لم يبتعد الزعيم البريطاني (ونستون تشرشل) عن الحقيقة عندما قال: «إن الديمقراطية هي أسوأ نظام يمكن الأخذ به، ما لم تطبق على الجميع». ولا نظن أننا نبتعد عن الحقيقة أيضاً عندما نقول إن أسوأ ما في هذا النظام السيئ، أنه صُمم بحيث لا يمكن أن يطبق على الجميع، بل هو لمن يملك شراء الأصوات وبيع الذمم والاتِّجار في الأزمات بالشعارات؛ فالتطبيق الديمقراطي ـ وبغض النظر عن الأصول النظرية ـ لا يعدو أن يكون بيعاً للحكم، وهو ما تنبأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحصوله عندما قال: «أخاف عليكم ستاً: إمارة السفهاء، وسفك الدم، وبيع الحكم، وقطيعة الرحم، ونشواً(*) يتخذون القرآن مزامير، وكثرة الشُّرَط»(1)، والشاهد من الحديث إخباره -صلى الله عليه وسلم- بأن الحكم سيكون سلعة تباع، وهو ما يحدث الآن في أنحاء العالم؛ حيث تتكلف الحملات الانتخابية أكداساً من الأموال، التي لو أنفقت على الجماهير المحرومة لكفتها عن اللهاث وراء الدجالين الذين يبيعون الوهم في قوارير الخداع.
ففي الولايات المتحدة المتزعمة للغرب الديمقراطي، والزاعمة بحتمية سيادة الديمقراطية؛ تتكلف الانتخابات مئات الملايين من الدولارات، وطبقاً لقانون الانتخابات تلقت الولايات الفيدرالية الأمريكية 3.9 مليار دولار مساعدات انتخابية خلال الأعوام الثلاثة بعد فوز جورج بوش الابن؛ حيث كان قد وقَّع في 31/10/2002م على مشروع بتخصيص مليارات الدولارات للمساعدة في دفع تكاليف الحملات الانتخابية.
بيع الحكم في ظل النظام الديمقراطي يبدأ من الانتخابات البرلمانية (التشريعية) وهؤلاء الذين يشترون الأصوات شراءً؛ هم الذين يمثلون بعد ذلك بطانة الحاكم وثلته، وتستمر مصالحهم باستمراره في السلطة لأطول مدة، ولا فرق هنا بين الدول الغنية والفقيرة، والضليعة في الديمقراطية والتي لا تزال تحبو نحوها؛ ففي الولايات المتحدة بلغت تكاليف الانتخابات التشريعية لعام 2002م مبلغ 932 مليون دولار، وقد جاءت من 640 ألف متبرع أمريكي فقط، أي ما يساوي نسبة 0.22% من مجموع الشعب الأمريكي الذي يبلغ تعداده 288.5 مليون نسمة، ولأن الالتحاق بعضوية المجالس البرلمانية والتشريعية يُعد نوعاً خاصاً من التجارة التي يطمح أصحابها إلى الاستثمار بها؛ فإن الأموال تنفق فيها بسخاء الخبثاء؛ فالمرشح للفوز بمقعد في مجلس النواب في انتخابات عام 2002م، كان يحتاج في المتوسط إلى مبلغ (925) ألف دولار أمريكي، مقابل 5 ملايين من الدولارات لكل مرشح لعضوية مجلس الشيوخ. وقد تزداد النفقات أضعافاً أخرى لاعتبارات أخرى؛ فقد بلغت تكلفة الفوز بأحد المقاعد في مجلس الشيوخ في تلك الانتخابات عن ولاية (نورث كارولاينا) مبلغ 14 مليون دولار، وبلغ ثمن المقعد في حالة أخرى رقماً قياسياً عندما أنفق رجل الأعمال (جون كوزين) ـ وهو ديمقراطي عن ولاية نيوجرسي ـ حوالي 63 مليون دولار، للفوز بأحد مقاعد مجلس الشيوخ.
والنفقات الباهظة على شراء الأصوات لا تقتصر على الأفراد المنتفعين ـ كما تقول منظمة (كير) الإسلامية الأمريكية، بل تشمل المجموعات المصلحية ذات الأغراض السياسية التي تقدم الأموال الطائلة في شكل رشاوى للمرشحين لشراء ذممهم وضمان تعاونهم في القضايا التي تهم المتبرعين. واليهود على وجه الخصوص هم أبرع الناس في ذلك، وقد أنفقت مجموعات المصالح تلك ـ من اليهود وغيرهم ـ ما مجموعه 252 مليون دولار خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة في واشنطن وحدها.
والمردود المطلوب عوضاً عن هذه النفقات، يختلف بحسب الشخصيات أو الجهات الممولة، فبينما يكون الفوز بمقعد في البرلمان شيئاً مجزياً لبعض الأفراد، فإن بعض المجموعات تظل تتقاضى أثمان ما أنفقت في شكل قرارات تُستصدر، وتشريعات تصاغ وقوانين تُسن لصالح تلك المجموعات سياسياً أو اقتصادياً أو دينياً. أما إذا كان الفوز من نصيب مجموعة عقائدية متجانسة لا تعد السلطة إلا وسيلة للتسلط كما حدث وتكرر في فوز بوش وفريقه ـ فإن أثمان ذلك لا تُكافأ إلا بالمضي في البرامج التي جاء من أجلها هذا الفريق، على المستوى الداخلي والخارجي.
? أضخم ثمن لأغلى انتخابات:
تكلفت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة خمسة بلايين دولار، وقد هيأت الولاية الثانية لجورج بوش وشركائه في شراء الحكم فرصة جديدة لكي يمضوا قدماً في إنجاز المشروعات التي تعاهد الجناحان الحاكمان في أمريكا على التعاون فيها، وعلى رأسها مشروع الإمبراطورية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين؛ ذلك المشروع الذي تحالف من أجل تحقيقه هذان الجناحان الجامحان من اليمنيين الصهيونيين الإنجيليين، والصهيونيين التوراتيين المشهورين إعلامياً بالمحافظين الجدد، وقد استمات هؤلاء وهؤلاء في شراء الحكم لمدة رئاسية ثانية، تمكنهم من إكمال الأسس الكفيلة بإنجاح الانقلاب العالمي الجديد الذي أعلن عنه جورج بوش الأب عام 1991م بعد هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية، وهو الانقلاب الذي يضمن لأمريكا واليهود ـ كما يحلمون ـ الانفراد بحكم العالم لقرن قادم، هو في نظرهم... القرن الأخير.
