الحمد لله الذي أرسل إلينا خير رسله، وجعل له أصحابًا كالنجوم من حوله، صدقوا ما عاهدوا اللَّه على فعله، فارتفعت بهم رايات الدين كله، والصلاة والسلام على خير البرية وسيد البشرية، وعلى الآل والصحب والذرية، وبعد: فإن توحيد اللَّه تعالى حقه التسليم، فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين [الحج]، وأهل الإسلام الذين آمنوا بالله واعتصموا به وأخلصوا دينهم لله؛ لا تغيب عن قلوبهم وأرواحهم هذه الحقيقة، فهم خُلقوا من أجلها، وعاشوا في ظلها، ولقوا اللَّه مؤمنين بها. أولا: رجال الإسلام ينصرون السنة وصاحبها صلى الله عليه وسلم: أخرج ابن حبان في صحيحه 10/415 من حديث معقل بن يسار رضي اللَّه عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأنا أرفع غصن الشجرة عن وجهه، فبايعناه على ألا نفر، لم نبايعه على الموت، فقيل له: كم كنتم ؟ قال: ألف وأربع مائة، وقال بعضهم: الصحيح: ألف وخمسمائة. يَا لَسَعَادَةَ من يميط الأذى عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، ونفسي له الفداء، وَيَا لَفَوْزَ من يزيح البدعة من طريق السنة. ولقد كان سلف هذه الأمة رضوان اللَّه عليهم حول رسولهم صلى الله عليه وسلم خير من قام بنشر السنة والذَّبِّ عنها، وكانوا جادين في ذلك إلى أن بلغ بهم الأمر إلى الجدية في والذَّبِّ الحسي من طريق المسلمين، الذي هو شعبة من شعب الإيمان وإن كانت أدنى الشعب؛ لكنهم حافظوا على الأدنى والأعلى والقليل والكثير. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متعددة في فضل إماطة الأذى عن الطريق كما ثبت في صحيح مسلم 1/63 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». وفي سنن أبي داود (4/219): «وأدناها إماطة العظم عن الطريق». وفي صحيح ابن خزيمة (2/276) من حديث أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عُرضت عليَّ أعمال أمتي؛ حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق». الحديث. وفي كتاب الأذان من صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر اللَّه له، فغفر له». أين من هذه الآداب أبناء الإسلام في أيامنا، وقد كثرت قماماتهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وأمام بيوتهم ومدارسهم وسككهم وأمام بيوت اللَّه، بل وفي داخل بيوت اللَّه، وأما عن الأماكن العامة فحدث ولا حرج، ولا تدل هذه المناظر المؤذية إلا على فساد في الطبع وسوء في الخلق، والله سائل كل امرئ عما كسب وعما تسبب في وجود الأذى في طرقات المسلمين. إن أهل الإسلام الحق يعملون بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان قدوة في النظام والنظافة، وقد أمر بإخراج رجل من المسجد عليه ريح الثوم والبصل، وسأله آخر فقال: يا رسول اللَّه؛ أحدنا يحب أن يكون نعله حسنًا وثوبه حسنًا، فقال: «إن اللَّه جميل يحب الجمال». وقال مرة: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاث مرات قبل أن يدخلها في الإناء فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده». أخرج الدارمي في سننه 2/132 عن الحسن قال: كان معقل بن يسار يتغدى فسقطت لقمته فأخذها فأماط ما بها من أذى ثم أكلها، فجعل أولئك الدهاقين (تجار أعاجم) يتغامزون به، فقالوا له: ما ترى ما يقول هؤلاء الأعاجم ؟ يقولون: انظروا إلى ما بين يديه من الطعام، وإلى ما يصنع بهذه اللقمة، فقال: إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول هؤلاء الأعاجم، إنا كنا نؤمر إذا سقطت من أحدنا لقمة أن يميط ما بها من اذى وأن يأكلها. قال في «مصباح الزجاجة» بعد ذكر هذا الحديث: «هذا إسنادٌ رجاله ثقات غير أنه منقطع». قال أبو حاتم: «الحسن لم يسمع من معقل بن يسار». انتهى. ورواه مسدد في مسنده عن يزيد بن زريع بإسناده ومتنه، وله شاهد في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد اللَّه وأنس بن مالك. اهـ. وفيما فعله معقل - رضي اللَّه عنه - حثٌ للناس جميعًا أن يحرصوا على العمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو سخر بهم الناس، فإن العمل بالسنة دليل على الإيمان وقوة العقيدة في القلوب، وتركُ السنة لأجل سخرية الناس وضحكهم دليل على ضعف الإيمان، لذا فالواجب على المسلم أن يعتز بإسلامه، ويظهر شعائر دينه ويذر الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا، فإنه على الحق، ومن كان على الحق لم يضره اجتماع الناس كلهم ضده؛ لأن اللَّه - تعالى - معه بتأييده ونصره، وأما أولئك الساخرون