| مبروك يا مصر 7984 زائر 15-02-2011 د. مهران ماهر عثمان | بسم الله الرحمن الرحيم مبروك يا مصر الحمد لله رب العالمين.. الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا.. الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل.. الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا.. الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.. الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها.. الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير.. الحمد لله فاطر السماوات والأرض.. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فلقد غمرت الفرحة قلبي بسماع خبر تنحي مبارك، ولا ريب أنه شعور غمر قلوب كثيرٍ من المؤمنين، وهذه وقفات، وخواطر وتأملات، تتعلق بهذا الحدث العظيم الذي وقع يوم الجمعة 8 ربيع الأول 1432هـ، الموافق: 11/2/2011م.
أول وقفة: حقٌّ على كل مسلم أن يشكر الله تعالى بزوال حكم طاغية من الطغاة لا أعلم له مثيلاً في عصرنا هذا، والفضل في ذلك لله، ثم للثوار الشرفاء، فكم عذب هذا الطاغية من أهل لا إله إلا الله وذهب بهم في أودية الهموم وشعاب الأحزان! كم ضيَّق على المستضعفين في غزة! كم والى من أعداء الله من اليهود الغاصبين وركن إلى الظالمين! كم فتك سلاحه في جنوب السودان بالمجاهدين! كم أفقر من غنى! كم نهب من أموال! إنَّ نصف ما نهبه من مصر يفي بسداد ديونها، التي بلغت خمسةً وثلاثين ملياراً من الدولارات!! كم خسرت مصر بهذا الغاز الذي يعطيه لأحفاد القردة والخنازير! جملة ما يتنازل عنه لهم ثلاثة مليارات من الدولارات في العام! وهذا أقل من المعونة الأمريكية التي تتلقاها مصر سنوياً من الولايات المتحدة!! وغير ذلك كثير من جراحات طال أمدها، ولقد آن الأوان وقرب اندمالها بإذن الله. لمثلِ هذا يذوب القلب من كمدٍ --- إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ أقول: حق على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفرح بزوال عرش هذا الفرعون لا بارك الله فيه ولا في أمثاله من إخوانه من الطغاة، الذين نسأل الله أن يسلك بهم سبيله، وأن يريهم مصيره.
ثانياً: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران/26]. فالله تعالى قادر على أن يسلب ملك كل أحد مهما قوي سلطانه، ومهما بلغت سعة ملكه. ولفظ النزع يدل على أن المنزوع منه الشيء كان متمسكا به، فسلبه الله منه، فإن الله لا يغالب، وإذا أراد شيئاً كان. فالله "{ مالك الملك } بلا شريك، ثم هو من جانبه يُمَلِّك من يشاء ما يشاء من ملكه. يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء. فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه. إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المُمَلِّك الأصلي وتعليماته، فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً. وتحتَّم على المؤمنين ردُّه في الدنيا. أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملِّك صاحب المُلْك الأصيل" [في ظلال القرآن:1/384].
ثالثاً: تعلمنا من حدث مصر أنَّ الله تعالى يملي للظالم، فتطول أيامُه، ولكن مضت سنة الله بأنه لابد أن يذهب ظلمه، ويمحى أثره، ويدك عرشه، ويتهاوى سلطانه. حُقَبٌ طويلة وأزمنة مديدة من الظلم والفساد كان حقاً أن يسدل الستار على أيامها وينتهي عهدها.. أوما قال الله: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود/102]؟ قال ابن كثير رحمه الله: "وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم وأشباههم وأمثالهم" [تفسير ابن كثير: 4/349] وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلته»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }.
رابعاً: أحَسِبَ الطاغية أن ظلمه للضعفاء في غزة يمكن أن يُنسى ويفوت بلا عقاب! إن حكمة الله تأبى ذلك! هذا الطاغية حاصر المسلمين في غزة بجداره الفولاذي، وهدم الأنفاق عليهم، فانظر كيف حاصره الله في بلده بين بني قومه! والجزاء من جنس العمل.
خامساً: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة/120]. هل يشكُّ أحد في عمالة مبارك للأمريكان؟! ومع ذلك لما رأوا حال قومه معه وبغضهم له تخلوا عنه وطالبوه بالتنحي، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» رواه الترمذي. وإنَّ الله تعالى إذا رضي عن عبده هانت عليه مساخطُ غيره، وإذا سخط عليه أذله وهانت عليه نفسه التي بين جنبيه. وأول ما تسقط الزانية في عين من زنى بها، وأول مهين للخائن من خان له.