قد لا يدرك كثير من الناس أبعاد هذا التحالف الشيطاني بين أباطرة النفط والشركات العملاقة من صقور المحافظين القدامى ذوي الاتجاه الأصولي الإنجيلي، ودهاقنة الربا والرشا من يهود المحافظين الجدد، ولهذا فإنهم يخفقون كثيراً في فهم المواقف الصادرة عن تحالف هاتين الصهيونيتين، ويُخفقون أكثر في توقع وتحليل وربط السياسات والممارسات الصادرة عنهما؛ فكثير من المتابعين للسياسة الأمريكية ينظرون إلى الجانب المصلحي المادي فقط من تلك السياسة، ثم تفجؤهم المواقف الدينية التي كانت مخفية، من قبيل وصف جورج بوش لحربه المعلنة أنها حرب صليبية، وكإقراره لحق الشعب الإسرائيلي في دولة (دينية يهودية) وعزمه على نقل السفارة الأمريكية قريباً إلى القدس، باعتبار أنها عاصمة (إسرائيل) الأبدية، وغير ذلك كثير. كذلك فإن مشروع الإمبراطورية العالمية في جوهره، مشروع ديني له خلفياته الراسخة في الوجدان اليهودي الذي أصبح طاغياً على ثقافة وعقيدة الأنجلوساكسون من البروتستانت الأمريكيين، بتأثير حركة الإصلاح الديني منذ القرن السادس عشر، وهذا المشروع/ العقيدة (لمن يريد إعادة الربط) يرتبط عندهم بأمارات نهاية العالم التي يعتقدون أن أيامها الأخيرة لا بد أن تشهد علواً كبيراً لبقايا قبائل بني إسرائيل الإثني عشر التي منها الإنجلو ساكسون، حيث سيكون منهم مَنْ يكونون سبباً في التعجيل بمجيء منتظَر آخر الزمان، إذا هيؤوا له أسباب ذلك المجيء، وتلك قصة أخرى، لا مجال لإعادة التفصيل فيها هنا، لكن الشاهد منها، أن شراكة اليهود مع إخوانهم من نصارى البروتستانت الأنجلو ساكسون في الإعداد لمشروع الهيمنة العالمية، لا يُستغرب مع استحضار تلك الخلفية، ولا يستغرب معه كذلك ذلك الاندفاع المتهور، والتعسف المتهوِّك في تدبير وتفسير الأحداث العالمية عملياً، وإلباسها شكلاً مسرحياً، ترتب فصوله بتسلسل مرسوم، قبل إسدال الستار على حياة البشرية. ولهذا نسمع عن مصطلحات مجنونة مثل محور الخير في مواجهة (محور الشر) وسيناريوهات الملحمة الأخيرة لـ «هرمجدُّون»، والتي تعد الحرب «العالمية» على الإرهاب إرهاصاً لها، وكذلك الكلام عن الحل «النهائي» لقضية فلسطين، والذي يتلخص في انفراد اليهود بها، وبقدسها، لتصبح نواة للتوسع فيما بعد لـ (دولة) «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات؛ حيث ستتطور فيما بعد لتكون (مملكة) «إسرائيل الكبرى» تمهيداً لمجيء (الملك) الذي يعتقد بوش، ومن قبله ريجان، أن الرب سخرهما للتهيئة لمجيئه(1).
والمتأمل في نشاط الشق اليهودي من ذلك التحالف الصهيوني، يستطيع أن يلحظ بوضوح ذلك التقسيم الدقيق للأدوار بين يهود العالم، فبينما يركز يهود أمريكا من خلال التحالف مع صهاينة النصارى هناك على التحرك في الساحة العالمية من أجل مشروع الإمبراطورية الأمريكية العالمية؛ يركز اليهود القاطنون في فلسطين على الساحة الشرق أوسطية لأجل مشروع إسرائيل الكبرى، الذي نعتقد أن مشروع (الشرق الأوسط الكبير) غطاء خبيث له.
ومع ما بين المشروعين من تداخل وتلازم من الناحية المادية والاعتقادية؛ فإن الكثيرين يغفلون عن الربط الواضح بينهما في خطوات التعاون المشترك بين يهود أمريكا المشاركين في حكمها من جهة، ويهود فلسطين الطامحين إلى الانفراد بها وبما حولها من جهة أخرى، وكذلك خطوات التعاون المشترك بين هذين الفريقين وبين نصارى البروتستانت من جهة ثالثة؛ فأن تتوافق الخطط، وتتطابق المواقف، وتتزامن التحركات بين المشروعات العالمية والإقليمية المتعلقة بأماكن الثروات والمقدسات في بلاد المسلمين؛ فإن ذلك لا يمكن أن يأتي عن طريق المصادفة.
والبداية في «صنع» بواكير سيناريو النهاية عند هؤلاء وأولئك اقتضت تسابقاً محموماً بين المتشددين للتحكم في دفة القيادة في الولايات المتحدة، ليكون ذلك جمعاً للخيوط كلها في يد واحدة، تحرك اللعبة في سياق متناغم، بالأصوات مرة، وبالأسواط أخرى، وبالانتخابات حيناً، وبالانقلابات حيناً، وهذا ما أجمع عليه شياطين واشنطن من النصارى المتهودين واليهود المناصرين. فعندما قرر الاتجاه الإنجيلي المسيطر على الحزب الجمهوري انتزاع السلطة من الحزب الديمقراطي الذي حكم لفترتين رئاسيتين بزعامة كلينتون، بدأ هؤلاء الإنجيليون مع اقتراب عام 2000م في ترتيب استعدادات ضخمة للعودة لحكم أمريكا، ومن ثم البدء في إنجاز ـ أو بالأحرى استكمال ـ مشروع الإمبراطورية الأمريكية، كانت الترتيبات تجري لتحويل فكرة السيطرة على العالم إلى واقع ملموس؛ إذ تكوَّن فريق من صقور المحافظين التقليديين ـ مجموعة بوش الأب ـ مع ثلة من عتاة اليهود الذين اشتهروا فيما بعد بـ (المحافظين الجدد) لكي يتعاون الطرفان ـ مع احتفاظ كلٍ بأجندته ـ في الترتيب لدخول عصر جديد يهدف للوصول إلى غايات متشابهة بوسائل متطابقة، وبتكوين هذا الفريق تشكلت «جماعة» ـ كما يقول الصحفي الأمريكي (روبرت نوفاك)، تضم كلاً من (ريتشارد تشيني) وزير الدفاع الأسبق في عهد بوش الأب ونائب بوش الابن في رئاسته الأولى والثانية، واليهودي (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع في عهد بوش الابن و (دوجلاس فايث) الذي أصبح وكيلاً في وزارة الدفاع للشؤون السياسية. و (جيمس ووسلي) مدير الاستخبارات المركزيـة (السـي آي إيه) السابق، و (ريتشارد أرميتاج) نائب وزير الخارجية في عهد بـوش و (دونالد رامسفيلد) وزير الدفاع في رئاسته الأولى والثانية.
