أمره مهم لا يجوز أن يتصدى له إلا الأئمة الكبار تصدى الأصاغر للفتوى من أشراط الساعة الكفر يكون بالاعتقاد والقول والعمل وهو أعمّ من التكذيب في اللغة الكفر هو الستر.. فالليل كافر وكذلك البحر والزارع لأنه يستر البذور بالتراب الكفر اصطلاحاً.. نقيض للإيمان.. وهو نوعان: مخرج من الملة وغير مخرج منها المطلب الأول : تعريف الكفر وأنواعه تعريف الكفر لغة: أصل الكفر في لغة العرب: الستر والتغطية. ومنه سموا الزراع كفاراً؛ لسترهم البذور بالتراب، ومنه قوله تعالى: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ } (20) سورة الحديد. أي: أعجب الزراع نباته. وسمي الكافر كافراً لأن الكفر غطى قلبه كله، أو لأنه ستر نعم الله تعالى، ويقال للابس السلاح: كافراً، وهو الذي غطاه السلاح. وسمي الليل المظلم كافراً: لأنه يستر بظلمته كل شيء، وكفر الليل الشيء، وكفر عليه: غطاه. وسمي البحر كافراً: لستره ما فيه. ويأتي بمعنى الجحد يقال: كافرني فلان حقي: إذا جحده حقه. قال تعالى: { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } (48) سورة القصص. أي: جاحدون. ورجل مكفر: هو المحسان الذي لا تشكر نعمته. ورجل كافر: جاحد لأنعم الله. والكفر بمعنى البراءة؛ كقوله تعالى حكاية عن الشيطان في خطيئته إذا دخل النار: }إنٌَي كّفّرًتٍ بٌمّا أّشًرّكًتٍمٍونٌي مٌن قّبًلٍ { إبراهيم. أي : تبرأت. الكفر اصطلاحاً: الكفر نقيض الإيمان، آمنا بالله وكفرنا بالطاغوت. وهو أنواع: أولاً: كفر أكبر مخرج من الملة: وهو كل ما حكمت نصوص الشريعة عليه بأنه مخرج من الدائرة الإسلامية، وأن الواقع فيه خالد في النار أبداً! ثانياً: وكفر أصغر غير مخرج من الملة: وهو كل ما أطلق عليه الشارع كلمة الكفر، وقامت الأدلة على أنه لم يرد حقيقة الكفر الأكبر المخرج من الملة والدائرة الإسلامية، وإنما أراد التهديد والزجر الشديد. والمقصود من هذا المبحث: بيان الكفر المخرج من الملة. وهو ستة أنواع: تكذيب، وجحود، وعناد، وإعراض، ونفاق، وشك. وإنما تنوع الكفر هذا النوع بسبب اختلاف مواقف الناس تجاه الحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه: 1 كفر التكذيب: فمن الناس من يكفر بلسانه وقلبه، ولا يقبل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يعتقد كذبه، فهذا كافر ظاهراً وباطناً في أحكام الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: }ّويّوًمّ نّحًشٍرٍ مٌن كٍلٌَ أٍمَّةُ فّوًجْا مٌَمَّن يٍكّذٌَبٍ بٌآيّاتٌنّا فّهٍمً يٍوزّعٍونّ (83 ) حّتَّى إذّا جّاءٍوا قّالّ أّكّذَّبًتٍم بٌآيّاتٌي ولّمً تٍحٌيطٍوا بٌهّا عٌلًمْا أّمَّاذّا كٍنتٍمً تّعًمّلٍونّ { (84 ) النمل. وهذا هو كفر التكذيب، وهذا القسم قليل في الكفار، فإن الله تعالى أيد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة، وأزال به المعذرة. 2 كفر الجحود: ومن الناس من يتيقن بقلبه أنه الحق، ولكنه يكتم ذلك ويكذبه بلسانه، وربما حاربه ببنانه، وذلك ككفر فرعون بموسى، وكفر اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى في فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (14) سورة النمل وقال تعالى في اليهود: { مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (89) سورة البقرة. وقال عزَّ وجلَّ: { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة. وهذا هو كفر الجحود، وهو نوعان: مطلق، ومقيد: فالمطلق: أن يجحد، جملة، ما أنزل الله، وإرساله الرسول. والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو أخبر الله به، عمداً، أو تقديماً لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض. 3 كفر العناد: ومنهم من يقر به ظاهراً وباطناً، بلسانه وقلبه، ولا ينقاد له، بغضاً واستكباراً، ومعارضة لله ورسله، وطعناً في حكمة الآمر به وعدله، فهو وإن كان مصدقاً بهذا الحق، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق، وذلك ككفر إبليس اللعين، فإنه لم يجحد أمر الله، ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، قال تعالى: { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (34) سورة البقرة. وقال تعالى ذاكراً عنه: { قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (61) سورة الإسراء. وهذا هو كفر عناد، أو كفر استكبار وإباء. 