من المهم أن ننقد ذاتنا، لا لنجلدها ونلتذ بتعذيبها، ولكن لنصحِّح مسارها، ونتلافى وجوه تقصيرها، فالصامت عن عيوبه لا يمكن أن يعالجها، ومُغمِض العين عن ثغرات نفسه سيظل حاملاً أثقالاً وأعباءً غير هينة. ومن عيوب حياة المسلمين المعاصرة: هذه الألوان العديدة والمنتشرة من التدين الزائف: كأنْ يؤمن لسان الإنسان ولا تؤمن بقية جوارحه، فتسمع من الرجل كلامًا جميلاً، لكن لا ترى منه إلا أقبح الفعال.
وكأنْ يؤمن ظاهر الإنسان ولا يؤمن باطنه، فيبدو للناس حَسنَ القول والفعل في الظاهر، فإذا خالطوه أو ائتمنوه على عِرض أو مال كان غير ذلك. ومثل أنْ يرتبط تدين الإنسان بالمواسم والمناسبات، وهذا هو موضوع هذه السطور. هدايا من الله: مواسم العبادة السنوية هدايا من الله لعباده، يتيح لهم فيها أن يصححوا مسار حياتهم، ويستأنفوا توجههم بشكل قويم إلى ربهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام: ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ ما تقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) [ رواه البخاري ومسلم ]، وعن الحج: ( مَنْ حَجّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لهُ ما تقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) [ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ]. فالهدف الأكبر من العبادات الموسمية هو إخراج الإنسان من أسر عاداته إلى نوع من التجديد والتغيير، تنتعش به حياته العقلية والقلبية، وتتجدد مسيرته في إطار المغفرة التي ينعم الله بها عليه، بعد أن حمل أوزار أشهر عدة. هذا المعنى هو الذي يجعل الصلاة في قلب شعائر الإسلام الأربع، فهذه العبادة الجليلة تلازم المسلم طوال العام، فليست هناك إجازة من الصلاة أو توقف عنها، ما دامت الروح والعقل في جسد صاحبهما، فهي تأتينا بالليل والنهار، والصبح والمساء: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى" غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا }[ الإسراء : 87 ]، وأما بقية الشعائر الكبرى (الزكاة والصيام والحج) فهي عبادات موسمية، تأتي كل عام، وهدفها التجديد وبعث الحيوية من جديد. ومن هنا تتكامل الصورة في العبادة، فصلَة المسلم بربه لا تنتهي ما دام حياً، إلا أن الطرق والوسائل التي تتحقق بها هذه الصلة لابد فيها من التنوع، حتى لا يمل العابد، ولابد فيها من التغيير حتى لا تصيب العادةُ أعماله بالجمود وفقدان الروح، فكانت الصلاة تحقيقًا للصلة المستمرة بالله تعالى، وبقية الشعائر للتجديد والتطهير من شتى وجوه التقصير؛ لتتواصل المسيرة بحيوية أعظم. هذه الهدايا الموسمية التي تفضَّل الله بها على عباده، يحسد المرضى عليها الأصحاء، ويحسد غيرُ المستطيعين لها من استطاع إليها سبيلاً؛ لأن المحروم أكثر إدراكًا للخير، وأعمق شعورًا بقيمته. ولا حجة للأحياء ولا الأصحاء ولا المستطيعين تمنعهم من إحسان العبادة وإكمال الطاعة؛ شكلاً ومضمونًا، إلا أن تكون الغفلة قد حجبت القلوب، أو تكونَ الذنوب قد أصابت الأفئدة بالقسوة، وحالت دون شعورها بمعنى الشعائر التي وضع الله فيها أعظم الحكم وأرقى المعاني. إن الشعائر التي يؤديها المسلم تجارب شخصية للعبد في ميدان الطاعة؛ بمعنى أنها حلاوة يُتاح له أن يتذوقها بنفسه، لا أن يحكي الناس له عنها، أو يتذوقوها نيابة عنه.. إلا أن القلب لا يتذوق حلاوة الطاعة لمولاه إلا إذا سَلِم من الأدواء القتَّالة، ولم يتركه صاحبه فريسة بين يدي الشياطين والأهواء، بل سعى صاحب هذا القلب للهدى جادًا صادقًا، مستعينًا على ذلك بمولاه الذي لا يخيِّب من طلب منه الهدى بصدق وإخلاص للحق: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17].