وهذا الفريق ـ كما يلاحَظ ـ خليط من رموز الصهيونية «المسيحية» الإنجيلية، والصهيونية اليهودية الأمريكية، ولإدارة أعمال عصبة الشر هذه، تولت زعامتها العامة تلك الخنفساء السامة (كونداليزا رايس) التي قضت مع هذا الفريق سنة كاملة من التداول في بيت بوش الأب للتجهيز لمشروع الإمبراطورية ـ كما يذكر ذلك محمد حسنين هيكل في كتابه (الإمبراطورية الأمريكية وغزو العراق) ـ وقد تولت (رايس) في العهد الأول لبوش الابن منصب رئيسة جهاز الأمن القومي، وتتولى في عهده الثاني منصب وزيرة الخارجية؛ فبعد أن كانت معالم مشروع الإمبراطورية الأمريكية تُرسم بإشرافها، صارت الخطط المتعلقة بـ (الأمن القومي الأمريكي) تنفذ بتوجيهها، وها هي تباشر في عهد بوش الثاني ـ إن اكتمل ـ استكمال تلك الخطط من خلال منصبها الجديد، كوزيرة لخارجية العالم.
نذكِّر هنا، بأن فريق الإعداد لمشروع الإمبراطورية كان قد توصل ـ قبل وصوله للسلطة ـ إلى تقرير نهائي، وقَّع عليه ريتشارد تشيني عام 1998م، وتضمن ست نقاط رئيسية تتلخص في حتمية اقتران المشروع ببقاء المحافظين الجمهوريين في السلطة؛ لأنهم ـ كما يقول التقرير ـ يملكون رؤية كاملة للقرن القادم، وأن عودتهم للقيادة واستمرارهم فيها فرصة تاريخية يجب استغلالها لوضع الأسس العملية لتمكين أمريكا من الاستمرار في الانفراد بموقع القطبية الوحيدة، وأن ذلك ينبغي أن يكون بناء على ما تأسس في عهد (ريجان) الذي نجح في وضع نهاية للثنائية القطبية مع الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك فإن التقرير أكد على أن القيادة الجديدة للولايات المتحدة ينبغي أن تتحرر من كل قيد يمكن أن يعرقل انتظام السير في مشروع الإ مبراطورية وإن كان ذلك باسم الشرعية الدولية والقوانين العالمية، كما أكد على أن استراتيجية (الحرب على الإرهاب) هي الواجهة الوحيدة التي يمكن أن تجمع العالم حول أمريكا، وتسوِّغ دعوتها للجميع أن يلتزموا بالوقوف خلفها، لحمايتهم من خطر ذلك «الإرهاب» العالمي.
ومنذ أن حدث ذلك «الانقلاب» الديمقراطي المدفوع الثمن، الذي جاء برجل كجورج بوش ليكون واجهة يعمل خلفها هؤلاء الانقلابيون الدوليون؛ من يومها والمسرح العالمي بعامة والشرق أوسطي بخاصة، يعاد فيه ترتيب الأوراق لتتلاءم مع هذا السياق، سياق الهيمنة والإخضاع في بلادنا العربية والإسلامية مرة بالانقلابات، ومرة بالانتخابات.
? انقلابات «ديمقراطية»، وانتخابات «عسكرية»:
«اللعبة» الديمقراطية، ليست منهجاً فكرياً، أو طرحاً إصلاحياً، وإنما هي آلية تسهل الوصول إلى السلطة لمن يملك ثمنها، سواء كان الشراة من الأخيار أو الأشرار؛ ولهذا كانت (لعبةً). ولكن التجارب أثبتت أن الأخيار هم المغبونون دائماً في التعامل مع هذه اللعبة مهما كان الثمن المدفوع من أجلها؛ حيث تتحول في أيديهم كلما أرادوا الإمساك بها أو اللعب حولها إلى آلة قاتلة، تنفجر في وجه من يتلهى بها، تشهد بذلك تجارب الإسلاميين المتكررة في الجزائر وتركيا ومصر وأندونيسيا وباكستان وغيرها؛ إذ تنتهي مسرحية الديمقراطية في كل مرة بانتكاسة تحوِّل الإسلاميين من مقاعد السلطة إلى قاع الزنازين. والديمقراطية الغربية إذ تلافت ذلك (لأنها غربية)؛ ابتكر أهلها لبلادنا العربية والإسلامية ديمقراطيةً مسخاً من طراز غريب مجردٍ من كل مزايا انتقال السلطة في الغرب، ومزود بكل سيئات الاستبداد والدكتاتورية في الشرق، ومع ذلك يظل وصف (القِيَم) مربوطاً بتلك اللعبة القبيحة، تماماً كحال السلع المغشوشة التي تحتفظ بالاسم والمظهر، بعد أن تُفرغ من المحتوى والجوهر.
