لا يعاني الواقع من شيئ معاناته من " التحيز " و " التصنيف " ، فالنفسية ( المصنفة ) هي نفسية ترى الــ" تحيز " ضرورة لأي حكم سواء كان الحكم على الوقائع ، أو على الأشخاص ، أو على الهيئات والأحداث .
ماذا أقصد بالتحيز ؟؟
إن المطالع لما يدور بالساحة من صراع بين أفراد وجماعات ، ليدرك أن الانسان لا بد إن يتترس قبل إن يناقش ، فهو يتترس بفكر حزب أو جماعة او شخص ، ثم ينطلق من خلاله لمناقشة أي فكرة أمامه ، وهذا التحيز يؤدي مباشرة إلى " التصنيف " ، وقد يكون التحيز إلى " شلة " متوافقة بالفكرة والرأي ، وقد يصنع هذا الرأي توافق شعوري من خلال إلفة بين مجموعة من الاشخاص ، فتراه يناصر أقوالهم ، ولا يند عن شي منها البتة ، وقد تدخل الاعتبارات العاطفية في الطريق ، فيترك فكرته التي يؤمن بها ليقول بقول فلان وعلان مخافة أن يفقد صلته الطويلة به ، لأننا تعودنا في واقعنا على " المفاصلة " في الأفكار ، وطردها على مستوى واحد لا يقبل التجزئة ، ولا التفريق بين ما يمكن قبول الخلاف فيه وما لا يمكن قبول الخلاف فيه ، ولا نميز في كل قضايانا بين موارد القطع واليقين ، وبين موارد الظن والخلاف ..
إن هذا " التحيز " يحجب عن الانسان الرؤية " الاستقلالية " التي تجعله يتنبى القول عن قناعة ويقين ، ويحقق بذلك الرضا النفسي ، ويحقق كذلك ذاته وهويته من خلال رؤية هو مؤمن بها ايمانيا ذاتيا بعيدا عن أي مؤثر ، أو مدرسة ، او فئة ، إذ الشخصية المتحيزة هي شخصية مقولبة ومقودة ، ومبرمجة التفكير على رأي واحد قد حجب عنه أي قول آخر ، إذ لا تصدر إلا من جهة واحدة ، وخط مستقيم لا يوجد فيه تعرجات تشحذ الذهن على النظر والتمعن ، وبهذا يسهم هذا التحيز بقتل ملكة الانسان الابداعية الفكرية ، فيعيش الانسان ذيليا لا يتحرك إلا حرّك ، ولا ينظر إلا بعين غيره ، ومثل هذا قد تعرف فكرته قبل أن يقولها ، وتعرف طريقته قبل إن يسيرها ، وتعرف فتواه قبل إن يتفوه بها ..
وهذا " التحيز " الذي يتخندق به الانسان يجعله ينظر إلى رؤيه خصمه من خلال " تصنيفه " له ، فهو يحين يصنف داعية مثلا بأنه ( متساهل ) فإن هذا كفيل بأن يرد فكرته قبل إن يقرأها ، وحين يصنف عالما بأنه ( حكومي ) فإن هذا يجعل بينه وبين هذا العالم خنادق نفسية عميقة ، فلا ينظر إلى قوله من خلال معيار الفكر والعلم ، بل ينظر إلى قوله من خلال " تصنيفه " له إولا ، ثم تحيزه إلى التيار المقابل لتيار هذا الشيخ ثانيا ، فيقطع على نفسه فرصة " التأمل " و " الاستقلال " في قبول الأفكار وردها .. ثم إن هذا " التصنيف " و " التحيز " يجعل الإنسان يبطل قناعاته الذاتيه عن الاشخاص ، ويحاكمهم من خلال منظوره التصنيفي ، فهو لا يجادل في أن هذا " الشيخ " هو سليم الاعتقاد ، محقق المسائل ، عالم بالعقل والنقل ، ولكنه يترك هذا كله لأنه رأى إن هذا الشيخ فيه نوع " تساهل " ، او فيه " انفتاح " او غير ذلك من المعاني المعلبة الجاهزة التي يرمي بها خصومه ليؤثر على نفسه وعلى من حوله في قطع الطريق على من يريد إن يتأمل بالاقوال دون أي مؤثر ..
