إعداد/ سعود بن إبراهيم الشريم إمام الحرم المكي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: اتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى والخلوة والجلوة، فـإن الله لا يخفى عليه شىء في الأرض ولا فى السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إلـاه إلا هو العزيز الحكيم[آل عمران:5، 6]، أما بعد: فيا عباد الله، إن الباريَ سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه خلق هذا الكون عُلويَّه وسفليّه ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو. كلُّ ذلك لأجل أمرٍ واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه. ومن ثمَّ فإن تحقيق العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانَه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، ليكون الدين لله والحكم لله والدعوة إلى الله. كلُّ ذلك يقوم به من جعلهم الله مستخلَفين في الأرض مستعمَلين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني الإنسان من بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح على حدٍّ سواء. كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه وتعالى. فأكملُ الخلق عبودية لله هو أكملهم له ذلاً وانقيادًا وطاعةً. وجماع العبودية ـ عباد الله ـ أنها هي الدين، فالدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخـاسرين[آل عمران:85]، وهذا هو سرّ خلق الله للخلق، وغايةُ إيجاده لهم على هذه البسيطة، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]، أفحسبتم أنما خلقنـاكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون[المؤمنون:115]، أيحسب الإنسـان أن يترك سدى[القيامة:36]. أيها المسلمون، يقول الله تعالى: أولم ينظروا فى ملكوت السمـاوات والأرض وما خلق الله من شىء[الأعراف:185]، ويقول عائبًا فئة من البشر غافلةً ساهية لم تأخذ العبرة والعظة مما تشاهده ليلاً ونهارًا في أنحاء هذا الكون المعمور: وكأين من ءاية فى السمـاوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون[يوسف:105، 106]. فيا سبحان الله، أفلا يرون الكواكب الزاهرات والأفلاك الدائرات والجميع بأمره مسخرات؟! وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحارٍ زاخرات وأمواج متلاطمات وقفارٍ شاسعات، ثم هم يجعلون لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات، فسبحان الواحد الأحد خالق جميع المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل يجعل العجب يأخذ من نفسه كلَّ مأخذ حينما يرى أمرَ هذا الكائن البشري وهو ينكص على عقبيه ويولِّي الدّبر، منصرفًا عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى والفاني عن الباقي، يتقلَّب بين الملذات والشهوات، ملتحفًا بأكنافها بعد أن أكرمه الله وكرّمه وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنة، وبعد أن خلقه وصوّره وشقَّ سمعه وبصره، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [إبراهيم:34]، ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر الإنسان، ويجادل الإنسان، فيقول الله عنه: إن الإنسان لظلوم كفار[إبراهيم:34]، إنه كان ظلوما جهولا[الأحزاب:72]، قتل الإنسـان ما أكفره[عبس:17]، وكان الإنسـان قتورا [الإسراء:100]، وكان الإنسـان أكثر شىء جدلا[الكهف:54]، كلا إن الإنسـان ليطغى أن رءاه استغنى[العلق:6، 7]، بل يريد الإنسـان ليفجر أمامه[القيامة:5]، إن الإنسـان لفى خسر[العصر:2]. وقد كان الأجدر بهذا الإنسان وقد كَرَّمه الله ونعّمه أن يكون عابدًا لا غافلاً، طائعًا لا عاصيًا، مقبلاً إلى ربه لا مدبرًا، شكورًا لا كفورًا، محسنا لا ظالمًا. إن المتأمِّل في كثير من المخلوقات في هذا العالم المشهود ليرى أنها لم تُعطَ من العناية والرعاية والعمارة والاستخلاف كما أُعطي الإنسان، ولا كُلِّفت كتكليف ابن آدم، بل جعلها الله خادمة مسخرةً له، هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا [البقرة:29]، بل حتى الملائكة سخرها الله لابن آدم، فجعل منهم الكتبةَ عليهم والدافعين عنهم من معقّبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله، وجعل منهم المسخَّرين لإرسال الريح والمطر، كما جعل الله من أكبر وظائفهم الاستغفار لبني آدم، والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الأرض[الشورى:5]. ومع ذلك ـ عباد الله ـ فإن هذه المخلوقات عدا ابن آدم قد كمُلت في عبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته وألوهيته، إلا بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن وبعض الدواب كالوزغ والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم». [رواه أحمد](1). غير أن أولئك مع عصيانهم إلا أنهم لا يبلغون مبلغَ عصيان بعض بني آدم، وما ذاك إلا لأنه قد وُجد في بني آدم من يقول: أنا ربكم الأعلى، ووُجد فيهم من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، ووُجد