كشف حساب الظاهرة التي نشكو منها هي أن يتحول تديننا إلى تدين مناسبات، يرتبط بزمان معين، دون أن تبقى من هذا التدين إلا ظلال أشبه بالأوهام والخيالات، تصحبنا بقية العام حتى يعاود الموسم المبارك زيارته من جديد! ولا تقف وراء هذه الظاهرة قلةُ ما نأتي من عمل في المواسم، بل إن حصاد شهر رمضان المبارك مثلاً يبدو في العادة - لدى المسلم العادي - كبيرًا جدًا وبشكل لافت للنظر. وهذه محاولة لتقريب الصورة من خلال نموذج لمسلم متوسط الأداء لعباداته، على اعتبار أنه صام الشهر كاملاً، وصلى ركعات الفرائض، وأضاف عليها خمس عشرة ركعة من السنن في اليوم (القيام + ركعات أخرى)، واعتكف يومًا وليلة فقط، وختم القرآن مرة واحدة خلال الشهر، واستمع إلى عشر دقائق من العلم كل يوم، إضافة إلى أربع جمعات (30 دقيقة للخطبة مثلاً): وهذا النموذج في الحقيقة فيه ميل إلى التبسيط والأخذ بالأقل، فكثير من المسلمين تتضاعف أكثر الأرقام السابقة بالنسبة إليهم أضعافًا كثيرة، فيختمون القرآن مرات، ويعتكفون العشر الأواخر كاملة، ويصلون ما لا يُحصَى من النوافل، ويمكثون الساعات الطوال في صلاة التراويح. لكن النموذج السابق يكفي لبيان المعنى المراد، وهو أن المسلم يصلي في شهر رمضان حوالي ألف ركعة، ويمتنع فيه عن أنواع عديدة من المباحات (شهوتي الفرج والبطن) أثناء النهار بما يقارب خمسة عشر يومًا كاملاً بليله ونهاره، ويمكث مع القرآن والذكر ثماني عشرة ساعة، ويبقي في المسجد ما مجموعه ثلاثة أيام ونصف يوم تقريباً، ويستمع لحوالي ثلث يوم كامل من العلم.. إذن ما يقوم به المسلم عادة في شهر رمضان عمل ضخم وكبير، ويستحق أن تكون له آثار هائلة في حياة صاحبه، تصل إلى درجة إحداث ثورة في حياته. وقد عنون الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي يرحمه الله إحدى مقالاته الشهيرة التي كتبها منذ سبعين سنة كاملة (سنة 1353هـ) باسم "شهر للثورة فلسفة الصيام".. لكن ما يحدث عادة هو أننا لا نجد أثرًا كبيرًا لهذه الأعمال في حياة صاحبها! فما سبب هذا؟ ما سبب أن يتحول جبل من العمل إلى ركام من الرماد، فلا يترك إلا أثرًا ضئيلاً ينمحي بمرور الأيام والابتعاد عن رمضان؟
أسباب متنوعة هذه ظاهرة مركبة، ففيها عناصر من ظروف العصر، وعناصر من حال الثقافة الإسلامية عند أصحابها، وأخرى من فهم طبيعة هذا الدين المتكامل، وغير ذلك.. وبسبب هذا التركيب لن نستطيع رد الظاهرة برمتها إلى سبب واحد، بل هناك أسباب عدة، لعل أهمها ما يلي:1- دخولنا في موسم العبادة دون وضوح الهدف الذي نستهدفه من التزامنا فيها بما أُمرنا به من الطاعة وهجر العصيان، ويمكن أن يكون هدفنا هنا ما يأتي: أ- مجرد إعلان الخضوع والتسليم لله فيما أمر، مع الاستعداد لأن نسحب هذا الأمر على بقية مناحي حياتنا وأيام عمرنا. ب- بلوغ "المغفرة" من الله تعالى؛ حتى تكون قلوبنا أكثر عافية وقدرة على الاستمرار. ج- استئناف الطريق إلى الله تعالى، على أن يكون الموسم هو البدء وما بعده استمرار له، لا أن يكون الموسم بدءًا للعودة إلى الله وختامًا لها معًا. 2- العيش مع العبادة في شكلها وهيئتها، دون معايشة لها في روحها وحقيقتها، فالقيام طويل، ولكن الخشوع قليل، والصيام جوع وعطش، ولكن الجوارح تَسْرح حرة حيث شاءت، وقراءة القرآن كثيرة، ولكنها رطانات وسباقات للوصول إلى "الختمة"، وأصوات متداخلة تخطئ القراءة المتدبّرة الواعية. 3- تميُّز أيام المواسم، وكثرة البركة فيها دفعتا الناس في حال السلب إلى الفصل بينها وبين بقية شهور السنة، فانتزعوا الأيام من سياقها الزمني الذي رتبها الله عليه، ونسوا أن تميز هذه الأيام نابع من الخير الذي وضعه الله فيها، ومن الأثر الكبير الذي يمكن أن تتركه في حياة صاحبها طوال العام، وربما طوال العمر. |