الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد: ونحن نودع عامًا ونستقبل عامًا جديدًا، ما أحوجنا إلى أن نتأدب مع الله جل وعلا، فإن الناظر في أحوال كثير من الناس اليوم ليجد أن كثيرًا من الناس قد أساءوا الأدب مع الله سبحانه وتعالى، فإذا خرجتم إلى الطرقات وجدتم فيها الكاسيات العاريات اللاتي خرجن من بيوتهن متبرجات متعطرات وأغضبن رب الأرض والسماوات، وإذا ذهبتم إلى القبور وجدتم فيها الشركيات، وإذا ذهبتم إلى البنوك وجدتم فيها الربويات، وإذا ذهبتم إلى الجامعات وجدتم فيها الاختلاط بين البنين والبنات، وإذا نظرتم في البيوت وجدتم فيها الصور المحرمات والتليفزيونات التي تعرض الأفلام والمسلسلات التي أفسدت أخلاق البنين والبنات، أسواقنا مليئة بالمخالفات لله عز وجل، كل ذلك وغيره إن دل على شيء فإنما يدل على أن كثيرًا من الناس قد أساءوا الأدب مع الله عز وجل، ذي العزة والجبروت والكبرياء والعظمة. فما أحوجنا إلى أن نتأدب معه سبحانه وتعالى، بأن يلزم المرء نفسه بمراقبة الله جل وعلا في كل لحظة من لحظات الحياة، حتى يتم لها اليقين بأن الله مطلع عليها، رقيب على أعمالها، عالم بأسرارها، وما أحسن قول سفيان الثوري رحمه الله في هذا المقام: عليك المراقبة ممن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة. وقال ابن المبارك لرجل يوصيه: راقب الله يا فلان، فسأله: ما المراقبة؟ قال: كن أبدًا كأنك ترى الله جل وعلا. وهذا عبد الله بن دينار يقول: خرجت مع ابن عمر إلى مكة، فعرَّسْنا ببعض الطريق، فانحدر إلينا راع من الجبل، فقال له ابن عمر: يا راعي الغنم بعنا شاة من هذه الأغنام، فقال الرجل: أنا مملوك، فقال له ابن عمر: قل لسيدك أكلها الذئب، فقال الراعي: إن قلت ذلك لسيدي وصدقني، فأين الله؟ ماذا أقول لله جل وعلا؟ فبكى ابن عمر، وذهب إلى سيد الراعي فاشترى منه الأغنام، واشترى العبد وأعتقه، وأهدى له قطيع الأغنام. وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». [رواه مسلم] ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى أن يستحي العبد منه في جميع أحواله، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «استحيوا من الله حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد اسْتَحْيَى من الله حق الحياء». [صحيح الجامع برقم 935] وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك». [صحيح الجامع برقم 2541] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما كرهت أن يراه الناس منك فلا تفعله إذا خلوت بنفسك». [السلسلة الصحيحة: 1055] فمن سوء الأدب مع الله جل وعلا أن لا يستحي العبد من ربه سبحانه وتعالى وهو يراه ويطلع عليه في جميع شئونه، فلو عرف العبد ذلك لاسْتَحْيَى منه وما فكر في معصيته أبدًا. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: أن ينظر المرء ويتأمل ما لله عليه من نعم لا يستطيع عدها ومنن لا يحصيها ولا يطيق شكرها: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [النحل:18]، إذ ليس من الأدب كفران النعم، وكل نعمة صغرت أم كبرت فمنه وحده سبحانه لا من أحد سواه، وما بكم من نعمة فمن الله [النحل:53]، فهو المتفضل على عباده بالرزق والعطاء فهل شكروه على ذلك، وعرفوا فضله ومَنَّهُ وَكَرَمَهُ: ما لكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم أطوارا [نوح:13، 14]، فالمسلم يتأدب مع ربه سبحانه وتعالى بأن يجعل لسانه يلهج دائمًا بحمده وبالثناء عليه، ثم يستعمل جوارحه وأعضاءه في طاعته وعبادته. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: أن يحفظ المرء حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، ويكون ذلك بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوزها ولا يتعداها، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لابن عباس يوصيه: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». [صحيح الجامع برقم 7957] قال ابن رجب رحمه الله: «من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل». اهـ. ومن حفظ العبد ربه أن يحفظه في سمعه فلا يستمع إلى ما يغضب الله من الأغاني الماجنة والموسيقى المحرمة، وأن يحفظه في بصره فلا ينظر إلى المحرمات وأن يحفظه في بطنه فلا يُدْخِل في جوفه مالاً محرمًا أو به شبهة، وأن يحفظه في لسانه فلا يتكلم بما يغضب الله من الغيبة والنميمة والكذب والخوض في الباطل والكلام في أعراض الناس وسائر الآفات، وأن يحفظه في فرجه وسائر جوارحه، وأن يستعملها في طاعة الله قبل أن تشهد عليه يوم القيامة، قال تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [النور:24]، فإذا حفظ العبد ربه حفظه الله جل وعلا، ويكون ذلك بأمرين: 1- حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، وحفظه من مكر الأعداء وكيد الطغاة، وحفظه من شر الدواب والسباع، بل وتسخيرها له. 2- حفظه سبحانه وتعالى لعبده في دينه وإيمانه، فيحفظه من البدع المضلة والشبهات المردية والشهوات المحرمة، وأن يحفظ عليه دينه عند الموت فيتوفاه على الإسلام. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: ألا يسأل العبد أحدًا، ولا يستعين بأحد سوى الله، كما في الحديث السابق: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»، فهو الذي يجيبه إذا دعاه، ويعطيه إذا سأله، ويغفر له إذا استغفره، ويعينه إذا استعان به: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون [النمل: 62]. فإذا كان هو الذي بيده كشف الضر عنك فلماذا تنساه وتهجره، وتتركه إلى غيره؟! فإذا شكوت الحاجة، فالجأ إلى الغني الذي بيده خزائن السموات والأرض، فهو وحده الذي يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، فإذا جافاك العز، وابتدرك الذل، فاطرق باب العزيز. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: أن يحسن العبد الظن بربه جل وعلا، وهو أدب عظيم ينبغي للعبد المؤمن ألا يغفله، فهو من تمام العبادة، وقد أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل». [رواه مسلم]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة». [رواه البخاري ومسلم] بل إن من أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به سبحانه، لأن من يفعل ذلك يناقض أسماء الله وصفاته بما فيها من الجمال والجلال والكمال ولهذا توعد عليه، فقال سبحانه: عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [الفتح: 6]، وقال: وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم [فصلت:23]. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: الرضا عنه والتسليم لقضائه، فالرضا عن الله جنة الدنيا ومستراح العابدين، وهذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما أُدخل السجن، كان يقول: ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فَنَفْيِي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة مع ربي، فالمحبوس من حُبس عن ربه وإن الأسير من أسره هواه. وكان رحمه الله وطيب ثراه يردد ذلك رضا بقضاء الله وقدره. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: العمل بكتابه، والتحاكم إلى شرعه: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم [الحجرات: 1]، وقال أيضًا: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد [إبراهيم: 1]، ومن سوء الأدب مع الله جل وعلا، ترك التحاكم إلى شرع الله، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سُلِط عليهم عدوهم، وما حَكَموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا مُنِعُوا النبات وأُخِذُوا بالسنين، ولا مَنَعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطر». [صحيح الجامع برقم:3240] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «حدُّ يُعْمَل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحًا». [صحيح الجامع برقم:3130] فالبعد عن القرآن وأحكامه تخلفٌ وانحطاط، والعمل بالقرآن شرف وعلو، قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك [الزخرف:44]. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: ألا يخاف العبد في الله لومة لائم، وأن يؤثر ربه تبارك وتعالى على جميع الخلق في كل مقام، فمن التمس رضا الله بسخط الناس أرضى الله عنه الناس، ومن التمس سخط الله برضا الناس، أسخط الله عليه الناس، فالعبد إن يك مع الله تعالى وفي طاعته يكفه بائقة الخلق في الدنيا والآخرة، وإن يك مع الخلق في معصية الله تعالى، فإن الله يكِلْه إلى الخلق، فمن استطاع أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فهذا عين الأدب مع الله. ومن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: الإقبال على الله جل وعلا، واللجوء إليه في كل حال، قال ابن القيم رحمه الله: «إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا لم تُسد تلك الفاقة». اهـ. فنسأل الله العظيم أن يكون هذا العام الجديد بداية لعهد جديد مع الله جل وعلا، وأن يؤدبنا بالأدب الجميل، إنه نعم المولى ونعم النصير، والله من وراء القصد.
|