من المؤمنين فإنهم يكونون يوم القيامة في أحط الدركات، لما كانوا يفعلونه من الاستهزاء بالمؤمنين، قال اخسئوا فيها ولا تكلمون (108) إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين (109) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (110) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون [المؤمنون: 108-111]. ثانيًا: المرأة المسلمة توالي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وصفوها بأنها من عاقلات النساء، كانت قبل إسلامها لا تكره أحدًا مثلما كانت تكره بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلمت لم تكن تحب أهل بيت مثلما أحبت بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وها هي تصارح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتلك الحقيقة التي تحمل في طياتها اعتذارًا عن شقِّها بطن عمه حمزة رضي اللَّه عنه وهو مقتول بمعركة أُحد، وإخراجها كبده ومضغه تشفيًا وكراهية، وهي تعلم أن ذلك أثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن أرادت بعد إسلامها أن تثبت صدقها في حبها آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ قدمت أولاً بأنها لم تكن تكره بيتًا أشد من بيته صلى الله عليه وسلم، واعترافها بهذا راضية غير مكرهة وصدقها فيه يدل على صدقها في الأخرى وهي حب آل بيته صلى الله عليه وسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة رضي اللَّه عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يُذَلُّوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليَّ أن يُعزُّوا من أهل خبائك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أيضًا والذي نفسي بيده». الحديث [البخاري 3/3613]، رحم اللَّه هند بنت عتبة ورضي عنها. لقد عفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم وقبل منها وقابلها بنفس شعورها وأقسم على ذلك رغم ما فعلته مع عمه حمزة رضي اللَّه عنه، لكنها كانت قد فعلت ذلك تحت وطأة الكفر الذي يكن للإنسان كل عداوة، ثم بعد ذلك أسلمت، والإسلام يجب ما قبله، أي يمحو كل ما سبقه من انحراف، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل الناس في الإسلام لا لينتقم منهم لنفسه، فلذلك لم يصبح أهل بيت أحب إلى قلب هند من أن يُعزوا من بيت النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الولاء لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طاعته واتباع أمره واجتناب نهيه: ثالثًا: أبناء الإسلام وتعظيم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخدمته وبيعته وحب صحابته عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي آخر الليل، فقمت وراءه، فأخذني فأقامني حذاءه - بجواره - فلما أقبل على صلاته انخنست (أي رجعت إلى الوراء)، فلما انصرف قال: «ما لك أجعلك حذائي فتخنس؟» قال: قلت: ما ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول اللَّه، فأعجبه، فدعا اللَّه أن يزيدني فهمًا وعلمًا. [الحاكم 3/6279، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين] ومعلوم أن ابن عباس في ذاك الوقت كان دون العاشرة أو فوقها بقليل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولابن عباس من العمر ثلاث عشرة سنة. قلت: وليس معنى إعجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بقول ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن ابن عباس علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أين يقف المصلي المفرد بجواره، فهذا علم ثابت راسخ عند النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ابن عباس ومن بعده، لكن محل إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم كان من إدراك هذا الغلام الحدث لهذا المعنى الدقيق؛ أنه لا ينبغي أن يحاذي النبي صلى الله عليه وسلم وهو رسول اللَّه تعالى، فهل يدركها أصحاب الشهادات المسماة عالية، وأصحاب الأسماء اللامعة والشهرة الواسعة، من الذين يقدمون بين يدي اللَّه ورسوله، ويحاولون جاهدين أن يجعلوا من أهوائهم ونظرياتهم هديًا أفضل من هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فانظر يا ابن الإسلام إلى هذا التعبير العظيم والفهم الواعي عند ابن عباس الشاب الصغير لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعجب بهذا الفهم وذلك التعبير حتى دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمزيد من العلم والفقه. وهذا أنس بن مالك بن النضر الخزرجي النَّجَّاري، أتت به أمه أم سليم رضي اللَّه عنها وهو ابن عشر سنين فأهدته إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يخدمه، فخدم نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وانتقل من المدينة بعد أن بُصِّرت البصرة أيام عمر بن الخطاب وسكنها، وكان يصفِّر لحيته بالورس، توفي في سنة إحدى وتسعين وكنيته أبو حمزة. [مشاهير علماء الأمصار 1/37] قلت: فكان عُمُر أنس يوم أن بدأ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وهذا يرشدنا إلى الاستفادة من صغار النابغين في خدمة الصالحين كي يستفيدوا منهم، وينقلوا عنهم - بل ويحرص الشباب على بيعته صلى الله عليه وسلم وهي بيعة الإسلام واتباع هدي خير الأنام. وليست بيعة للمجاملة والقرب والتزلف وتحقيق المصالح، بل بيعة أخذ العهد والميثاق على توحيد اللَّه وعدم الشرك به والتزام شرعه. عن هشام بن عروة عن أبيه قال: خرجت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها حين هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حامل في عبد اللَّه بن الزبير فنفسته، فأتت به النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، وأتى بتمرة فمصها ثم مضغها ثم وضعها في فيه فحنكه بها، فكان أول شيء دخل بطنه ريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت: ثم مسحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه عبداللَّه. ثم جاء بعدُ وهو ابن سبع سنين أو ابن ثمان سنين ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم، أمره أبوه الزبير بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلاً وبايعه، وكان أول من وُلد في الإسلام بالمدينة مَقْدِم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد اللَّه. ولأن شباب السلف كانوا صادقين في بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يفدونه بأعز ما لديهم، (أرواحهم) فيقاتلون من يؤذي أو يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثةٌ أسنانهما (يعني صغيرين) تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما: فقال: يا عم؛ هل تعرف أبا جهل ؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيتُه لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل، يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه (عاجلاه) بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله ؟» قال: كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر في السيف فقال: «كلاكما قتله». وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح. [أخرجه البخاري 3/2972، ومسلم وغيرهما] والسبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو دون معاذ بن عفراء؛ كما قال النووي رحمه اللَّه: قال أصحابنا: اشترك هذان الرجلان في جراحته، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولاً فاستحق السَّلب، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلاكما قتله» تطييبًا لقلب الآخر، من حيث إن له مشاركةً في قتله، وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب هو الإثخان. اهـ. والإثخان هو المبالغة في القتل. [شرح النووي 12/63] فانظر أخي إلى هذين الصبيين، ينقضان انقضاض الأسود على طاغية قريش أبي جهل، وسط حرب ضروس مستعرة بتلك الهجمة الفدائية التي لو سُئِلَ عنها بعض أهل زماننا لقال: عملية انتحارية وإلقاء باليد إلى التهلكة ؟! وأختم هذا الكلام السديد في ذلك الجيل الفذ الفريد، بهذا المطلب الرشيد؛ هل نسعى لتربية جيل يحمل هذه العقيدة ؟ وهي أنه لا ينبغي أن يساوي أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحاذيه قولاً وعملاً وامتثالاً، وحبًا وتعظيمًا وإجلالاً، ولا يُقَدِّمُ قولاً على قوله ولا فعلاً على فعله صلى الله عليه وسلم، والله على ذلك المستعان. والحمد لله رب العالمين.
الأسرة المسلمة في ظلال التوحيد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد: فإن أعظم كلمة نُعِدها لدنيانا وأخرانا «لا إله إلا الله» وقد قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم : «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». ولعظمة هذه الكلمة عُصِمت بها دماء، وحُفِظت بها فروج وأموال، وفُصِل بها بين ملة الإسلام وسائر الملل، وعُرف بها المسلم من الكافر، ولعظمتها أمر الإسلام بتعظيمها وصيانتها.
النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه تعظيم كلمة لا إله إلا الله
عن المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه وكان حَلِيفًا لبني زهرة، وكان ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتَ إن لقيتُ رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله! أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقتله». فقال: يا رسول الله؛ إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقتله؛ فإن قتلتَه فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال». [صحيح البخاري ج4 ح7246] ومعنى لاذ مني: تحيَّل في الفرار مني واستتر خلف شجرة واعتصم بها. ومعنى فإنه بمنزلتك: أي محقون الدم يُقتل قاتله قصاصًا. ومعنى وإنك بمنزلته: أي مُهدَر الدم تُقتَل قصاصًا لقتلك مسلمًا. فسبحان الله! هذا المقداد بن عمرو على مكانته الاجتماعية ومنزلته في الأمة الإسلامية؛ فهو ممن شهد بدرًا، وقد غفر الله تعالى لكل من حضر وقعة بدر، ولم تُغن كل هذه السوابق والمنازل عن إحقاق الحق، وإلزامه بالقسط؛ بتطبيق شرع الله وإعمال النصوص الشرعية بعيدًا عن الاجتهادات المقابلة للنص، وبمعزل عن الظنون والترجيحات، والعواطف والانفعالات. ومع أن كل شواهد هذه القصة المفترضة تشير إلى ذلك الرجل الكافر الذي افترض المقداد أنه ضرب يده فقطعها عدو للمقداد وللدين والملة؛ وما قال قولته وشهد شهادته إلا تعوُّذًا واستجارة من القتل وخوفًا؛ إلا أنه يبقى أقوى شاهد من بين هذه الشواهد وهو قول الرجل: لا إله إلا الله، والذي يُعَد صدقه فيها وإيمانه بها من أضعف الاحتمالات؛ ومع هذا حكم به النبي صلى الله عليه وسلم وجعل موته بعد قولها موتًا على الإسلام؛ ولذلك قال المقداد: «فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله». ومعلوم أن منزلة المقداد قبل قتله الرجل أنه كان معصوم الدم لكونه مسلمًا، ثم صار مهدَر الدم مثل الرجل قبل أن يقول لا إله إلا الله. أما قصة أسامة وهي مثل هذه القصة فإنها حدثت حقيقة: فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بَعَثَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرقة (حي من أحياء العرب)، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله؛ فكف الأنصاري عنه، فطعنْتُه برمحي حتى قتلتُه، فلما قدمنا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أسامة؛ أقتلتَهُ بعد ما قال لا إله إلا الله»؟ قلت: كان متعوذًا، فما زال صلى الله عليه وسلم يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. [صحيح البخاري ج4 ح1204 ومسلم وغيرهما] وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: «.. لِمَ قتلته؟ قال: يا رسول الله؛ أوجع في المسلمين وقتل فلانًا وفلانًا - وسمى له نفرًا - وإني حملْتُ عليه، فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أقتلته»؟ قال: نعم، قال: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟ قال: يا رسول الله: استغفر لي، قال: «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟ قال: فجعل لا يزيد على أن يقول: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»؟ [صحيح مسلم ج1 ح79] وفي هذا النص يظهر مدى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلمة الحق «لا إله إلا الله» وعدم قبوله من أسامة أي شيء يضادها، كما يظهر استجابة أسامة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفته خطأه وإقراره به واعتذاره عنه، حتى أنه قال: يا رسول الله؛ استغفر لي. وفي النص دلالة عظمى على عدم تحكيم العواطف وتقديمها على النصوص، أو تغليب الظنون على أمر الله العظيم. وهذا النص عبرة واضحة وهدي مبين للذين يدفعهم حماسهم إلى تجاهل النص المبين ظنًا منهم أن الزيادة في الحماس والإفراط في الغيرة، ونية العمل للإسلام ومصلحة الدعوة؛ كل ذلك يشفع في تجاوز النصوص وتخطِّيها وإهمالها، والله غفور رحيم! والصحيح: فاستقم كما أمرت و إنما يتقبل الله من المتقين. ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حدثني محمود بن الربيع رضي الله عنه قال: قدِمْتُ المدينة فلقيت عتبان بن مالك فقلت: حديث بلغني عنك، قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه فدخل وهو يصلي في منزلي، وأصحابه يتحدثون بينهم (أي في ما يلقون من المنافقين)، ثم أسندوا عُظْم ذلك وكِبْره (أي نسبوا شدة أفعال المنافقين) إلى مالك بن دخشم قالوا: وَدُّوا أنه (أي النبي ِ) دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة وقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال: «لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تَطْعَمه». قال أنس: فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني: اكتبه فكتبه. فكانوا يتذاكرون المنافقين وقبيح فعالهم فذكروا منهم مالك بن الدخشم فصحح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القول فيه وأن قلبه مؤمن. [صحيح مسلم ج1 ص16] أما رواية البخاري فهي توضح زيادة في سبب صلاة عتبان في بيته؛ فمع إصابته في بصره فهو يعالج الأمطار والسيول في الوادي وهي تحول بينه وبين مسجد قومه، قال أنس: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا من الأنصار أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ قد أنكرتُ بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سأفعل إن شاء الله» قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبَّر فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم، قال: وحبسناه على خُزَيْرة (لحم يُقطَّع قطعًا صغارا) صنعناها له، قال، فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد فاجتمعوا، فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن أو ابن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقل ذلك؛ ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ » قال: الله ورسوله أعلم، فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله». [صحيح البخاري ج1 ح514] ويلحق بما تقدم ما يحدث من غيبة بعض الناس والخوض في أعراضهم وسيرتهم وسبهم والتهكم منهم وعليهم، والتندر بأفعالهم في المجالس بزعم أنهم أصحاب كيد وألاعيب، يبدر منهم دائمًا القبيح المعيب. وبالنظر فيما سبق من الأحاديث يُعرف مدى التجاوز للهدي النبوي بغيبة الناس والوقوع في أعراضهم. وقد يكون المرء حقيقة لا يساوي شيئًا في ميزان العدل والحق والخُلُق؛ لكن ظاهر الإسلام يحرم دمه وماله وعرضه، فلا حاجة أن نكسب الآثام فيمن لا يساوي في نظرنا شيئًا، ما دام يلفظ بلا إله إلا الله ويأتي بظاهر الإسلام والله حسيبه، وحسابه عليه، وإلا فكيف نصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!
