تكاثرت ـ هذه الأيام ـ أصوات المطالبين بتعظيم ما يسمّى «الآثار الإسلامية»، والمنادين بالعناية والاحتفاء بها وتشييدها، وأن تكون معالم سياحية يؤمّها القاصي والداني مع أن الكثير منها لم يصح تاريخياً.
تباكى أولئك على «الآثار النبوية»، وأظهروا العويل والنحيب على اندراس هذه المقدسات والآثار، بل إن صحفاً أجنبية شاركت القوم في هذا «التأبين» فوصفتْ إزالة هذه الآثار والمشاهد بأنها مأساة تاريخية إنسانية لا مثيل لها(1)!
بل أفضى الأمر بهؤلاء المولعين بالآثار إلى تأليب الحكومات على من خالفهم، واتّهموهم بأنهم «وهابية جفاة»! أو «طالبان» والذين هدموا الأوثان في بلاد الأفغان(2)!
ولنا مع هذه الظاهرة المتزايدة التعليقات الآتية:
ـ إن هذا النشاط المحموم في سبيل إحياء ونبش الآثار الإسلامية ربما كان سبيلاً إلى إحياء الوثنية الجاهلية من جديد؛ فشياطين الإنس والجن يزيّنون الشرك، ويخرجونه في قوالب برّاقة، فأول شرك وقع في الأرض كان باعثه الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، فإنّ وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً رجال صالحون من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً(3)، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبِدت(4).
وفي بعض الروايات أن التشوق إلى عبادة الله هو الباعثُ على اتخاذ هذه الأوثان(5).
وتعظيم الآثار وتقديسها في هذه الأيام يحاكي تعظيم الصالحين والغلو فيهم عند قوم نوح ـ عليه السلام ـ، فالانحراف والضلال قد يُسمّى بغير اسمه، كما أنه يأتي متدرجاً خطوة تلو خطوة كما حصل في قوم نوح وأشباههم.
ـ يدعو بعضهم إلى المحافظة على الآثار وحمايتها عن جهل بالموقف الشرعي من تلك الآثار، فلا يعلم هؤلاء أن للشرع نصوصاً وأحكاماً تجاه هذه الآثار، ولسان حالهم: أن الأمم الأخرى تحافظ على آثارها؛ كالحمامات الرومانية، والملاعب الإغريقية، والتماثيل الأثرية، والأصنام المنحوتة... فعلينا أن نحافظ على آثارنا كشأن الأمم المجاورة.
فالكثير من المهتمين بسياحة الآثار، ومن أساتذة أقسام الآثار في الجامعات يجهلون الأحكام العقدية والفقهية المتعلقة بتلك الآثار، بل إن بعضهم لا يظن أن للدين موقفاً أو صلة بتلك الآثار.
ـ أن الآثار الإسلامية منها ما اعتبره الشارع وبيّن فضله ورفع قدره؛ كالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى)، وكذا الأعياد المكانية المشروعة؛ كمنى، وعرفة، ومزدلفة. وأما سائر الآثار الأخرى فلم يكن السلف الصالح يحتفون بها، ولم يشتغلوا بتجديدها فضلاً عن تشييدها أو صيانتها، فلم يُنقل عنهم مع توفر دواعي النقل شيئاً من الاحتفاء أو الإكرام.
ولما رأى عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ أقواماً يبتدرون مسـجداً، فـقال: مـا هـذا؟ قـالوا: مسـجد صـلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيـائهم بِيَـعاً، من عرضـت له مـنكم فـيه الـصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمضِ(1).
وكان إمام دار الهجرة (مالك بن أنس) وغيره من علماء المديـنة يكـرهـون إتيـان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمـديـنة ما عدا قباء وأحد، كما أخرجه (ابن وضاح).
يقـول (ابـن تيـميّة): «إن الصحابة والـتابعـين لـهم بإحسان لم يبـنوا قـط على قبـر نبـي ولا رجـل صـالح، ولا جعلوه مـشهداً أو مــزاراً، ولا علـى شــيء من آثـار الأنبياء مثل؛ مكان نزل فـيه أو صلَّى فيه، أو فعل شيئاً من ذلك»(2).
ويــقـول ـ أيـضـاً ـ: «كـل ما عـظـم بالبـاطــل مــن مـكان أو زمـان أو حجر أو شجر أو بُنية، يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة»(3).