4 كفر الإعراض: ومنهم من يعرض عنه، لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يصغي له، ولا يسمعه عمداً واستهتاراً واستكباراً، كما قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (4) سورة فصلت . يقول الطبري: " فاستكبروا عن الإصغاء له، وتدبر ما فيه من حجج الله. فهم لا يصغون له فيسمعوه؛ إعراضاً عنه واستكباراً " . ثم قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (5) سورة فصلت . أي: لا نسمع ما تدعونا إليه؛ استثقالاً لما يدعو إليه وكراهة له، كما يقول الطبري، وهذا هو كفر الإعراض. ويعرِّفه ابن قيم الجوزية فيقول: " وأما كفر الإعراض: كأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه، ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة " . وأوضحه في مكان آخر، فقال: " وكفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول، ولا يحبه، ولا يبغضه، ولا يواليه، ولا يعاديه، بل هو معرض عن متابعته ومعاداته " . وذكره شيخ الإسلام فقال: " والكفر أعمّ من التكذيب، فكل من كذب الرسول كافر، وليس كل كافر مكذباً، بل من يعلم صدقه ويقر به، وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر، أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر، وليس بمكذب " . 5 كفر النفاق: ومن الناس من يكفر به باطناً، ويذعن له ظاهراً رياء الناس، أو ابتغاء مصلحة من المصالح الدنيوية، وهذا هو كفر النفاق. 6 كفر الشك: ومن الناس من يظل في شك وتردد، لا يجزم بشيء، وهذا هو كفر الشك، على أن الشاك لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها، ونظره فيها، فإنه لا يبقى معه شك؛ لأنها مستلزمة للصدق، ولا سيما بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار. وبعد أن فصلنا أنواع الكفر نبين بعد ذلك: أن الكفر يكون بالاعتقاد والقول والعمل: 1 بالاعتقاد: كاعتقاد الشريك لله تعالى في الخلق والتدبير، أو في استحقاق شيء من العبادة كدعاء غير الله، أو الذبح أو النذر أو الركوع أو السجود لغير الله، أو النقص له سبحانه، أو اعتقاد الصاحبة، أو الولد، أو إباحة الزنا، أو الخمر ونحو ذلك. 2 والقول: كسبِّ الله تعالى، أو رسوله، أو ملائكته، أو دين الإسلام، وكذلك الاستهزاء بالله تعالى، أو آياته، أو رسوله، فهذا كفر كيف كان، سواء كان جاداً أم مازحاً، مستحلاً أم غير مستحل، كما قال تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} (66) سورة التوبة . 3 والعمل: كالسجود للصنم والقبر، والشمس والقمر، وإلقاء المصاحف في القاذورات، ونحو ذلك مما يكفر به المرء وإن كان مصدقاً، إلا أن يكون مكرهاً. خطر التكفير لا يسارع في التكفير من كان عنده مسكة من ورع ودين، أو شذرة من علم ويقين، ذلك لأن التكفير وبيل العاقبة، بشع الثمرة، تتصدع له القلوب المؤمنة، وتفزع منه النفوس المطمئنة. ومعلوم ما يعنيه دخول الإنسان في الإسلام أنه يعني خروجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ويعني اهتداءه لصراط الله المستقيم، وترك سبل الشيطان عدو الإنسان، ويعني أنه عضو في جماعة المسلمين، له ما لهم من حقوق، وعليه ما عليهم من واجبات، يتعاون معهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، ويعني أنه يطمع في مغفرة الله ورحمته وثوابه والنجاة من عقابه. التحذير من التكفير ويعني فوق ذلك كله أنه أصبح من أهل الأمل في رضا الله والنجاة من سخطه، فهل يجوز لأحد من البشر أن يخرج من دخل هذه الدائرة التي هذا شأنها، من دخلها مختاراً من باب قاعدة قواعد الإسلام؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ وقد أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم لمن قالها صادقاً مخلصاً من قلبه، دخول الجنة والخروج من النار، حذّر علماء الإسلام من تكفير من دخل في الإسلام، إلا إذا توافرت شروط التكفير وانتفت موانعه. مساوئ التكفير ومن مساوئ التكفير ما يترتب عليه من أحكام عديدة، ووجوه من الوعيد شديدة، كوجوب اللعنة، والغضب، والطبع على القلب، وحبوط الأعمال، والخزي والعار، وعدم المغفرة، ثم الخلود أبد الآبدين في عذاب من رجز أليم، هذا إلى