وعمل الأركان كما هو اتفاق أهل السنة والجماعة. - ارتباط الأحكام والأمر والنهي بالاعتقاد بذكر الوعد والوعيد، وختم آيات الأحكام بذكر صفات الله عز وجل المناسبة للمقام، وافتتاح بعضها بنداء الإيمان؛ لشدة ارتباط هذه الأحكام باعتقاد القلب. - أن جميع المخالفات- سواء أكانت تركًا أم فعلاً- إما قادحة في أصل الدين وناقضة للإيمان؛ كالشرك الأكبر والبدع المكفرة، وإما قادحة في كماله الواجب- وإن لم يكفر مرتكبها-؛ كالشرك الأصغر وسائر المعاصي. وعلى هذا فإن الدعوة إلى الاستقامة على جميع تكاليف الإسلام هي في حقيقتها دعوة لترسيخ التوحيد وتحقيق العقيدة. "وحري بالدعاة أن يوجهوا جهودهم إلى تبصير الناس كيف يوحدون ربهم، وكيف يخلصون دينهم لله، وعليهم أن يجعلوا ذلك هو الأصل والأساس كما كان الرسل من قبل"(5). وانطلاق الدعوة من التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة التي حملها أهل السنة عن سلف الأمة يشمل ثلاثة جوانب أساسية، بيانها كالتالي: أولاً: الأثرية: - ومفهوم الأثرية يعني أن العقيدة التي تتبناها الدعوة الراشدة هي التي تقوم في أصلها وأساسها على المنقول والمأثور من كتاب الله تعالى وصحيح السنة والأثر، وهي عقيدة الصحابة والتابعين، وسلف الأمة الصالحين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهي الوسطية المحمودة، والسلفية المقصودة. ومن أثرية العقيدة: تلقي النصوص بالتسليم والتعظيم: فالتسليم والتعظيم إنما هما لقول الله تعالى أولاً، ولبيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثانيًا، قال تعالى ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى {لقمان:22}، وذلك من غير تعرض لنصوص الوحيين بتحريف الغالين، أو تأويل الجاهلين، أو انتحال المبطلين. ومن التسليم والتعظيم مجانبة الجدال والمراء في نصوص العقيدة وقواعدها الكلية، إذ هي عقيدة سهلة واضحة، ميسرة بيسر هذا الدين، "إن هذا الدين يسر"(6). والتسليم والتعظيم يعين على تجاوز الخصومة المفتعلة- ظلمًا أو جهلاً- بين صحيح النقل وصريح العقل، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين العقل والنقل فمرده إلى الوهم في قطعية أحدهما ثبوتًا أو دلالة، فإن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح ولابد "فمن الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"(7). وكما قال بعض السلف: "قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم"(8). ومن أثرية العقيدة: توحيد مصدر التلقي: وذلك بتجريده عن كل شوب كلامي مردود، أو فلسفي مذموم، أو مسلكي مبتدع، بالاعتماد على الكتاب والسنة في تلقي العقيدة والدين كله بفهم الصحابة المرضيين، والثقات الأثبات من علماء خير القرون رضي الله عنهم أجمعين، والتعويل على إجماعهم واتفاقهم في هذا الباب، فهم أعمق علمًا بمعانيها، وأدق فهمًا لمراميها، وأقل تكلفًا في العمل بما فيها، وأبعد عن الخلاف والافتراق في أصولها وقواعدها، فما أجمعوا عليه فهو الحق ولابد، وما اختلفوا فيه فإن الحق لا يجاوز أقوالهم؛ فمن آمن بمثل ما آمنوا به فقد اهتدى، قال تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا {البقرة:137}. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ألا لا يقلدن رجل رجلاً دينه فإن آمن آمن وإن كفر كفر، فإن كان مقلدًا لا محالة فليقلد الميت ويترك الحي، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"(9). ومن أثرية العقيدة: تحقيق توحيد العبادة: وذلك بإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، والبراءة من كل ما عُبد من دونه، قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت {النحل:36}، وقطع ذرائع الشرك كافة، ف"مَن تعلَّق تميمة فلا أتم الله له"(10)، و"من أتى عرَّافًا فسأله عن شيء فصدَّقه، لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا"(11)، و"مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"(12)، كما ثبت النهي عن اتخاذ القبور مساجد، واعتقاد العدوى، والتطيّر، والتصوير وغير ذلك من أسباب الشرك وذرائعه. ومن تحقيق توحيد العبادة اعتقاد تفرده تعالى بالأمر والحكم كما تفرد بالإيجاد والخلق، قال تعالى: ألا له الخلق والأمر {الأعراف:54}، فلا حلال إلا ما أحله الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن أثرية العقيدة: اعتقاد أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية: وأن أصل الإيمان تصديق الخبر والانقياد للشرع، وكماله الواجب بفعل الأركان والواجبات، وترك الكبائر والمحرمات، وكماله المستحب بفعل المندوبات وترك المكروهات والورع عن الشبهات. وقصر الإيمان على التصديق وإخراج الأعمال من الإيمان بالكلية تفريط مذموم، وإدخال جميع الأعمال في أصل الإيمان إفراط مذموم، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. ومن أثرية العقيدة: الأثرية في مصطلحاتها: وذلك باعتماد ألفاظ ومصطلحات الكتاب والسنة عند تقرير مسائل الاعتقاد وأصول الدين، والتعبير بها عن المعاني الشرعية، وفق لغة القرآن وبيان الرسول #؛ فإن "الأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص، فيثبت ما أثبته الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه"(13)، مجانبة لكلام أهل الأهواء، ومفارقة لمصطلحات المتفلسفة بالآراء، وإيثارًا لمرجعية مقالات وكتب أهل السنة، وتعويلاً على اتفاقهم وإجماعهم، وتلقيًا عن أشياخهم والأثبات من علمائهم. ومن أثرية العقيدة: توقيفية العبادة: وذلك بالتأكيد على كون العبادة توقيفية، وسد ذرائع الابتداع والإحداث في الدين، ورد جميع ما خالف سنة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، فمستند المشروعية- أبدًا- هو موافقة الشريعة المطهرة، بفهم وتطبيق الصحابة البررة، وأهل الحديث المهرة، و"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(14). والأسوة الحسنة لهذه الأمة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا صحت سنته بلا معارض، فلا يحل لأحد ردها لقول أحد من الخلق، قال سبحانه: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم {النور:63}. ومن أثرية العقيدة: تمام العناية بعلومها العينية: وذلك بالتفريق لدى دراستها بين معرفة ضوابطها وحدودها الخارجية التي تحمي جناب التوحيد من ابتداع المبتدعين، وترد انحرافات الضالين، وذلك من جنس رد البدع الكلامية والفلسفية، وخوض المعارك والمناظرات مع أهل المقالات الردية؛ فإن العلم بها من فروض الكفايات، وهو على المتخصصين، وبين علوم العقيدة ومعارفها وقضاياها العينية، المتعلقة بمعرفة الله تعالى وتعظيمه مع التحقق بقول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح بالإيمان. إذ الغاية العظمى هي تحقيق توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات علمًا وعملاً، وسلوكًا وأخلاقًا. ومن أثرية العقيدة: محبة السلف الصالح أجمعين: قال تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم {الحشر:10}. وشعار أهل السنة الترضي عن أصحاب نبينا أجمعين، ومحبة علماء السلف من السابقين، وتابعيهم من أهل العلم والدين، فلا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، قال تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم {التوبة:100}. ومن المحبة الواجبة محبة أهل بيته صلى الله عليه وسلم وموالاتهم وموادتهم، قال تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى {الشورى:23}. ومن أثرية العقيدة: التثبت عند إطلاق الأحكام عامة: وتمام الاحتياط والتحفظ من تكفير وتبديع المخالف من أهل القبلة، والعوامِّ من أهل الملَّة، فضلاً عن علماء أهل السنة، وذلك عند التأويل والاشتباه، أو الجهل والغفلة، والتفريق بين القول وقائله، والفعل وفاعله، فمن تلبَّس بكفر أو بدعة أو فسق لم يحكم عليه به في الدنيا حتى تتحقق شروط إجراء الأحكام وتنتفي موانعه، وعصاة الموحدين أمرهم إلى الله في الآخرة، إن شاء عذبهم بعدله، وإن شاء غفر لهم بفضله.
|