وقد وجد أعداء الأمة لهذه اللعبة المغشوشة، سماسرة غُشماً، وتجاراً فجرة، لا يكتفون بدس السم في العسل، بل يبيعون السم على أنه عسل، وضمن هؤلاء التجار الفجار ـ من جهتهم ـ وجود أجهزة دعاية منتفعة، تروِّج لهم على أنهم أبر الأبرار وأنجح التجار، فأصبحنا في زمان ـ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يقال للرجل فيه: «ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده؛ وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان»(1). وذلك في سنين خدَّاعة «يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويْبضة. قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: المرء التافه يتكلم في أمر العامة»(2).
? «اللعبة» الديمقراطية، وخرائط الطريق الأمريكية:
التحول الديمقراطي ـ كما يحلو للأمريكيين والمفتونين بهم أن يتغنوا به ـ هو الوسيلة المفضلة الآن لتثبيت آثار العدوان في البلدان المعتدى عليها. ولما كانت سمة هذا العصر البارزة هي الدجل والخداع، فلا غرابة أن يوصف خراب الكفار بالإعمار أو الاستعمار، وتوصف مقاومته بالإرهاب، ولا غرابة أيضاً أن يوصف المنافقون الموالون لهذا المحتل أو ذاك بالأمانة والحكمة والحنكة. ويُختارون (بكل ديمقراطية) لتولي المسؤولية «التاريخية» في البلدان المبتلاة بدهم الكفار لها؛ حيث جرت ولا تزال تجري في تلك البلدان عمليات انتخابات قائمة على تزكية النفس بما ليس فيها، بل ودفع الأموال لشراء ثناء الناس عليها، ويضاف إلى ذلك أن تلك الانتخابات تجري في أجواء المجنزرات والمصفحات وطائرات الشبح والأباتشي، مما أبان لكل من له عينان أن الدمقرطة في بلاد المسلمين هي والأمركة صنوان، وهي المرادة الآن بكل من العراق بعد أفغانستان، والسودان بعد فلسطين، وباكستان بعد إيران.
ففي العراق سيكون إياد علاوي ـ إن تم انتخابه ـ هو ثاني «مخبر» تنصبه أمريكا في رئاسة دولة بعد كرزاي في أفغانستان؛ فقد عمل لدى المخابرات الأمريكية مدة طويلة ـ كما ذكرت ذلك صحيفة الواشنطن بوست في (24/1/2004م) وكان عندها أفضل من أحمد الجلبي (وهما قريبان والاثنان علمانيان بعثيان شيعيان جاسوسان) (ظلمات بعضها فوق بعض) وقد أُسند لعلاوي منصب رئيس الجهاز الأمني في مجلس الحكم المؤقت، قبل أن يختاره الأمريكيون لرئاسة الوزراء في الحكومة المؤقتة، وتاريخه غريب مريب، وعمالته المزدوجة ازدواجاً متعدداً لنحو 15 جهاز مخابرات في العالم ـ باعترافه هو(3)، جعلت المراقبين يحارون في تصنيفه، لأي جهة يتبع ولصالح من يعمل، وبخاصة بعدما تبين أنه كان يدفع آلاف الدولارات لجهات استخبارية أمريكية، على خلاف ما يتوقع من العملاء الذين يقبضون ولا يدفعون، فبحسب ما نشرته صحيفة الواشنطن بوست في (14/1/2004م) فإن هناك عدداً من الشركات والمكاتب والجهات الأمنية والاستخباراتية كانت تتقاضى أموالاً من علاوي؛ فمكتب واشنطن للخدمات القانونية (بريسون جيتس) كان يتقاضى منه مبلغ 100.000 دولار شهرياً مقابل تسهيل إقامة علاقات مع الشخصيات الأمريكية البارزة، وشركة الاستشارات (ثيروس) المملوكة للسفير الأمريكي السابق (باتريك ثيروس) كانت تتقاضى مبلغ 50.000 دولار شهرياً منه، وكذلك فإن شركة (نك ثيروس) ـ ابن باتريك ـ كانت تتقاضى 10.000 دولار شهرياً، وقد أصبح صاحب تلك الشركة فيما بعد ممثلاً لعلاوي في واشنطن، وهو الذي كشف لصحيفة الجارديان البريطانية في وقت لاحق أن علاوي هو الذي أمد المخابرات الأمريكية بمعلومات كاذبة عن أن صدام كان قادراً على نشر أسلحة الدمار الشامل خلال 45 دقيقة من إصدار الأوامر لقواته، وهي المعلومات التي استند إليها توني بلير ـ على أنها من مصادر موثوقة ـ في خطابه أمام مجلس العموم البريطاني قبيل غزو العراق.
وماضي علاوي لا يقل ظلماً وظلاماً عن حاضره؛ فقد كان عضواً في الاستخبارات العراقية أثناء التحاقه بحزب البعث أيام صدام، وبدأ التعاون مع الاستخبارات البريطانية عندما ابتعثه حزب البعث للدراسة في بريطانيا. أما أمن الشعب العراقي الذي يتفاخر هذا القزم العملاق بأنه يعمل من أجله؛ فقد كان هدفاً مباشراً لعملياته الإجرامية التي كان ينظمها مع مجموعة من المعارضة أثناء حكم صدام؛ فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في (8/6/2004م) أن علاوي دبر حملة تخريب في العراق تحت إشراف المخابرات الأمريكية في بداية التسعينيات لهز استقرار العراق، استمرت حتى عام 1995م، واستهدفت منشآت حكومية عبر استخدام سيارات مفخخة ومتفجرات دخلت إلى البلاد من شمال العراق.
ونحن إذا أضفنا إلى ملف علاوي المعتم، ملفات أخرى لا تقل اعتاماً مع لمعانها في فضاء الانتخابات، كملف السيستاني وآل الحكيم وأحمد الجلبي وغيرهم، يتبين لنا أن الولايات المتحدة مُقْدِمة على إحداث انقلاب آخر في العراق بعد الانقلاب العسكري الذي أطاحت فيه بصدام حسين، إلا أنه هذه المرة انقلاب ـ عن طريق الانتخاب ـ على أهل السنة كلهم في العراق.
