الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وبعد: فهذه هي الحلقة الأولى عن التوبة، نبدأها بالحديث عن فضل التوبة، فنقول: أولاً: قال ربنا جل ذكره: إن الله يحب التوابين {البقرة:222}. قال القاسمي: "وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما نهوا عنه". وقال الزمخشري: "إن الله يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب". ومحبة الله للتوابين دليلها فتح الباب لهم لئلا يقنطوا من رحمة الله سبحانه فيقبلوا عليه، ويلوذوا ببابه، لينالوا من فضل التوبة وبركتها. ثانيًا: قال سبحانه: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما {النساء: 17، 18}. وفي هاتين الآيتين بشارة لمن أراد التوبة، وَفَتْحُ بابِها إلى قبيل الموت، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". وقوله: "ما لم يغرغر". أي ما لم تبلغ روحه حلقومه، فتكون بمنزلة الشيء يتغرغر به، أي ما لم يتيقن الموت لأن التوبة المقبولة هي التي تكون قبل الموت، أما عند تحقق وقوع الموت فلا يعتد بها. قال الشيخ حافظ بن حكمي: وتقبل التوبة قبل الغرغرة كذا أتى في الشرعة المطهرة ولذلك اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم". وقال الثاني: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم". فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة". {والضحوة ارتفاع أول النهار، وقيل: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى حين تشرق الشمس. لسان العرب: ص2559}. فقال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه". {أخرجه أحمد} فمن فضل الله على عباده أنه أذن لهم في التوبة وفتح بابها ما لم يأت الموت وتنتهي الحياة، كما أنه جل شأنه رغب في التوبة قبل أن يأتي الموت، وحتى لا يقول العبد حين يعاين الهلاك بعد الموت: رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت {المؤمنون: 99- 100}، عند ذلك يأتيه الرد القاطع الذي يليق بحاله: كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون {المؤمنون: 100}. ثالثًا: قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار {التحريم: 8}، فالله تعالى يرغب أهل الإيمان في التوبة، لأنهم هم الذين يستجيبون لأمره ولأنهم هم أحق الناس بالتوبة، أي بالرجوع إلى الله، ونيل ثواب التوبة الذي لا يحصل عليه إلا أهل الإيمان، وكذلك رغبهم سبحانه دون غيرهم، وهذا لاختصاصهم بالفضل وتوجيههم للخير، وحضهم على التوبة النصوح، قال مجاهد: النصوح أن يتوب من الذنب فلا يعود إليه، قيل: توبة نصوح أي صادقة يقال نصحته: أي صدقته، وقيل: نصوح: أي بالغة في النصح، مأخوذ من النصح وهو الخياطة، كأن العصيان يخرق والتوبة ترقع، والنصح: الخيط، وقيل: نصوحًا أي خالصة، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له: أخلص له القول. {شرح السنة للبغوي 5-81} وقال القاسمي: أي توبة ترقع الخروق، وترتق الفتوق، وتصلح الفاسد، وتسد الخلل. {محاسن التأويل للقاسمي: 16-5868}. وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك الجوارح، وإضمار أن لا يعود. وقال القرطبي: اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولاً، فقيل: هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن في الضرع، وروى عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال فتح الموصلي: علاماتها ثلاث: مخالفة الهوى وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ، وقال سهل بن عبد الله التستري: هي التوبة لأهل السنة والجماعة لأن المبتدع لا توبة له بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : "حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب". {الطبراني في الأوسط 4360} وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه، وأصل التوبة النصوح من الخلوص، ويقال هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وقيل: هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة، وفي أخذا منها وجهان: أحدهما: لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما تحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه، والثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه إلى بعض. فهذه التوبة النصوح أي التي لا يتاب منها من فضلها أنها تكفر الذنوب والخطايا وسبب من أسباب دخول الجنة، ولذلك قال جل شأنه: من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما، وقال جل شأنه: إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا، وقال سبحانه: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ليتمنين أقوام لو أكثروا من السيئات قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: الذين بدل الله سيئاتهم حسنات". وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء يتكلم به ابن آدم فإنه مكتوب عليه فإذا أخطأ خطيئة فأحب أن يتوب إلى الله عز وجل فليأت رفيقه فليمدد يديه إلى ربه عز وجل ثم يقول: اللهم إني أتوب إليك منها لا أرجع إليها أبدًا فإنه يغفر له ما لم يرجع في عمله ذلك". {اليبهقي في السنن الكبرى: 10-154} وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فتعرض عليه صغار ذنوبه وتنحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو مقر لا ينكر، وهو مشفق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، فيقول: أين لي ذنوب ما أراها هاهنا؟ قال أبو ذر: فلقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه". {مسلم: 1-177} انظر إلى حال ذلك الرجل وهو مقر لا ينكر من صغار ذنوبه التي تعرض عليه شيئًا وهو مشفق من كبار ذنوبه، وهو لا يتلكم ولا يذكر شيئًا سورى الإقرار لأنه يخشى أن تظهر الكبار، فلما سترها الله عليه وجاءت رحمة الله رب العالمين ليعطى مكان كل سيئة حسنة، عند ذلك فقط سأل عن كبار ذنوبه راجيًا الثواب لتبدل هي الأخرى حسنات، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم من طمع ذلك العبد في رحمة ربه، بعد أن كان مشفقًا على نفسه من الكبار، طلبها حتى تزداد حسناته فسبحان الذي بدل السيئات حسنات بعفوه وكرمه وإحسانه. قال أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت من عمل الذنوب فلم يترك منها شيئًا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داحة إلا أتاها فهل لذلك من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟ قال: فأما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن، قال: وغدراني وفجراني، قال: نعم. قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى. فالتوبة النصوح تذهب السيئات وتمحوها بفضل الله وعفوه وكرمه بل تتبدل السيئات إلى حسنات، ويجعلها الله تعالى سببًا في دخول الجنة التي وعد الله عباده، وهذا يدل على فضل وشرف ومنزلة التوبة.
رابعًا: التائب يقبله الله تعالى ويتوب عليه، ولو لم يكن في التوبة إلا أن يسامحه الله ويقبل توبته لكفى ذلك شرفًا وفضلاً، قال جل شأنه: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم {البقرة: 178}. والمراد قَبِلَ توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه. {روح المعاني 1-2-65}. قال الرازي: لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز يعني عن المعاصي، فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلاً على من قبلنا كقوله تعالى: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم {الأعراف: 157}. فتوبة الله تعالى دليل الرضا وتوفيق الله تعالى لمن تاب عليهم، فلقد أخبر سبحانه أنه تاب على النبي والمهاجرين والأنصار كرمًا منه سبحانه وفضلاً، فقال لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. قال ابن الجوزي: كرر- سبحانه- ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذكر التوبة فضلاً منه، ثم أعاد ذكر التوبة. {زاد المسير لابن الجوزي 3-516}. وقال القاسمي: اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك، مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق لها طوعًا أو كرهًا، والمرغب فيها أو عنها والمتخلف نفاقًا أو كسلاً، وأنبأ عما لحق كلا من الوعد والوعيد، وميز الصادقين عن غيرهم ختم بفرقة منهم كانوا قد تخلفوا ميلاً للدعة وهم صادقون في إيمانهم، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية وصدرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبرًا لقلوبهم وتنويهًا لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم، وبعثًا للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، كل على حسبه، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين والأوابين صفة الأنبياء. {محاسن التأويل للقاسمي 9-3285} وقال جل شأنه عن أبينا آدم: وعصى آدم ربه فغوى (121) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى {طه: 121، 122}. فتوبة الله اجتباء وتوفيق لمن تاب الله عليه وتشريف لأن الله تعالى تاب عليهم ليتوبوا ودلهم على التوبة، وقبلهم ليقبلوا عليه ويتوبوا إليه حبًا وطمعًا في فضله جل شأنه، وقال سبحانه: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن {المزمل: 20}. وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين {الأعراف: 23}. وقال موسى عليه السلام: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي {القصص: 16}. وقال يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين {الأنبياء: 87}. وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد أنه كان يقول في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال الكلمات اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم. {تفسير ابن كثير}. خامسًا: أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، فرحًا يليق بذاته جل وعلا، فهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {الشورى: 11}. وفرح الله تعالى بتوبة عبده، يدل على فضل التوبة وشرفها ومنزلتها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه تهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده". {البخاري 11-105، ومسلم 17-60، 61} وأول شيء ننبه عليه في هذا الحديث أن المسلم يجب عليه أن يحذر من التعطيل والتمثيل، فإن كلا منهما منزل ذميم ومرتع وخيم ولا ينبغي لأحد أن يشم من نفسه ذلك الأمر الفاسد لأنه يفسد الذوق، ويحرم العبد الفهم والوعي ولا يمكنه أن يذوق طعم الإيمان، بل يعلم أن فرح الله تعالى لا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته، وما يليق بعز جلاله سبحانه، وربما كان الأولى بنا طي الكلام في ذلك إلى ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم وضعف عقولهم عن احتماله، ولكن الله جلت قدرته يسوق هذه البضاعة إلى من يعرف قدرها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. يقول ابن القيم رحمه الله: اعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه، وخلقه لنفسه، وخلق كل شيء له، وخصه عن معرفته ومحبته وإكرامه بما لم يعط غيره، وسخر ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين- هم أهل قربه- استخدمهم له، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته، وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم، والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع محبته، وخلق الجنة والنار لهم، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأظهر فضله على الملائكة، فالمؤمن من نوع الإنسان: خير البرية على الإطلاق، وخيرة خلق الله من العالمين، فإنه خلقه ليتم نعمته عليه، وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته، ولم يخطر على باله، ولم يشعر به؛ ليسأله من العطايا والمواهب الظاهرة والباطنة، العاجلة والآجلة، التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبًا له، وأعده