الحلقة الثانية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق أن ذكرنا في الشهر الماضي بعض الأمور التي تعين على صلة الأرحام، وهي في ذاتها آداب وسلوك يجدر بنا سلوكها مع أرحامنا.
وكان مما ذكرنا من الأمور المعينة على صلة الرحم: الاستعانة بالله، واستحضار حسن عواقب صلة الأرحام وثمارها، ومقابلة إساءة الأقارب بالإحسان، والصفح عنهم، والتواضع ولين الجانب معهم، والتغاضي والتغافل عن السوء منهم، وبذل المستطاع لهم، والبعد عن مطالبتهم بالمثل، ومراعاة أحوالهم، وإنزالهم منازلهم ورفع الحرج عنهم وتجنب الشدة في عتابهم، ونكمل بمشيئة الله تعالى هذه الأمور المعينة على صلة الرحم: 15 تحمل عتاب الأقارب وحَمْلُهُ على أحسن المحامل: وهذا أدب الفضلاء، ودأب النبلاء؛ ممن تمت مروءتهم، وكملت أخلاقهم، وتناهى سؤددهم، ممن وسعوا الناس بحلمهم، وحسن تربيتهم، وسعة أفقهم. فإذا ما عاتبهم أحد من الأقارب، وأغلظ عليهم لتقصيرهم في حقه حملوا ذلك على أحسن المحامل؛ فيرون أن هذا المعاتب محب لهم، مشفق عليهم، حريص على مجيئهم، ويشعرونه بذلك، بل يعتذرون له من تقصيرهم؛ حتى تخِفَّ حدَّتُه، وتهدأ ثورته. فبعض الناس يُقدِّر ويحب ويشفق، ولكنه لا يستطيع التعبير عن ذلك إلا بكثرة اللوم والعتاب. والكرام يحسنون التعامل مع هؤلاء، ويحملون كلامهم على أحسن المحامل، ولسان حالهم يقول: لو أخطأت في حسن أسلوبك لما أخطأتَ في حسن نيتك. 16 الاعتدال في المزاح مع الأقارب: مع مراعاة أحوالهم، وتجنب المزاح مع من لا يتحمله. 17 تجنب الخصام وكثرة الملاحاة والجدال العقيم مع الأقارب: فإن كثرة الخصام والملاحاة والجدال تورث البغضاء، والانتصار للنفس، والتشفي من الطرف الآخر، بل يحسن بالمرء مداراة أقاربه، والبعد عن كل ما من شأنه أن يكدر صفو الوداد معهم. 18 المبادرة بالهدية إن حصل خلاف مع الأقارب: فالهدية تجلب المودة، وتكذب سوء الظن، وتستل سخائم القلوب، كما قيل: إن الهدية حلوة كالسحر تجتذب القلوبا تدني البعيد من الهوى حتى تصيِّره قريبا وتعيد مضطغن العداوة بعد بغضته حبيبا تنفي السخيمة عن ذوي الشحنا وتمتحق الذنوبا(1) 19 أن يستحضر الإنسان أن أقاربه لحمة منه: فلا بدّ له منهم، ولا فكاك له عنهم، فعزهم عزٌّ له، وذلهم ذلٌّ له، والعرب تقول: "أنفك منك وإن ذَنَّ(2)، وعِيصُك(3) منك وإن كان أشبًا(4)".{عيون الأخبار 3-89} 20 أن يعلم أن معاداة الأقارب شر وبلاء: فالرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم، كما قال البحتري في صلح بني تغلب: وفرسان هيجاءٍ تجيشُ صدورها بأحقادها حتى تضيقَ دروعُها تُقَتِّل من وَتْرٍ أعزَّ نفوسِها عليها بأيدٍ ما تكادُ تطيعُها إذا احتربتْ يومًا ففاضت دماؤها تذكَّرت القربى ففاضت دموعُها شواجدُ أرماح تُقَطِّع بينهم شواجرَ أرحامٍ ملومٌ قطوعُها(5) وكما قال الآخر: قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفون جللا ولئن سطوت لأوهنن عظمي(6) 21 الحرص التام على تذكر الأقارب في المناسبات والولائم: ومن الطرق المجدية في ذلك أن يسجل الإنسان أسماء أقاربه، وأرقام هواتفهم في ورقة، ثم يحفظها عنده، وإذا أراد دعوتهم فتح الورقة حتى يستحضرهم جميعًا، ويتصل بهم إما بالذهاب إليهم، أو عبر الهاتف أو غير ذلك. ثم إن نسي واحدًا منهم فليذهب وليعتذر إليه، وليسعَ في رضاه ما استطاع إلى ذلك سبيلا. 