تتفاوت العلوم في سعة دائرة من يحتاجون إليها، ما بين علوم قاصرة على المتخصصين فيها لا يحتاجها غيرهم، وعلوم تتسع فيها دائرة الحاجة وتتقاطع مع علوم أخرى.
ومهما اتسعت دائرة الحاجة إلى علم من العلوم فإن العلم الشرعي يبقى أوسع العلوم احتياجاً؛ فالمختص فيه يحتاجه كشأن أيِّ متخصص في علم من العلوم، وكثير من المتخصصين في مجالات أخرى يحتاجون منه ما يرتبط بتخصصهم كالمتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والاقتصاد والمعاملات المالية، والعلاقات الدولية والحقوق... إلخ.
كما أن كل مسلم يحتاج إلى العلم الشرعي ليعرف ما تصح به عبادته وما لا تصح، ويعرف الحلال والحرام في معاملاته وما يأتي ويذر، وليكون أكثر صلة بخالقه وقرباً منه.
ومن هنا يمكن أن نحدد دوائر أربع للحاجة للعلم الشرعي:
- الدائرة الأولى: المتخصص في المجال نفسه، كالعقيدة، والحديث، والفقه، والتفسير.
- الدائرة الثانية: ما يحتاجه متخصص في أحد فروع العلم الشرعي من فرع آخر كحاجة المتخصص في علم الفقه إلى الحديث، وحاجة المتخصص في علم التفسير إلى علم أصول الفقه.
- الدائرة الثالثة: ما يحتاجه متخصص في غير علوم الشريعة، كحاجة المتخصص في الاقتصاد إلى علم الفقه.
- الدائرة الرابعة: ما يحتاجه عامة المسلمين مما يتصل بتدينهم، وهم دائرة واسعة فيهم المثقفون وأساتذة الجامعات، وفيهم التقنيون، وفيهم من هو أقل تعليماً، وفيهم الأمي والأمية.
إن الوعي بهذه المستويات ليس بقدر من التعقيد يجعله خافياً على المهتمين بشأن العلم الشرعي، لكن المشكلة تكمن في التعامل معه.
وتنوُّع دوائر الاحتياج للعلم الشرعي يفرض على المعتنين بنشره ما يلي:
- مراعاة هذا التنوع في مناهج التعليم الشرعي سواء ما يتصل بالتأليف، أو اختيار مؤلفات ما، أو طرق التدريس وأساليبه؛ فلكل دائرة أهداف قد لا تشترك فيها مع الدوائر الأخرى.
- مراعاة هذا التنوع في لغة التأليف والتدريس؛ فاللغة التي تناسب الدوائر المتخصصة ليست بالضرورة هي الملائمة للدوائر الأخرى.
- مراعاة هذا التنوع في القدر الذي تحتاجه كل دائرة، وفـي حجـم التفاصـيل التـي تتطلبـها؛ فغيـر المتخصصـين لا حاجة لهم بالتفاصيل المرتبطة بآراء الفِرَق المخالفة حين ندرِّسهم العقيـدة، ولا التفـاصيـل المـرتبطـة بنقـاش الأدلة أو بمسائل نادرة حين ندرِّسهم الفقه.
إن الإصرار على قالَب واحد ونموذج لتقديم العلم الشرعي لكافة الفئات ـ بغضِّ النظر عن مستواها وطبيعة احتياجها - يقلل من فرص انتشاره، ومن تحقيقه لأهدافه.
والفصل بين محتوى العلم في أصله، وبين محتوى ما يُقَدَّم، والفصل بين الغايات والوسائل، والفصل بين التعبد بطلب العلم الشرعي وبين الممارسات والعمل البشري - إن هذا الفصل يعطي المهتمين بشأن العلم الشرعي أفقاً أوسع ومرونة تتيح لهم تطوير أساليب التعليم الشرعي بما يسهم في تحقيق مزيد من أهدافه
|