له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه، وعهد إليه عهدًا تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه، ويزيده محبة وكرامة عليه وما يبعده منه ويسخطه عليه، فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة، إذ انقلب آبقًا شاردًا مائلاً عنه إلى عدوه ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه وارتكب مساخط مولاه، فهو بذلك استدعى من سيده خلاف ما هو أهله، فبينما هو كذلك عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه وعرضه عليه، ففر إلى سيده من بلد عدوه وجدَّ في الهرب حتى وصل إلى بابه، ووضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللاً متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه قد ألقى بيده إليه واستسلم له وأعطاه قياده وألقى إليه بزمامه، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ومكان الشدة رحمة به وأبدله بالعقوبة عفوًا وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلمًا، هذا إذا نظرت إلى تعلق الفرح الإلهي بالإحسان والجود والبر، أما إذا لاحظت تعلقه بإلهيته وكونه معبودًا، فذاك مشهد أجل من هذا وأعظم منه، وإنما يشهده خواص المحبين. {مدارج السالكين 1-230، 237 بتصرف} سادسًا: أن الله تعالى دعا كل الخلق إلى التوبة فدعا إليه الذين عبدوا المسيح، ومن قال المسيح هو الله، ومن قال هو ثالث ثلاثة، ومن قال عزير ابن الله، ومن قال يد الله مغلولة، ومن قال إن الله فقير ونحن أغنياء، ومن دعا لله الصاحبة والولد، فقال لهم جميعًا: أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم {المائدة: 74}. قال ابن كثير: وهذا من كرمه وجوده، ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه. {تفسير ابن كثير 2-81} ودعا سبحانه إلى التوبة من هو أعظم محادة لله من هؤلاء وهو من قال: أنا ربكم الأعلى {النازعات: 23}، وقال: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري {القصص: 38}، فقال الله تعالى لكليمه موسى: اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى {طه: 43، 44}. وقال أيضًا: أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون {الشعراء: 10، 11}، ودعا سبحانه إليها المشركين فقال: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم {التوبة: 5}، ودعا إليها الكفار فقال جل شأنه: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين {الأنفال: 38}. ودعا إليها المنافقين فقال سبحانه: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما {النساء: 145، 146}. ودعا إليها من كتم ما أنزل الله تعالى من البينات والهدى فقال جل ذكره: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون *إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم {البقرة: 159، 160}. وقال جل شأنه: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم {آل عمران: 86- 89}. ودعا سبحانه إلى توبة السارق والسارقة فقال جل شأنه: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم{المائدة: 38، 39} ودعا إليها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات، فقال جل شأنه: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا {مريم: 59، 60} ودعا إليها من يدعو مع الله إلهًا آخر ومن يقتل ومن يزني فقال: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما {الفرقان: 68- 70}. ودعا إليها جميع المسرفين بأي ذنب كان فقال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون {الزمر: 53، 54}. وقال جل وعلا: والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم {الأعراف: 153}. وقال سبحانه: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما {النساء: 110} فالتوبة بابها مفتوح لكل العباد لأنهم عباد الله وهو خالقهم ورازقهم والمدبر لشئونهم، فحينما يعودون إليه يقبلهم ويتجاوز عن سيائتهم وقبيح صنيعهم، وهذا يدل