? الانتخابات وخارطة الطريق العراقية:
تبنت الحكومة الأمريكية ترتيبات خاصة بالعراق بعد اجتياحه، أطلق عليها اللدود اليهودي (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأمريكي: «خارطة الطريق العراقية» وبالرغم من أن تلك الخارطة لم يعلن عنها بصورة رسمية؛ فإن الأمور تجري في اتجاه تنفيذها بصيغ عملية. وخارطة الطريق العراقية لا تختلف في غاياتها النهائية عن خارطة الطريق الفلسطينية التي أعلن عنها جورج بوش؛ في 24/7/2002م، فخلاصة الخريطتين: استبعاد أي تأثير للشرفاء من الشعبين في تقرير مصير بلادهم، وجمع هذا التأثير في أيادي تابعين من العملاء والمنافقين المنتفعين.
وقبل النظر في بنود الخارطة العراقية، نلفت النظر إلى أن إصرار جورج بوش وحلفائه وعملائه على سلق الانتخابات العراقية في أسرع وقت ممكن، لم يكن له تفسير إلا أن هذه الانتخابات هي أضمن طريق لإنفاذ المؤامرة المسماة بخارطة الطريق هناك.
ومن خلال حديث وولفويتز وغيره عن هذه الخارطة، تبين أنها تحوي مراحل خمساً:
المرحلة الأولى: نقل السلطة: والخطوة الأولى فيها كانت تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة في 30 يونيو وهي التي نصب الأمريكيون فيها عميلهم إياد علاوي؛ حيث أبدى امتنانه لهذا الاختيار، وقال في حديث لقناة (الحرة) الأمريكية بعد تعيينه: «أشكر قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة على (التضحيات) التي قدموها في عملية تحرير العراق»!.. ولأن علاوي بدأ يشارك الأمريكيين في تقديم هذه (التضحيات) من دماء العراقيين ومقدراتهم؛ فإن المسرحية الانتخابية التي رتبت على أساس المجيء به على رأس حكومة أغلبها من الشيعة والفرس في بلد عربي سني، سوف تتوج ـ بعد تتويج علاوي ـ بافتتاح السفارة الأمريكية في العراق، المرتب لها أن تكون أكبر سفارة لأمريكا في العالم، وسيكون السفير الأمريكي فيها هو (جون نيغروبنتي). وبنقل السلطة إلى علاوي أو أمثاله، تريد الولايات المتحدة أن تضفي الشرعية الكاملة على الاحتلال، بعد أن يطلب منها ذلك (الرئيس المنتخب) أن تبقي على هذا الاحتلال، وأن تباشر بنفسها عمليات (إعمار العراق) التي يتوقع أن تشهد واحدة من أكبر عمليات السرقة في التاريخ الحديث.
المرحلة الثانية: تثبيت الأمن: والأمن في مفهوم خارطة الطريق العراقية ـ كما هو في خارطـــة الطــريق الفلسطينيــة ـ لا يعني أكثر من حشد الشرطة والمجندين الأمنيين لتوفير الهدوء في ساحة الملعب الكبير، ريثما يستكمل اللاعبون فيه مباراتهم ويقتسمون جوائزهم ـ بعيداً عن (ضوضاء) المشاغبين من المقاومين، الذين يُطلب منهم دائماً أن يكتفوا بموقع المتفرجين، وبهذا يضمن هؤلاء اللاعبون أنهم حققوا انتصاراً كاملاً في مباراتهم ـ كما قال اليهودي بول وولفويتز: «الأمن هو أساس تحقيق نصرنا في العراق؛ لأنه الأساس الذي ستبنى عليه كل النجاحات، ويكمن في تمكين العراقيين من تولى زمام القيادة في الدفاع عن أنفسهم، وفي مواجهة (العدو) الذي نحاربه في العراق حالياً». ويزيد وولفويتز الأمر إيضاحاً في مقصوده بالدور الأمني الذي ينبغي أن يقوم به العراقيون نيابة عن الأمريكيين بعد انسحابهم خارج المدن، فيقول: «للعراقيين مزايا في مواجهة (العدو) الذي نحاربه حالياً، فهم لديهم معلومات بديهية عن كل شيء في العراق، ابتداء من معرفة أحياء المدن المختلفة، إلى اللهجات المحلية، إلى معرفة الانتماءات الدينية، وحتى اللوحات المعدنية للسيارات، لديهم خبرة يتفوقون بها عن أي قوة أجنبية». مقصود الأمريكيين إذن أن تتحول المقاومة الجارية ضدهم إلى قتال بين العراقيين والعراقيين بعيداً عنهم؛ ولهذا فإن الولايات المتحدة تلقي بثقلها في تجنيد وتدريب نحو مئتي ألف مجند في الشرطة العراقية، في حين قرروا للجيش بعد حله أن ينكمش ويصغر ليكون فقط 35 ألف جندي، مما يدل على أن الجيش العراقي الذي كان يبلغ 500 ألف مقاتل، أصبح يُعَدّ فقط لمواجهة (الأخطار) الداخلية كفرع في وزارة الداخلية لا علاقة له بأي أخطار خارجية وبخاصة أخطار الجار «المسالم» إسرائيل.
المرحلة الثالثة: إعادة الإعمار: فقد استهوت أمريكا عمليات هدم بلاد المسلمين بأموال المسلمين، ثم إعادة إعمارها بأموالهم أيضاً؛ على أن تتولى شركاتها وشركات شركائها احتكار عطاءات وعقود الإعمار.
وقد أسندت الإدارة الأمريكية لإدارتها العميلة في العراق مهمة وضع الخطط الكفيلة بإعادة صياغة نظم التعليم والتوظيف والخدمات على النحو الذي يتلاءم مع ما يراد بالشعب العراقي من مسخ وأمركة، ووجهت قوات الاحتلال 8 مليارات دولار من عائدات النفط لعام 2004م فقط لهذا الغرض، وهو ما سيعمل ـ كما يريدون ـ على تثبيت تلك الحكومة، وفتح الأبواب لعمليات النهب المنظم باسم الإعمار.