إن كثيرا من الشباب يعاني من " خلوصية " ذاتية ، ويفترضها في المقابل ، فهو لا يمكن إن يفصّل في المسائل او في الاشخاص ، فيقبل البعض ويرفض البعض ، بل هو يفترض " الكمال " المطلق في الذات او في المقابل ، ثم لا يقبل من الانسان إن يتجزأ فيخطي مرة ويصيب أخرى ، بل لا بد إن يكون مصيبا على طول الخط ، وأي خطأ يحصل يجعله يفاصل الرجل كأنه لم يعرفه في يوم من الأيام ، وهذا الأمر هو الذي يحدث هذا " الانبعاج " في الدعوة والميادين الثقافية ، وهو الذي يشذر العمل ويشطر العاملين ، ويجعلهم شيعا وأحزابا ..
لقد جاء الاسلام ليحرر الانسان من التبعية الجاهلية ، ويرسخ معالم التبعية العلمية ، ويقضي على كل تعصب جاهلي في الفكر والسلوك ، فيعيش الانسان المسلم حرا في كرامته ، وحرا في اختياراته في إطار الاسلام وتعاليمه ، دون أن يسلم نفسه لمن يقوده مثل الشاة تقاد إلى حتفها ، وهذه الاستقلالية التي رسخها الاسلام هي التي كان يعيبها على الكافرين الذين يقولون ( إنا وجدنا آباءنا على ملة ، وإنا على آثارهم مقتدون ) ، وهي التي عاب فيها النصارى الذين ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم إربابا من دون الله ) ، حين لا ينظر الانسان إلى الكون والانسان والحياة إلا من خلال ثقب فكر فلان أو علان ، والله تعالى قد منحه العقل النافذ ، والبصيرة الناقده ، والرؤية التي سلبها البهيمة التي تهيم بلا هدف ولا غاية ..
إن أشد ما ابتليت به الأمة في هذا الزمن هو ضمور الولاء للاسلام والدين ، وتضخم الولاءات لغيره ، حين يقدّم الانسان رؤية الاشخاص الذين يتحيز إليهم على غيرهم لا بمعيار العلم والنص وقواعد الشريعة وكلياتها ، بل بمعيار الحزب او الجماعة او الفئة او الشلة ، ضاربا بكل القواعد التي درسها عرض الحائط ، متشبثا بقوم قد يرفضونه او يطردونه من جنتهم في أي لحظة ، وحينها يعض أصابع الندم على اسلامه عقله لغيره ، واعطاءه الاخرين فرصة احتكاره وتسييره بعد إن حرره الله من رق الأفكار والاشخاص ، وجعله مسلما منيبيا لله وحده لا شريك له .
إن السلامة من " التصنيف " و " التحيز " تجعل الانسان ينظر إلى الحياة بنظرة عدل وانصاف وسلامه صدر ، فيكون كالنحلة التي تتجول في الفضاء الزاهي بحثا على رحيق طيب ، فيعيش في الفضاء الرحب الواسع ، بعيدا عن ضيق المناهج ، وعطن التحزبات التي تقضي على فكر الانسان وعقله ، وهذا كله لا يعني الغاء التعاون على البر والتقوى ، والعمل الجماعي الذي يثمر نهضة للأمة ، بل يقضي على إهدار كرامة الانسان وعبوديته لغير الله تعالى ..
إن " الاستقلالية " في التفكير لا تعني قطع الإنسان العلائق بالاخرين ، بل تعني استقلاله في الاختيارات النهائية في الافكار ، بعد إن يناقش فيها أهل العلم والفكر والعقل والرأي ، حتى يصل من خلال التأمل والاستنباط وشحذ الذهن واستفراغ الجهد والطاقة إلى رأي يراه صوابا ، دون أن يكون لهؤلاء تأثير على هذا الاختيار ، حينها يتنفس الصعداء ، لأنه مستعد أن يتراجع في أي لحظة عن هذا القول إذا استبان له ضعفه ، خلافا لمن هو مبرمج الرأي ، فلا يتراجع عنه حتى يتراجع عنه فلان ابن فلان .. والله المستعان !
وفق الله الجميع !
|