على شرف التوبة وفضلها لمن وعاها وأقبل بها على ربه سبحانه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين". {البخاري: 13-411، 7416، ومسلم 2-1136} سابعًا: يجعل الله تعالى من يخطئ ويتوب أفضل المخطئين وخيرهم فإذا كان الخطأ يبعد العبد عن ربه، ويكون سببًا في العذاب فإن التوبة تجبر الخطأ ويكون التائب المخطئ خير التوابين، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". {أحمد في مسنده 3-198}. فإذا علم العبد ذلك سارع إلى الله تعالى بالتوبة، وشغل نفسه بتطهير ما تدنس منه وكان حذرًا من الذنوب، حتى يكون خير الخطائين.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم: أي حكمًا، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة». [البخاري 6/591، ومسلم 17/82، 83] وفي هذا الحديث من الكنوز والفوائد الكثير لمن تدبره، وها نحن نذكر بعضًا منها: الأولى: الاعتبار بما مضى في السابقين، وبمن كانوا قبلنا، فكان منهم من رضي الله عنهم وتقبل منهم، وأقال عثرتهم وأنار بصيرتهم، فكل من طلب من الله العفو، عليه أن يستقيم على أمره، ليقبل منه ويتجاوز عنه، وأن من لم يعتبر بغيره ويرجع عن غيه، كان عبرة لمن بعده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يربط هذه الأمة بمن سبقها على طريق التوبة والإيمان لأن دين الأنبياء واحد وهو الإسلام وحتى يعلم المسلمون أننا لا نسير في طريق التوبة وحدنا بل لقد سار في هذا الطريق كل الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم الذين صدقوا في إيمانهم، أما من بدل وغير فإننا نبرأ منه ويبرأ منه الأنبياء والمرسلون ومن صدق من أتباعهم. والثانية: أن قساوة القلب، والبعد عن الله، والجهل واقتراف المعاصي، وفعل القبائح والسيئات لها حد ولها نهاية، من وضع لها حدًا في الدنيا بالتوبة فقد فاز، وإلا كانت النهاية في النار- عياذًا بالله منها- فهذا قاتل محترف قتل تسعة وتسعين نفسًا، وبعد ذلك يمل من كثرة هذه القبائح ويرجو رحمة ربه سبحانه ويطلب التوبة، فطريق العصيان كله ملل ونصب وشقاء وهلاك وتعب، فالمخالفات من شأنها أن تهلك القلب ولا تسعده، ماذا كان يريد هذا الرجل بعد أن قتل تسعة وتسعين نفسًا، ربما كان سعيدًا سعادة مؤقتة زائفة بذلك، وربما كان يثبت لنفسه هذه السعادة الزائفة بقتل الأنفس، ومع ذلك أحس أن ما فعله هو الدمار والشقاء والضياع والرعب والفزع والاضطراب والقلق، هذا حينما أبصر الحق وزالت عنه غشاوة الباطل فلا بد من حل للخروج من هذه الأزمات، إن ذلك لا يكون إلا بالقرب من الله تعالى والتوبة له والخضوع والذل والاستسلام والإذعان والانقياد لأمره تعالى، هذه بغية القلب التي يبحث عنها والتي إن وجدها استراح، آمن هذا الرجل بذلك، إن ما كان يعيش فيه من مال ومتع زائفة وحياة غنية باللهو والعبث والشهوة واللذة لم تشبع له نفسًا، ولم تسد له حاجة، فظل الرجل في تيه وملل حتى أحس بنور الله فتعلق به لأنه النجاة والفكاك من ظلمة العين وقساوة القلب، ولذلك لما وقف الراهب ليحول بينه وبين الله، وبينه وبين النور الذي رأى أنه نجاته، أحس أن ذلك الراهب يحول بينه وبين السعادة الحقيقية وأراد أن يرده إلى الوحل وإلى ما قاسى منه من هلاك وضياع ودمار، ولذلك قتله غير آسف على قتله لأنه بعد ما وجد الطريق رأى من يبعده عنه، فالتوبة هي العلاج والدواء وسبب السعادة، ثم فيها الاعتراف بما فعله العبد والوقوف بين يدي الله لطلب العفو والصفح، وعند ذلك تكتمل سعادة العبد؛ لأن من وجد الله فقد وجد كل شيء، ومن فقد طريق الله فَقَدَ كل شيء. الثالثة: أن المستكثر من أي شيء يمل منه ويرغِّب عنه إلا المستكثر من الطاعات والبر والإيمان، فهذا القاتل مل من القتل على كثرته لأنه لم يشف له غليلاً، ولم يرح له قلبًا، فلا يطلب الزيادة على ما هو عليه إلا المؤمن، ولذلك على العبد أن ينظر هل يزداد عند الله خيرًا أم إثمًا، فلا يستكثر إلا من القربات، فلو أنك نظرت إلى حال هذا القاتل، الذي بدأ طريقه وحياته بقتل