22 الحرص على إصلاح ذات البين: فمما ينبغي للأقارب وعلى الأخص من وهبهم الله محبة في النفوس أن يبادروا إلى إصلاح ذات البين إذا فسدت، وألا يتوانوا في ذلك؛ لأنها إذا لم تُصْلَحْ ويُبَادَرَ في رأب صدعها فإن شرها سيستطير، وبلاءها سيكتوي بناره الجميع. 23 تعجيل قسمة الميراث: حتى يأخذ كلُّ واحدٍ نصيبه، ولئلا تكثر الخصومات والمطالبات، ولأجل أن تكون العلاقة بين الأقارب خالصةً صافيةً من المكدرات. 24 الحرص على الوئام والاتفاق حال الشراكة: فإذا اشترك الأقارب في شركة ما فليحرصوا كل الحرص على الوئام التام، والاتفاق في كل الأمور، وأن تسود بينهم روح الإيثار والمودة، والشورى والرحمة، والصدق والأمانة، وأن يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يعرف كل طرف ماله وما عليه. كما يَحسن بهم أن يناقشوا المشكلات بمنتهى الوضوح والصراحة، وأن يحرصوا على التفاني، والإخلاص في العمل، وأن يتغاضى كل منهم عن صاحبه، ويجمل بهم أيضًا أن يكتبوا ما يتفقون عليه. فإذا ساروا علي تلك الطريقة حلّت فيهم الرحمة، وسادت بينهم المودة، ونزلت عليهم بركات الشركة. 25 الاجتماعات الدورية: سواء كانت شهرية أو سنوية أو غير ذلك، فهذه الاجتماعات فيها خير كثير؛ ففيها التعارف، والتواصل، والتواصي، وغير ذلك خصوصًا إذا كان يديرها أولو العلم، والحصافة. 26 صندوق القرابة: الذي تجمع فيه تبرعات الأقارب واشتراكاتهم، ويشرف عليه بعض الأفراد، فإذا ما احتاج أحد من الأسرة مالا لزواج، أو نازلة، أو غير ذلك بادروا إلى دراسة حاله، وساعدوه ورفدوه؛ فهذا مما يولد المحبة، وينمي المودة. 27 دليل الأقارب: فيحسن بالأقارب أن يقوم بعضهم بوضع دليل خاص، يحتوي على أرقام هواتف القرابة ثم يطبع ويوزع على جميع الأقارب، فهذا الصنيع يعين على الصلة، ويذكر المرء بأقاربه إذا أراد السلام عليهم، أو دعوتهم للمناسبات والولائم. 28 الحذر من إحراج الأقارب: وذلك بالبعد عن كل سبب يوصل إلى ذلك، فيبتعد الإنسان عن الإثقال عليهم، وينأى عن تحميلهم ما لا يطيقون، ومما يدخل في هذا أن يراعي القرابة أحوال الوجهاء، وذوي اليسار في الأسرة فلا يكلفوهم ما يوقعهم في الحرج، ولا يلوموهم إذا قصروا في بعض الأمور مما لا طاقة لهم بها؛ فبعض الأسر تكلف وجهاءها وأكابرها ما لا يطيقون، ولا تعذرهم عند أي تقصير. 29 الشورى بين الأقارب: فيحسن بالأقارب أن يكون لهم مجلس شورى، أو أن يكون لهم رؤوس يرجعون إليهم في المُلمَّات وما ينوب الأسرة من النوازل؛ حتى يخرجوا برأي موحّد، أو مناسب يرضي الله، ويوافق الحكمة والصواب. ويحسن بأولئك الرؤوس أن يكونوا من ذوي الرأي، والسداد، والحلم، والبصيرة، وبعد النظر. 30 وأخيرًا: يراعى في ذلك كله أن تكون الصلة قربة لله. خالصةً لوجهه وحده لا شريك له، وأن تكون تعاونًا على البر والتقوى، لا يقصد بها حمية الجاهلية ولا عِبِّيَّتُها. هذا ما تيسر جمعه وتقييده في هذا الباب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. الهوامش: (1) روضة العقلاء لابن حبان البستي ص243. (2) ذن: سال مخاطه. (3) عيصك: العيص: الشجر الكثير الملتف. (4) أشبا: الأشب: شدة التفاف الشجر. (5) ديوان البحتري 1-6. (6) عيون الأخبار 3-88، والمزهر للسيوطي 1-398.
|