سادساً: بضع وثمانون سنة عاشها مبارك وهو يتشبث بالسلطة بكل ما أوتي! ويقدم الخطاب تلو الخطاب لشعبه، عسى أن ينقلبوا إلى ديارهم فيبقى له عرشه.. "أوسعتنا يا نحسُ سخفاً وعبث" وهذا ليؤكد ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» رواه البخاري.
سابعاً: لم يجد مبارك من يقف معه لما ثار قومه إلا من استئجروا من اللصوص و(البلطجية)، وليس ذا بغريب، فإن الظالم لا أحد ينصره كما أخبر الله، قال تعالى: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [الحج/71]، وقال: { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [الأنعام/21].
فإن تصبك من الأيام جائحةٌ --- لا نبك منك على دنيا ولا دين ثامناً: هنئياً لكل داعية بمصر وعالم شارك إخوانه ثورتهم، فليهنئوا باستجابة إخوانهم لهم، وليهنئوا بعدُ بصدور الناس عن فتياهم وآرائهم. وعلم الله لستُ أعرِّضُ بغيرهم ممن آثر السكوت وعدم خوض الفتنة، فلكلٍّ دليله، وأسأل الله أن ينفع بالجميع.
تاسعاً: جميل أن يقول من سيم ضيماً: لا. لكن هل نطمع أن تخرج ثورة على حاكمها لأنه عطل شريعة الله واستبدلها بقوانينَ مستقاةٍ من زبالات أفكار البشر؟ أرجو أن يكون ذلك. إن الحاكم إنما يستمد شرعيته من تطبيقه لأحكام الله وقيامه بذلك، فمثل هذا يصبر عليه ولو جار، أما لو استبدلها بقوانين الأرض فهو خائن كافر تجب الإطاحة به. وإنَّ الخنوع لمثل هؤلاء ضياعٌ للدِّين، ولن يكون حالنا بالرضا بهم إلا كما قال الأول:
كبهيمةٍ عمياء قاد زمامها أعمى --- على عوج الطريق الحائر عاشراً: لا ينبغي أن ينسى شباب مصر المباركون إخوانهم الذين أفضوا إلى الله بسبب هذه الثورة، إنَّ الوفاء رأس النبل، ومنه تستمد معاني الإنسانية بقاءها، وحياة بدونه يفضلها انقطاعها، قلِّب نظرك حيث شئت؛ فهل تجد من أهله إلا كريماً شريفاً عزيزاً؟ وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» متفق عليه. والإحسان إلى الأيتام وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [البقرة/83]، وقال لنا: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [النساء/36].
حادي عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. إنَّ من حق كل من ساهم في هذه الثورة المباركة أن يشكر، وشكره من شكر الله تعالى.
ثاني عشر: من صبر ظفر، و"الصبر مطية لا تكبو" كما قال علي رضي الله عنه . ولما مكن الله لبني إسرائيل بين أن من أسباب ذلك صبرَهم، قال تعالى: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُو } [الأعراف 137]، وقال: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة 24]. لقد صبر الشرفاء ثمانية عشر يوماً حتى نالوا مطلبهم، فكل من رام شيئاً عليه بالصبر، فإن عاقبته لا تكون إلا خيراً.
ثالث عشر: إنَّ التنازل عن ملاحقة مبارك قانونياً للتحقيق في ثروته إضاعة للحقوق، وقد نهت الشريعة عن ذلك، وفي ملاحقته درس لإخوانه وعبرة لأمثاله من الطغاة الجاثمين على صدور هذه الأمة، وقد يكون الأمر مضنياً ولكنه لابد أن يتوج بالظفر، فإن الله بين أنَّ الظالم لا يفلح، وأنه خاسر لا ينجح، { إنه لا يفلح الظالمون } [الأنعام/21]. فلا ينبغي أن يفلت هذا الطاغية من تبعة الدماء التي أراقها، والأموال التي نهبها، والخيانة التي ارتمى في أحضانها، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [البقرة/270].
يا شعب مصر.. لقد أثلجتم بشجاعتكم وثباتكم وعزيمتكم وصبركم صدورنا، وملأتم بالفرح قلوبنا، فبارك الله فيكم، وأحسن عاقبة أمركم، وأقرَّ بما حققتموه من إنجاز أعينكم، وجعل مستقبل أيامكم خيراً مما مضى وأصلح حالكم. أسأل الله أن يولي عليكم خياركم، وأن يهيأ لكم من أمركم رشداً، وأن يعلي كعبكم، ويشفي جريحكم، ويتقبل من أفضى إلى الله منكم، كما أسأله بكل اسم هو له أن يلحق بالطاغية الذي اقتلعتموه سائر الطغاة الظالمين. رب صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
| | |