الناس والاعتداء عليهم، وإذا به يفعل كل ذلك ولم يكتشف أمره، ولم يفضح، ولم يستطع أحد أن يقتله قبل أن يتمكن من كل هذا العدد، مع كل هذا الطغيان والتمرد والجبروت علم أن القتل لم يقدم له شيئًا مما قتل من أجله، فعاد نادمًا ليستكثر من الزاد الحق الذي انتكس عنه من قبل، فلابد من الندم على الإكثار في الفساد ثم العمل بالطاعات والإكثار منها فهي السبيل لمن فرط وقصر في حق الله. الرابعة: قصور عقول بني آدم، وعدم إدراكها لكثير من مصالحها وأنها عاجزة ما لم ترتبط بالشرع، فلو أن إنسانًا فكر بعقله، في شأن قاتل محترف، ومجرم سفاك للدماء قتل تسعة وتسعين نفسًا، هل يهتدي للتوبة؟ يشاء العليم الخبير سبحانه أن يختم لهذا العبد خاتمة طيبة، فلا يمكن منه أحدًا ليقتله قبل أن يتوب، ولا تدركه منيته حتى يسأل أهل العلم، ويعزم الرجوع والعودة، ويقبل على الله، فيقبل منه توبته، وهذا من رحمة الله بالتائبين، فلابد للعبد أن يشغل نفسه بالله، ويرجع إليه ليوفقه، ولا يستعظم ذنوبه، فالله وعد بالغفران، فلابد من الرجوع السريع، والله الموفق. الخامسة: أن التائب حين يريد التوبة ويطلبها عليه أن يسأل عن حكم أخطائه ومعاصيه وكيف يتحلل منها حتى تكون التوبة نصوحًا، ولا ينبغي أن يرتجل في توبته فيعتمد على فكره ورأيه وحده، بل عليه أن يسأل ويتعلم ليعمل عملاً لا يتوب منه بعد ذلك، وإذا سأل يتحرى ويبحث عن عالم من علماء الآخرة، ليطمئن على توبته، ومن هنا بدأ هذا الرجل يسأل عن أعلم أهل الأرض، ولم يكتف بالسؤال عن أي عالم، فهو يريد توبة تخلصه من كل ذنوبه فبحث عن خلاصة العلماء، وحينما لم يجد بغيته في المرة الأولى لم ييأس وظل يسأل عن أعلم أهل الأرض حتى وفقه الله إلى عالم فتاب على يديه، وهذا الرجل كان منصفًا، فمع أنه قابل عابدًا جاهلاً إلا أنه لم يعمم الحكم على غيره- فإن بعض الناس حين يتعامل مع إنسان فيخدعه فيقول إنهم جميعًا مثله- أو يقول: كلهم هكذا، بل أدرك هذا الرجل أن الناس فيهم الصادق والمدعي، فجعله ذلك يعود فيسأل عن أعلم أهل الأرض ووجده، وهذا من بركات الإنصاف وعدم إلقاء الأحكام جزافًا. السادسة: أن العلم يمنع صاحبه القتل في الدنيا قبل الآخرة؛ لأنه ينير البصيرة، فيميز العالم بين من يسألونه، خاصة أن العلماء يرد عليهم خيار أهل الأرض، وكذا أفسد أهل الأرض، ولذلك فإن الجهل قتل صاحبه، فحينما أفتى الراهب هذا الرجل بأنه لا توبة له، أفتى بجهل، وكانت هذه الفتيا سببًا في قتله، وأن العالم حين أفتى نفس الرجل ولكن بعلم انقاد له وأذعن ولم يخالفه، ولم يعترض عليه ونفذ كل ما أمره به، وهذا من بركة العلم، وكذلك فإن العلم يجعل صاحبه يستوعب الجاهل والمجرم والقاتل فيؤلف قلبه، ويداوي جرحه، ولا يتأفف من رائحة المعاصي التي تفوح منه، فإن الطبيب إذا تأفف من مريضه فمن يداويه؟ ومن يخرج القيح والصديد من جروحه ويصبر عليه ويتابعه؟ ثم إن الطبيب مهما كانت حالة مريضه فإنه ينبغي ألا يصارح المريض إلى هذا الحد، فمثلاً لا يقول له: اذهب فسوف تموت الآن، أو لا أمل في شفائك، أو انطلق حتى لا تعدي الناس فأنت هالك لا محالة، بل إن الطبيب الواعي هو الذي يفسح لمريضه في الأجل ويطمئنه ويعطيه الدواء المناسب، ثم الأمل في وجه الله لا ينقطع، ولذلك فإن أهل العلم هم الأطباء والممرضون والخدم للخلق فلا ينبغي أن يقنطوا الناس في رحمة الله، بل التوبة مفتوحة حتى الغرغرة. السابعة: أن العالم هو الذي يحبب الناس في الله، ويرغبهم في رحمته، ويبين لهم سعة حلمه وعفوه وكرمه لمن تاب وأناب، ولذلك قال العالم للرجل: «ومن يحول بينك وبينها»، فالعلاقة بين العبد وربه موصولة دائمة متينة، فلو أن العبد قطعها وانغمس في شهواته وانطوى على ملذاته، وذاب في رغباته، فإن الله تعالى لا يقطعها ولا ييأس من توبة عبده فهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والعالم مطالب أن يدل الناس على الله، ثم بعد ذلك علاقة العبد بربه لا يطلع عليها إلا الله، فإن شاء قبل منه وغفر له. الثامنة: أن العالم لا يقف عند حد الفتوى الجافة، ولكن عليه أن يوجد للسائل مخرجًا كريمًا يساعد فيه العاصي على أن يتجاوز المحنة، فلقد كان من الممكن أن يكتفي العالم بأن يقول لذلك الرجل: نعم باب التوبة مفتوح فتب إلى الله، ويسكت عند هذا الحد، ولكن العالم لم يكتف بذلك بل إنه دله كيف يعمل؟ وكيف يتصرف؟ وكيف يتوب، ودله على قوم صالحين يعبد الله معهم في أرض كذا، وسماها للرجل؛ لأن صاحب المعصية مهما صحت توبته وقبلت في حاجة إلى من يعلمه ويوجهه، ومن هذا فإن العالم ينبغي أن يجيب السائل بأكثر من السؤال، أو بما وراء السؤال ليزيل عنه كل إشكال. التاسعة: البحث عن هذا الصنف من العلماء، مع إخلاص النية في سؤال أهل الحق، فلو أن الإنسان بحث عن أهل العلم، ولم يوفق لهم في البداية فحق على الله تعالى أن يوفقه ويدله على بغيته، فالله تعالى وفق العاصي القاتل إلى أهل العلم ومقابلتهم والتعلم منهم حين صدقت نيته، وكذلك الحذر من علماء السوء الذين يفتون بغير علم. العاشرة: فضل الصحبة الطيبة، واختيار الصاحب الذي يذكرك بالله ولا يحرمك من نصيحته، ويحافظ عليك حتى من شر نفسك التي بين جنبيك، ولذلك، كان من بركة هذه الصحبة الطيبة أن غفر الله لهذا الرجل بنية اقترابه من الصحبة الصالحة، فإن كان من يقترب يصنع معه ذلك، فماذا بالصاحب الخليل والرفيق القريب. الحادية عشرة: عاقبة الصحبة السيئة لقرناء السوء، كادت تختم لهذا الرجل بخاتمة سيئة، فلقد أماتت قلبه، ودفعته للمنكر، وزينت له القتل، وشجعته عليه، لولا أن الله سلم. الثانية عشر: أن الشيطان أبعد عن الجماعة عنه عن الواحد، وأن من أراد التوبة لابد أن يلتحق بصحبة طيبة، ولا يترك نفسه وحده، حتى لا يقع في مصايد الشيطان ومخالبه ووساوسه التي تفسد على العبد علاقته بالله تعالى. الثالثة عشر: أن الموت يأتي بغتة، وأن العبد إذا علم أنه مهدد بالموت صحح نيته، وعقيدته وعبادته فيلقى الله تعالى على نية حسنة، فمن كان يظن أن يموت هذا القاتل وهو لا يزال بصحته وقوته، ولكن العبد لا يدري متى يموت فينبغي له أن يستعد؛ لأن الموت يأتي بغتة، وعلمه بذلك يدفعه إلى سرعة التوبة والإنابة والتذلل والندم، حتى يعطيه الله فوق نيته الطيبة بغير حساب كرمًا منه تعالى وإحسانًا. الرابعة عشر: لابد أن يستحي الإنسان من عمله، فلسوف يعرض على ربه، ويظهر أمام الملائكة، ولعله يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فلابد من الإخلاص؛ لأن الإخلاص هو الخلاص، والاستحياء من العمل، أن يطلع الخلق على فضائحه، وملائكة الرحمة تلتمس المعذرة لمن تاب وأناب، وملائكة العذاب تطلبه لمن تكبر وظلم واستحق العذاب والعقاب. الخامسة عشر: الانسلاخ عن مكان المعصية من أنفع الأدوية لعلاج اقتراف المعاصي؛ لأن وجود العبد في نفس المكان الذي تعود فيه على الفحش والمخالفات يجعله يحن للمعاصي، فإن هدى الله أهل المكان الأول جازت العودة إليهم؛ لأنهم سيساعدونه على الاستقامة، أما إذا خلا عن ناصح أمين، فالانسلاخ أولى والبعد أنفع. السادسة عشر: إذا أحب الله تعالى عبدًا قبل منه توبته، ووفقه إليها، ومن ثم فإذا علم العبد ذلك حرص عليها لينال هذا الحب والرضوان حتى إذا ما قبض، لقي الله تعالى وهو عنه راض، ولما توقف الحكم على هذا الرجل على المسافة بين الأرض الطيبة أو الأرض السوء، طوى الله تعالى الأرض وقرب التائب من الأرض الطيبة ليكون من أهلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. السابعة عشر: أن الاختلاف ثابت وواقع حتى بين الملائكة، ولكن أدب الاختلاف يقتضي أن يتحاكم كل من الفريقين إلى أهل الحق ليفصلوا بينهم بما أنزل الله، ثم عليهم أن يعظموا حكم الله، ويحكموا أفضل الموجودين حتى يهديهم الله تعالى إلى سواء السبيل. الثامنة عشر: فضل وشرف ابن آدم وأنه حين يستقيم على أمر الله فإنه يكون أشرف من الملائكة، بل إن الملك الذي نزل ليحكم بين الملائكة تصور في صورة آدمي وهذا يدل على شرف الصورة، فكيف بالأصل إذا استقام وأناب، والحمد لله رب العالمين.
|