جانب مفارقة الزوجات، وعداوة الأهل والأصحاب، واستحقاق القتل، وعدم الميراث، وتحريم الصلاة عليه، وإبعاد دفنه عن مقابر المسلمين، إلى غير ذلك مما هو مزبور في مصنفات الفقه ودواوين الأحكام، فلا جرم بعدئذ أن يقف الشرع الشريف من أمر التكفير موقفاً صارماً وزاجراً. تحذير مغلظ ولما كان للتكفير خطره العظيم الذي تترتب عليه أحكام كثيرة، تتعلق بمن حكم عليه بالكفر في الدنيا والآخرة، وبمن له به صلة من قرابة وأزواج، وبما له به ارتباط كماله ووظائفه وغيرها، فقد حذّر علماء الإسلام من الانزلاق في هذا الباب والاقتحام لعقباته، تبعاً لتحذير الشارع من ذلك. فقال ابن تيمية رحمه الله: " ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة . دماء المسلمين وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم. والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين؛ فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار؛ ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟! فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟! وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " . والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه تدل بفحوى الخطاب، على تجنب القدح في دينه بأي فادح، فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية، فإن هذه جناية لا تعدلها جناية، وجرأة لا تماثلها جرأة، وأين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه " وقوله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " إلى جانب الأحاديث الخاصة بالترهيب العظيم من تكفير المسلمين: 1 فحدث ثابت بن الضحاك وكان من أصحاب الشجرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله " . 2 وأخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه " متفق عليه وفي رواية لمسلم: " إذا كفر الرجل أخاه " . 3 وعن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك " . 4 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما " رواه البخاري. والحاصل من هذه الأحاديث أن المقول له إن كان كافراً كفراً شرعياً فقد صدق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه، وهذا من أعدل الأجوبة كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله. وكذا من أحسن القول قول الحليمي رحمه الله : " إذا قال ذلك مسلم لمسلم، فهذا على وجهين: إن أراد أن الدين الذي يعتقده كفر، كفر بذلك. وإن أراد أنه كافر في الباطن، ولكنه يظهر الإيمان نفاقاً، لم يكفر. وإن لم يرد شيئاً لم يكفر؛ لأن ظاهره أنه رماه بما لا يعلم في نفسه مثله " ا.هـ. ولكنه يبوء بإثم هذه الكبيرة. قال الإمام أبو عبدالله محمد بن علي المازري في كتاب " المعلم " : من كفّر أحداً من أهل القبلة فإن كان مستبيحاً ذلك فقد كفر وإلا فهو فاسق. يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه ويعزره بما يكون رادعاً لأمثاله، فإن ترك مع القدرة عليه فهو آثم. والله تعالى أعلم. وقد قال جماعة من أهل العلم في قول الله تعالى: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا َ} (11) سورة الحجرات. هو قول الرجل لأخيه: يا كافر يا فاسق، وهذا موافق لهذا الحديث، فالقرآن والسنّة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه. لا تكفير حتى تقام الحجة وعلى ما أرشد إليه الشرع المطهر مضى العلماء من السلف والخلف يحذّرون من العجلة في التكفير ويرهبون؛ حماية لأعراض المسلمين أن تنتهك، وصيانة لدمائهم أن تسفك. قال العلاء بن زياد التابعي الجليل: " ما يضرك شهدت على مسلم بفكر أو قتلته " . وقال أبو حامد الغزالي: " والذي ينبغي الاحتراز منه: " التكفير " ، ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله، خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم " . وقال ابن أبي العز الحنفي: " إنه لمن أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت " . وقال ابن عبدالبر: " القرآن والسنّة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له، أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً، أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام، لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر، أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة " . وقال القرطبي: " وباب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئاً " . وقال ابن عابدين: والذي تحرر ألا يفتي بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن، أو كان في كفره اختلاف، ولو رواية ضعيفة، فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتفكير فيها، وقد ألزمت نفسي ألا أفتي بشيء منها. يقول ابن حجر الهيتمي: " ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظيم خطره، وغلبة عدم قصده، سيما من العوام، وما زال أئمتنا يعني الشافعية على ذلك قديماً وحديثاً " . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة، وإذا تبين ذلك، فاعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا " . إثم يتضاعف وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: " فلعن المسلم المعين حرام، وأشد منه رميه بالكفر، وخروجه عن الإسلام، وفي ذلك أمور غير مرضية: منها: أنه إشمات الأعداء بأهل هذه الملة الزكية، وتمكينهم بذلك من القدح في المسلمين، واستضعافهم لشرائع هذا الدين. ومنها: أنه ربما يقتدي بالرامي فيما رمى، فيتضاعف وزره بعدد من تبعه مأثماً، وقل أن يسلم من رمى بكفر مسلماً " . ثم ذكر الأحاديث التي ذكرناها في الترهيب من التكفير، ثم قال: " فهل بعد هذا الوعيد من مزيد في التهديد، ولعل الشيطان يزين لمن اتبع هواه، ورمى بالكفر والخروج من الإسلام أخاه، أنه تكلم فيه بحق ورماه، وأنه من باب الجرح والتعديل، لا يسعه السكوت عن القليل من ذلك، فكيف بالجليل؟ هيهات هيهات، إن في مجال الكلام في الرجال العقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقبها هوى لا منجي له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه: ما السبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك " . وقال الشوكاني: " اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من الشمس، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير " . أعظم أمور الدين وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: " وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدين، وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة " . تورع الجمهور وقد اشتد نكير ابن الوزير على من يسارع في تكفير المبتدعة من المسلمين، وذكر ثلاثة عشر وجهاً للتوقف في تكفير من فحشت بدعته منهم، فكان مما قال: " الوجه الأول: خوف الخطأ العظيم في ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيم ذلك " فكذر أحاديث الترهيب من التكفير وغيرها ثم قال: " وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات، وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام، وتجنبه للكبائر، وظهور أمارات صدقه في تصديقه، لأجل غلطة في بدعة، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها، أو قريب منها. ثم من العبر الكبار في ذلك أن الجمهور لم يكفروا من كفر المسلم متأولاً في تكفيره غير متعمد، مع أن هذه الأحاديث الكثيرة تقتضي ذلك، والنصوص أصح طرق التكفير، فإذا تورع الجمهور من تكفير من اقتضت النصوص كفره، فكيف لا يكون الورع أشد من تكفير من لم يرد في كفره نص واحد، فاعتبر تورع الجمهور هنا، وتعلم الورع منهم في ذلك " . ثم قال: " الوجه التاسع: أن الوقف عن التكفير عند التعارض والاشتباه أولى وأحوط، وذلك أن الخطأ في الوقف على تقديره تقصيراً في حق من حقوق الغني الحميد العفو الواسع، أسمح الغرماء، وأرحم الرحماء، وأحكم الحكماء. الخطأ في التكفير والخطأ في التكفير على تقديره أعظم الجنايات على عباده المسلمين المؤمنين، فقد أخل بحق المخلوق المسلم، بل تعدى عليه، وظلمه أكبر الظلم، وأفحشه، فأخرجه من الإسلام وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن جميع رسله وكتبه وما جاء فيها عن الله حق لا شك فيه، ولا ريب في شيء منه على الجملة، وإنما أخطأ في بعض التفاصيل، وقد صرح بالتأويل فيما أخطأ فيه، فإن وصف الله بوصف نقص فلاعتقاده أنه وصف كمال، وإن نسب إليه قبيحاً فلاعتقاده أنه حسن، وإن تعمد القبيح