المرحلة الرابعة: حشد الدعم الدولي: والمقصود بذلك العمل على ضمان تأييد أو تحييد المجتمع الدولي لما يحدث في العراق تحت مسمى التحول الديمقراطي. وبما أن الأمم المتحدة هي الممثلة لهذا المجتمع، وبما أنها تحولت إلى ممثلة لأمريكا؛ فقد أصبحت الولايات المتحدة تخاطب نفسها عندما تخاطب الأمم المتحدة، وخطة خارطة الطريق الخاصة بالعراق والتي تحدث عنها وولفوويتز؛ أُسند للأمم المتحدة فيها دور كبير، وقد بدأ ذلك بقيام تلك المنظمة بإنشاء مجلس الحكم الانتقالي، ليتمخض عنه إنشاء حكومة من خلاصة العملاء في ذلك المجلس، وقد قام السفير الأمريكي بالنيابة عن الأمين العام للأمم المتحدة بتشكيل تلك الحكومة، ونظم الأخضر الإبراهيمي المبعوث الخاص من كوفي عنان للعراق، عملية تنصيب إياد علاوي رئيساً للوزراء، أما غازي الياور الذي لا يحمل إلا الشهادة المتوسطة في بلاد عامرة بالعباقرة، فقد نصب رئيساً بلا رئاسة.
فالأمم المتحدة ستذكر على أنها صاحبة الدور الأكبر في تمرير عمليات التزوير التاريخية في انتخابات العراق، كما فعلت في أفغانستان، أما مجلس الأمن التابع لها؛ فقد أصدر ثلاثة قرارات في يوليو وأغسطس وأكتوبر من عام 2004م، توفر بها الأمم المتحدة الغطاء (الشرعي) للولايات المتحدة في استمرارها في احتلال العراق، تحت مسمى الإبقاء على القوات متعددة الجنسيات التي تقرر أن تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
المرحلة الخامسة: تحويل الحكومة العميلة إلى حكومة «دستورية»: وذلك بحلول نهاية عام 2005م، وذلك عن طريق تحويل قانون إدارة الدولة المعمول به حالياً إلى دستور دائم بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية؛ حيث تبدأ بعدها الانتخابات التشريعية التي ستأتي بمن يضعون الدستور.
والحكومة العراقية برئاسة إياد علاوي، ستقوم (بطريقة دستورية) بدور الداعم الأول لأكبر وكر جاسوسية في العالم، وهو السفارة الأمريكية المزمع افتتاحها بعد تنصيب رئيس حزب «الوفاق» على النفاق، على رأس السلطة.
? الانتخابات الفلسطينية وخارطة الطريق الأمريكية:
الانتخابات الفلسطينية المزمع إجراؤها في 9/1/2005م، لم تكن ناتجة عن وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وإنما كانت بنداً رئيسياً في خارطة الطريق الأمريكية المطروحة منذ عام 2002م، وقد عوَّل الأمريكيون على تلك الانتخابات في المجيء بقيادة فلسطينية جديدة بعد عرفـات قادرة على التعامل بـ (مرونة) مع التنازلات «المؤلمة» التي سيقدمها شارون من أجل السلام.
وكانت الحكومة الأمريكية قد ضغطت لإجراء تغييرات جوهرية في النظام السياسي الفلسطيني، تهدف إلى إقامة نظام برلماني يحوِّل الرئيس الفلسطيني ـ قبل وفاته ـ إلى مجرد رمز وأب روحي، وتحويل صلاحياته إلى رئيس للوزراء، وهو ما تحقق بتعيين محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للوزراء، ثم عُين أحمد قريع خلفاً له، بعد أن اختلف أبو مازن مع عرفات بسبب تشبث الأخير بصلاحياته كرئيس، والظاهر أن شارون نفسه كان يراهن على (أبو مازن) فعندما طرحت (خارطة الطريق) على اللجنة الرباعية التي تضم مع الولايات المتحدة كلاً من روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، قال شارون: «اللجنة الرباعية لا تمثل شيئاً، لا تأخذوها على محمل الجد» وقال إن لديه خطة بديلة وهي خطة الانسحاب الأحادي من غزة، وقال: «لن تبدأ إلا بعد عرفات» (موقع الـ بي بي سي، 29/12/2004م)، ولهــذا كان ينبغــي التخلص مــن عرفات، لا خوفاً منه على اليهود، ولكن تخوفاً من أن يمتد به العمر سنوات أخرى، ربما تؤجل البرامج التي رسمها شارون وبوش مقترنة بمحمود عباس.
والآن تتهيأ الأجواء لانفراد أبي مازن (عرَّاب مفاوضات أوسلو) بموقع الرئاسة، بعد ترشيح حركة فتح له خلفاً لعرفات، وتتهيأ الأجواء في الوقت نفسه لتطبيق خارطة الطريق التي هي أشد سوءاً من اتفاقية أوسلو.
وعلى عكس عرفات الذي توالت عليه موجات السخط بعد كامب ديفيد الثانية عام 2000م، فإن محمود عباس المشرف على السبعين عاماً والذي عزله عرفات، يحظى برضا أمريكا وإسرائيل ومن يدور في فلكهما، بسبب دوره في مفاوضات أوسلو، وتوصله مع (يوسي بيلين) وزير (العدل) الإسرائيلي الأسبق إلى وثيقة: (مازن ـ بيلين) التي رضي أبو مازن فيها أن يعلن الطـرفان عن بلدة (أبو ديـس) عاصمـة للدولة الفلسطينية ـ حال إقامتها ـ بعد أن يُطلق على هذه البلدة ـ زوراً ـ اسم القدس، ولتبقى القدس الحقيقية عاصمة «أبدية» «موحدة» لدولة (إسرائيل).
كما أن أبا مازن أقر أعين الإسرائيليين والأمريكيين بإلحاحه المتكرر على ضرورة توقف الشعب الفلسطيني عن مقاومة المحتل، وهو ما يصفه ـ تعمية ـ بـ «إلغاء عسكرة الانتفاضة» حيث يتماشى هذا تماماً مع ما يقال على نطاق واسع من انتمائه إلى النِّحلة البهائية التي تحرم الجهاد(1)، ثم إن هذا العباس العاشق للوئام مع اليهود، كان أول شخصية فلسطينية تُجري اتصالات وتقيم علاقات مع شخصيات يهودية منذ وقت مبكر، وذلك قي حقبة السبعينيات التي كان العرب «يُجمعون» فيها على أن الرئيس المصري السابق (أنور السادات) قد خان العرب عندما أقام علاقات وأجرى اتصالات مع اليهود، واتصالات عباس المبكرة مع اليهود أهَّلته بعد ذلك أن يقود مفاوضات أوسلو السرية، التي حضر فيما بعد حفل التوقيع عليها مع عرفات عام 1993م في البيت الأبيض.
لكل هذا ـ وغيره ـ يصنف محمود عباس على أنه رأس (الاعتدال) الفلسطيني، وبخاصة عندما ينضم إليه فريق (المعتدلين) من أمثال (محمد دحلان) و (أحمد قريــع) و (جبريل رجــوب) و (نبيل شـعث) و (نبيل عمرو) و (نبيل أبو ردينة) وبقية (النبلاء) الذين بلغ النبل بهم أن تناسوا جراحات فلسطين تحت جرافات شارون، ليمدوا غصن الزيتون مرة ثانية.. أقصد عاشرة؛ للسفاحين من أمثال ديناصور السلام (شارون).
وفي ظل تحويل القضايا المحورية المصيرية من قضايا المسلمين إلى مهمات استخباراتية ـ اختير أبو مازن ليترأس حركة فتح في المفاوضات التي ترعاها المخابرات المصرية بغية الوصول إلى اتفاق ما مع «الإسرائيليين».
هل سيحمل أبو مازن وفريقه هذا الملف الثقيل معه إلى الانتخابات الأمريكية ـ عفواً ـ الفلسطينية القادمة، للدعاية في حملته الانتخابية، أم سيعتمد ـ كما هو المعتاد ـ على ضعف الذاكرة العربية، والتسامح المفرط في منظمات (العفو) الإسلامية؟!
- إن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً من الفلسطينيين ـ وبخاصة الإسلاميين ـ أن يتناسوا دفاع محمود عباس المستميت عن (محمد دحلان) المدير السابق لجهاز الأمن الوقائي بقطاع غزة ليكون وزيراً للداخلية، وهو الذي تفانى في الحفاظ على (أمن) إسرائيل بالزج بأبطال المقاومة في غياهب السجون، والمطلوب منهم أيضاً أن يملؤوا صناديق الاقتراع بالأوراق تقول (نعم) لفض ورفض الانتفاضة، ثم الانتقال إلى مقاومة المقاومة. والمطلوب منهم كذلك أن يشطبوا من الذاكرة شهداء الانتفاضة الذين بلغ عددهم 2700 شهيد، ويلغوا من هذه الذاكرة تلك المشاهد المتكررة من الهدم والبناء المتزامنين: هدم بيوت العزل مع بناء الأسوار العازلة. كما يطلب منهم أن يقبلوا بعودة زعامات أوسلو للسير في طريق مفاوضات السراب مرة أخرى.
سوف يقال ظلماً وزوراً: إن الشعب الفلسطيني (أجمعَ) على انتخابات (المناضل) محمود عباس ليقود المسيرة خلفاً لعرفات؛ فالانتخابات القادمة ستأتي في الغالب به رئيساً لفلسطين، وستغدق الأموال من الداخل والخارج لتنصيبه لرئاسة سلطة بلا سلطة، ربما تقود إلى دولة بلا دولة.
ونظراً لأن الشعب الفلسطيني لن يُغلب على عقله أبداً فينتخب رجلاً مجزوماً بعلمانيته ومشكوكاً في بهائيته ومتطوعاً بولائه للأمريكيين في برنامجه وأجندته؛ فإن الانتخابات لا بد أن تزوَّر بطريقة من الطرق ـ وما أكثرها ـ فـ (القِيَم) الديمقراطية جعبتها ملأى بطرق التزوير المختلفة لبيع الحكم وشرائه.
أما الجهاد.. أما المقاومة، بل حتى بدائلهما العلمانية من (الكفاح والنضال) فإن كل ذلك عند محمود عباس وفريقه؛ مكانه الوحيد هو العودة إلى طاولة المفاوضات، حيث تعهد أبو مازن أن يطرح شارون من فوقها أرضاً، ويسحقه ركلاً وضرباً، فشارون ـ في رأيه ـ ليس مستعداً للسلام؛ ولهذا لن يصمد في مفاوضات سلام، والطريق (الوحيد) لهزيمته هو «إقناعه» وإقناع العالم معه بالعودة إلى عملية السلام.
يقول عباس: «الطريق الوحيد الذي يمكن الانتصار به على إسرائيل هو أن نقول للعالم: كفى... نحن ذُبحنا... نحن دُمرنا، وهذه جريمة يجب أن تتوقف، ونحن نريد السلام». وعبر أبو مازن عن يقينه بأن شارون سيسقط بعد ثلاثة شهور أو سنة من بدء المفاوضات؛ لأنه: «سيجــد نفسـه مفلساً ولا يستطيع أن يقدم شيئاً للسلام، وسيظهر مفلساً أمام العالم».
هكذا يفكر ويخطط مناضلو الموائد ومحاربو الطاولات، وأبطال (مراثونات) الركض داخل دهاليز المفاوضات السرية وسراديب الاتفاقات المشبوهة.
إن ترشيح محمود عباس سيفرض على كل من يفكر في ترشيح نفسه أن يخلع من رأسه فكرة النِّدِّيَّة مع مرشح أمريكا وإسرائيل، وإلا فستجري الضغوط عليه ـ كما جرت على مروان البرغوثي، أو سيعتقله الإسرائيليون، كما فعلوا مع مصطفى البرغـوثــي، أو سيُتجاهــل، كما يحــدث مــع طلال ســدر وعبد الستار قاسم ومنيب المصري، الذين يغلب على الظن أنهم سينسحبون من الترشيح عندما يتأكدون أن «النزاهة» الديمقراطية المتوهمة ستنتقل بصناديقها الشفافة إلى دهاليز الفرز في مكاتب صهيون؛ حيث سيكون المطلوب من (أبو مازن) بعدها إما أن يرضى بما لم يــرض بــه عــرفات، أو يلقى ما لقيه عرفات.
? وخارطة أفغانستان..؟!
«خارطة الطريق» الخاصة بأفغانستان، أصبحت في خبر كان؛ لأن ما أراده الأمريكيون منها قد فُرغ منه ـ كما يظنون ـ بتتويج العميل (الأصيل) حامد كرزاي، رئيساً (منتخباً) لتلك البلاد المجاهدة، بعد ما يقرب من ثماني سنوات من وقوع الاختيار عليه مرشحاً للرئاسة؛ حيث اختير لها منذ عام 1996م، قبل أن تتمكن طالبان، وتتعلل أمريكا بتشددها لضرب أفغانستان.