ـ لا يزال تجديد هذه الآثار «المفتعلة» والمشاهد المحدثة محلّ شك كبير ونزاع كثير بين المؤرخين، مما يؤكد أن ليس من دين الإسلام التعرّفُ على تلك المواطن، وإذا كانت آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- كالشَّعَرَات ونحوها؛ والتي يُشرع التبرك فيها تحتاج إلى برهان واضح في إثبات بقائها، لا سيما مع مرور مئات السنين على تلك الآثار، وكثرة الدعاوى في شأنها، فكيف الشأن بتحديد أماكن محدثة أعرض السلف الصالح عن الاحتفاء أو الاشتغال بها؟!
يقول العلامة (أحمد تيمور) ـ عن الآثار النبوية ـ: «لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة؛ غير أنّا لم نرَ أحداً من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله أعلم بها. وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها في الشكوك»(4).
وكتـب علامـة الجـزيرة العربـية الأستاذ المؤرخ (حمد الجـاسر) بحـثاً بعـنوان «الآثار الإسلامية في مكة المشرَّفة»(5)، وبيَّن اختلاف المؤرِّخين وتعدد أقوالهم في تحديد موطن مولد النـبي -صلى الله عليه وسلم-، وساق الأستاذ الجاسر مقالة الرحالة (العياشي، ت 1037هـ) ـ في هذا العدد ـ: «والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك بعد مجيء الإسلام؛ فقد عُلِم من حال الصحابة وتابعيهم ضعفُ اعتنائهم بالتقيد بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي؛ لصرفهم اعتنائهم ـ رضي الله عنهم ـ لما هو أهم من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسّنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام، فما بالك بما وقع في الجاهلية؟!».
وحكى (الجاسر) أن قبر أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ كان مجهولاً لدى مؤرخي مكة حتى القرن الثامن الهجري، ثم أصبح معروفاً محدد المكان في القرون المتأخرة حتى ذلك اليوم، بعد أن رأى أحد العارفين في النوم! كأن نوراً ينبعث من مقبرة (المعلاَّة)، ولما علم أمير مكة آنذاك بخبر تلك الرؤيا أمر ببناء قُبَّة فوق المكان الذي رأى ذلك العارف أن النور ينبعث منه، جازماً ذلك الأمير أن ذلك المكان هو قبر خديجة! وهكذا تُصيّر الخرافات إلى حقائق بيّنات. والله المستعان.
ـ الولع بالآثار المكانية و «الهيام» بالموالد والمشاهد، أضحى ذلك كله سبيلاً إلى التفلت من الشرائع، والتنصل من سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، واتباع الهوى، وصَدَقَ الله ـ تعالى ـ القائل: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، فترى القوم عاكفين على موالد محدثة، متعبدين عند آثار مبتدعة، قد عمروا المشاهد وهجروا المساجد... فإن في النفوس ميلاً إلى الانحلال من الاتباع.
وكما قال (أبو الوفاء ابن عقيل): «لـمّا صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم كفار عندي بهذه الأوضاع؛ مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، وأَخْذِ التراب تبركاً...»(6).
وقال شيخ الإسلام (ابن تيميّة): «إن النفوس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري ـ رحمه الله ـ: «ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه»، ثم هذه مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً»(7).
وأخيراً فإن إظهار السنن وتبليغ رسالات الله كفيل بدحض شبهات دعاة الآثار على الاطلاق.
كما أن إظهار الأبحاث التاريخية الجادة التي تكشف عوار هذه الدعاوى العريضة من أرباب الآثار، والسعي إلى تحرير العقول من رقِّ التقليد والعواطف الساذجة، والاحتساب على هذه الدعاوى وفق القدرة والمصالح الشرعية. كفيل بإذن الله بايضاح الحقيقة التي هي رائد الجميع.
والله حسبنا ونعم الوكيل.
--------------------------------------------------------------------------------
(ü) أستاذ مساعد في قسم (العقيدة والمذاهب المعاصرة) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) انظر: صحيفة الإندبندت البريطانية للكاتب دانيال هودن 1/9/2005م.
(2) هدم الأوثان والأبنية على القبور ونحوها من شعائر الشرك هو سبيل المؤمنين تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ألاَّ تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» أخرجه مسلم.
(3) الأنصاب: الأصنام. (4) أخرجه البخاري، ح (4920).
(5) انظر: تفسير الطبري (29/98).
(1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وعبد الرزاق في مصنفه.
(2) مجموع الفتاوى (17/466).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (1/477).
(4) الآثار النبوية، ص 78.
(5) انظر: مجلة العرب، السنة السابعة عشر، الجزء الثالث والرابع.
(6) تلبيس إبليس، ص 455.
(7) اقتضاء الصراط المستقيم (2/612).
|