في ذلك، فمحل التعمد هو القلب المحجوب عنا سرائره، والحاكم فيه علام العيوب. وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة، وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى، وتعظيمهم لله تعالى بتكفير عاصيه، فلا يأمن المكفر أن يقع في مثل ذنبهم، وهذا خطر في الدين جليل، فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل؛ ولأجل هذا عذر المتوقف في التكفير، وكان هذا هو الصحيح عند المحققين، بل كما قامت عليه الدلائل والبراهين. الوجه العاشر: أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكفر أهل الجمل وصفِّين، ولم يسر فيهم السيرة في الكافرين، مع صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق " . وسار فيهم السيرة في البغاة على إمام الحق، ولم يسر فيهم السيرة في أهل الكفر، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة: " إنه لولا سيرته في ذلك ما عرفت أحكام البغاة، وإنما كان فعله فيهم حجة على البعد عن التكفير " . وكلام الأئمة في خطر التكفير، والتنفير من العجلة فيه، من الكثرة بمكان، بحيث يتعذر استقصاؤه، وقد اقتصرت على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها المقصود، والله الموفق. ضوابط التكفير وأصوله لا ينبغي لمؤمن أن يخوض في مسائل التكفير من قبل أن يقف على أصوله، ويتحقق من شروطه وضوابطه، وإلا أورد نفسه المهالك والآثام، وباء بغضب الرحمن؛ ذلك أن مسائل التكفير من أعظم مسائل الدين وأكثرها دقة، لا يتمكن منها إلا الأكابر من أهل العلم الواسع، والفهم الثاقب. أهم ضوابط التكفير وأصوله وشروطه: 1 التكفير حكم شرعي وحق عزَّ وجلَّ: التكفير حكم شرعي، وحق محض للرب سبحانه، لا تملكه هيئة من الهيئات، أو جماعة من الجماعات، ولا اعتبار فيه لعقل أو ذوق، ولا دخل فيه لحماسة طاغية أو عداوة ظاهرة، ولا يحمل عليه ظلم ظالم تمادى في ظلمه وغيه، وإنما لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه، يقولون: لا نكفر إلا من كفرنا، فإن الكفر ليس حقاً لهم، بل هو حق الله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة مع أهله، بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سبّ النصارى نبينا، لم يكن لنا أن نسبّ المسيح، والمبتدعة إذا كفروا أبا بكر وعمر، فليس لنا أن نكفر علياً " . وقال في مكان آخر: " فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف بكفرهم، إذ الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله، لأن الكذب والزنى حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يفكر إلا من كفره الله ورسوله " . 2 الأصل في المسلم العدالة: ومن ضوابط التكفير أن الأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه، لأن في ذلك محذورين عظيمين: أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم والمحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به. الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالماً منه، ففي صحيح مسلم: عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما " . وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين: أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه، وتنتفي موانعه. الحكم بالظاهر إن أصل الحكم بالظاهر كما يقول الشاطبي رحمه الله مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، فإن المنافقين الذين قالوا: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (8) سورة البقرة . هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس، ويصومون، ويحجون، ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا نحو ذلك، بل لما مات عبدالله بن أبي بن سلول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبدالله وهو من خيار المؤمنين. فكان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل شيئاً منها إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ا} (94) سورة النساء. والمراد كما يقول الشوكاني في تفسيره نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية. الأستاذ بجامعتي الإمام والأردن والحائز على جائزة الأمير نايف العالمية للسنة النبوية
|