الشعب الأفغاني لم ينتخب كرزاي ـ كما صُوِّر الأمر ـ إنما انتخبه مجلس ما يسمى بـ (اللويا جيركا) بعد أمركته ليصبح (اللويا ميركا)، وهذا المجلس يفترض أنه يمثل القبائل الأفغانية وأعيانها، وقد فُصِّلت «اللعبة» الديمقراطية في أفغانستان على الطراز نفسه الذي يجري في فلسطين والعراق؛ بحيث لا يسمح إلا لمن «انتخبتهم» أمريكا بالوصول إلى مواقع المسؤولية، ولهذا فلا شرعية لهذه الانتخابات، لا بالمعنى الديني ولا المعنى القانوني؛ حيث إنها جرت تحت ولاية الكافر المحتل من جهة، وإنها لم تكن حرة ولا نزيهة من جهة أخرى، وإنما كانت تلك الانتخابات الأفغانية مجرد ورقة في الانتخابات الأمريكية؛ حيث كان جورج بوش يلوِّح بها أثناء تحركاته الاستعراضية للفوز مرة أخرى بالرئاسة الأمريكية.
وقد جرت تلك الانتخابات (الحرة) في ظل وجود 130 ألف جندي أجنبي على أرض أفغانستان، منهم ثمانية آلاف جندي أمريكي، وهم جميعاً متمركزون في العاصمة دون بقية الولايات التي عادت بعد الغزو الأمريكي إلى سطوة أمراء الحرب وتجار المخدرات، ومع هذا قيل زوراً إن الشعب أجمع عليه، بل أُعلن فوزه قبل ساعات من فوز بوش.
لقد سمحت «نزاهة» الديمقراطية الأمريكية لكرزاي أن يضخ عشرات الآلاف من الأصوات الصادرة عن هويات وهمية في صناديق الانتخاب، في حين لم تسمح أبداً بتزييف أصوات الناخبين في جمهورية أوكرانيا النصرانية؛ لأن صديقها هناك (فيكتور يوشنكو) لم يفز في الجولة الأولى، فهيجت أمريكا المنظمات الدولية، وحركت الجماهير في الداخل، لإجبار الحكومة الأوكرانية، ومن ورائها الحكومة الروسية، لإعادة الانتخابات، حتى يفوز المرشح (الأمريكي) لرئاسة أوكرانيا. وسوف تثبت الأحداث أن يوشنكو يقوم بالدور نفسه الذي قام به (ليخ فاونسا) في إحداث التغيير الغربي في بولندا ثم في بلدان أوروبا الشرقية لحساب أمريكا، وكل هذا يدور ـ على كل حال ـ في فلك المشروع الإمبراطوري الأمريكي الكبير، الذي تبقى «الديمقراطية» هي لعبته ولعنته التي ستستخدم بالتوازي مع الدبابات والطائرات لتثبيت الزعامات التي «تنتخبها» أمريكا.
وبالرغم من ذلك نقول: إن كانت هناك نخبة تنتخبها الشعوب في البلدان الإسلامية المنكوبة بالديمقراطية العسكرية الأمريكية؛ فهم هؤلاء الأبرار الأخيار الذين يقررون ـ بإذن الله ـ مصير العالم اليوم بالبذل والفداء لا بالبيع والشراء؛ فلهؤلاء المستضعفين الأقوياء الفوز الكبير في الدنيا قبل الآخرة {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6].
--------------------------------------------------------------------------------
(*) نشواً: أي جماعة أحداثاً (النهاية في غريب الحديث، 5/50).
(1) أورده الألباني في صحيح الجامع برقم (216) ونحوه في السلسلة الصحيحة، رقم (979).
(1) قال الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان في لقاء في البيت الأبيض مع عدد من القسس ورموز الإنجيليين عام 1985م: «إنني مؤمن من كل قلبي أن الله يرعى أناساً مثلي ومثلكم لإعداد العالم لعودة ملك الملوك وسيد الأسياد» النبوءة والسياسة، ص 194، وهو يقصد عودة عيسى ـ عليه السلام ـ إلى الأرض، أما الرئيس الحالي جورج بوش ـ فبحسب ما نقله (ستيفين مانسفيلد) مؤلف كتاب (عقيدة بوش) فقد قال: «إن الرب دعاني لترشيح نفسي رئيساً لأمريكا»!! والرب بالطبع في عقيدة بوش هو (يسوع)!
(1) أخرجه البخاري. (2) أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2253) وقال إسناده قوي بمجموع الطرق.
(3) كان علاوي قد أعلن في لقاء صحفي في (9/6/2004م) أنه ليس خجلاً من عمله في وكالة الاستخبارات الأمريكية ووكالات الاستخبارات الأخرى، وأكد أن بقية رجال حركة الوفاق الوطني التي يتزعمها كان لها صلات بالمخابرات الأمريكية، وقال: «إننا جميعاً جزء من معركة تحرير العراق، وقد كنت أيضاً على اتصال بـ (15) دائرة مخابرات في أنحاء العالم»!
(1) البهائية مذهب نشأ في إيران، على يد الإيراني، (حسين علي بن عباس المازندراني) الذي لقب نفسه بالبهاء، بعد أن كان من أتباع المرزا علي محمد الشيرازي الذي ادعى النبوة ولقب نفسه بالباب، وقد أعلن البهاء نفسه خليفة للباب، ولما نفاه العثمانيون إلى عكا احتفى به اليهود هناك، وزادت فتنته فادعى النبوة ثم الألوهية، ونسخ شريعة الباب والشريعة الإسلامية، ووضع شريعة مفتراة تنسخ الصلوات إلى ثلاث صلوات في اليوم، وتجعل الصوم 19 يوماً من شهر مارس تنتهي في 21 منه، وحوَّل شريعة الحج إلى عكا والصلاة إليها، وحرَّم الجهاد مطلقاً؛ فالبهائيون على هذا ليسوا من المسلمين ولا من أهل الكتاب
|