الاستسلام لأمر الله تعظيم لكلمة لا إله إلا الله
ومن تعظيم كلمة لا إله إلا الله التسليم لله سبحانه باتباع أمره واجتناب نهيه. قال تعالى: ...وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:41]. وقد حرم الإسلام التبني ونهى عن نسبة الولد لغير أبيه فحرم ذلك تحريمًا قاطعًا وعلى كل من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله أن يعلن التسليم له جل وعلا فيكون حاله ومقاله سمعنا وأطعنا، تعظيما لحرمات الله، ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:03] ولا يصلح أن يكون ضعف الإيمان عند كثير من الناس وقلة خبرتهم بالشريعة الغراء ورغباتهم الشخصية والنفسية حائلاً ومانعًا من تنفيذ شرع الله أو على الأقل إجراء تعديلات وتحسينات على النصوص الشرعية بدعوى المصلحة والحالة النفسية كما حدث مع مثل هذه المرأة التي تقول: ليس عندي أولاد، وقد توفي زوجي، وأريد أن أتبنى طفلة صغيرة أربيها وأكتسب فيها أجرًا عند الله تعالى، لكني أخشى عندما تكبر هذه البنت وتكتشف أنها ليست ابنتي ولا ابنة زوجي المتوفى، سيكون في ذلك تدمير لنفسيتها في وسط مجتمع لا يقدر فيه كثيرون ظروف أمثالها، وعليه فأريد أن أسجلها في الأوراق الرسمية باسم زوجي أو اسم والدي مع تغيير بسيط في الاسم الأخير أو الاسم قبل الأخير بحيث لا أكون سميتها باسمنا كاملاً، ولا جعلتها تشك في نسبتها إلينا عند كبرها وبذلك لا تتعرض في المجتمع للأزمات النفسية التي تحطم مستقبلها وتدمر شخصيتها، والله سبحانه وتعالى يعلم بِنِيَّتِي أنني لم أنسبها إليّ كأم ولكنها مجرد أوراق لتحقيق مصلحة هذه البنت. والجواب والصواب في هذه الحالة وأمثالها أن تحري الشرع وتنفيذه هو السبيل لحل كل مشكلة تواجه المرء في حياته، خاصة وأن مثل هذه المشكلة نزل بشأنها قرآن، وأثيرت في عصر نزول القرآن بصورة واسعة، وحسم القرآن فيها القول، ورفض رفضًا تامًا تسمية الدعيّ ولدًا كما أنه لا تكون الزوجة أبدًا أُمّا. وقد امتثل المسلمون الأوائل لهذا الأمر الرباني فآمنوا به وحكموا به على أنفسهم ولم يكن في صدورهم حرج مما قضى الله وسلموا تسليما، علما منهم ويقينًا أن الله يعلم وهم لا يعلمون، وهو عليم حكيم خبير، أرحم منهم بخلقه، والحنان من لدنه أعظم وأكمل من حنانهم على أنفسهم، وما أصابنا من الحسنات والخير فمنه سبحانه، وما أصابنا من مصيبة فبما كسبت أيدينا. فحرم الله تعالى التبني حرمة يقينية أبدية لا يحلها تغير أخلاق الناس وبُعدهم عن شرع الله، ولا يبيحها عاطفة جياشة أو الشفقة على الآخرين. قال الله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الـحق وهو يهدي السبيل (4) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [الأحزاب:4-5]. والحمد لله رب العالمين.
|