فيهم من يقول: أنا أحيي وأميت، ووُجد من يقول: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، ووُجد فيهم من يقول عن القرآن: إنْ هذا إلا قول البشر، ومن يقول: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، ناهيكم ـ عباد الله ـ عمن يقول: يد الله مغلولة، ومن يجعل الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، فكيف إذًا بمن يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء. وهكذا ـ عباد الله ـ تمتدّ حبال الطغيان والجبروت في بني الإنسان إلى أن يخرج من يقول: إن الشريعة الإسلامية غيرُ صالحة لكل زمان ومكان، أو من يقول بفصل الدين عن الدولة، فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أو من يقول: الدين لله والوطن للجميع، أو من يقول: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو من يصف الدين بالرجعية، والحدود والتعزيرات بالهمجية والغلظة، أو أن يصفه بالمقيِّد للمرأة والظالم لها والمحجِّر على هويَّتها، أو من يرى حريتَها وفكاكها من أسرها إنما يتمثَّل في خروجها من حدود ربها، وإعلان عصيانها لشريعة خالقها ومولاها، وجعلِها نهبًا لكل سارق وإناءً لكل والغ ولقيطًا لكل لاقط، جسدًا للإغراء والمتاجرة، وحُبَّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا. هذه هي بعض مقولات بني الإنسان، فهل من التِفاتةٍ ناضجةٍ إلى مواقف إبليس اللعين في كتاب ربنا لتروا: هل تجدونه قال شيئًا من ذلك غير أنه وعد بالغواية؟! بل إن غاية أمره أنه فضّل جنسه على جنس آدم، فاستكبر عن السجود لمن خُلق طينًا، بل إنه قد قال لبعض البشر: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب. فلله ما أعظمَ عصيان ابن آدم، وما أشد استكبارَه ومكره السيئ، ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا[فاطر:43]. ويؤكد الباري جل شأنه حقيقةَ عصيان بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات واستنكافَهم أن يكونوا عبيدا لله الذي خلقهم وفطرهم فقال سبحانه: ألم تر أن الله يسجد له من فى السمـاوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء[الحج:18]، فدل على أن أكثر بني آدم عصاةٌ مستكبرون ضالون، وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله[الأنعام:116]، وقليل من عبادى الشكور [سبأ:13]، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [يوسف:103]. أيها المسلمون، من أجل أن نصل وإياكم إلى غايةٍ واحدة، وهي استشعار عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، وأن منا مفرّطين ومستنكفين، وأن من أطاع الله بشيء من العمل أخذه الإعجاب بنفسه كلَّ مأخذ، وأقنع نفسه ومجتمعَه بأنه يعيش أجواءَ الأمن والأمان والاستقامة والهداية وأنه أدى ما عليه، فليس هناك دواعٍ معقولةٌ للتصحيح والارتقاء بالنفس إلى البُلغة المرجوَّة، إنه لأجل أن نعلم ذلك، ولأجل أن نزدري عملَنا مهما كان صالحًا في مقابل أعمال المخلوقات الأخرى من جمادٍ ونباتات وحيوان، فإن من المستحسن هنا أن نسلط الحديث على بعض أمثلة متنوعة لمخلوقات الله سبحانه، لنبرهن من خلالها على الهُوَّةِ السحيقة بيننا وبينهم في كمال العبودية لله والطاعة المطلقة له. فمن ذلك ـ عباد الله ـ ما أودعه الباري سبحانه بعض الجمادات من الغيرة على دينه والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله سبحانه، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: «مستريحٌ ومستَراحٌ منه»، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ قال: «إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب». [رواه البخاري](2). انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلانٍ لمعصية الله تعالى، والتي لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب. وفي مقابل ذلك فإن بعض الدواب تفرح بالتديُّن، وتشعر بأثره في ابن آدم، وببركته على وجه الأرض، ولذلك فهي تدعو له، وتصلي عليه، وتستغفر له، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلُّون على معِلّم الناس الخير»(3). بل إن الدواب جميعًا لتشفِق من يوم القيامة وتفرَق من قيام الساعة خوفًا من هولها وعرصاتها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشيةَ أن تقوم الساعة». [رواه أحمد(4) والمصيخة هي المنصتة] ولقد ورد أيضًا ما يدل على عبودية الديك لله ودعوتِه للخير والفلاح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة». [رواه أحمد وأبو داود](5). وقد روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه ليس من فرسٍ عربيٍّ إلا يؤذَن له مع كل فجر يدعو بدعوةٍ يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من ابن آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه»، فيقول: «إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته» [رواه أحمد](6). وأما النمل ـ يا رعاكم الله ـ فتلك أمةٌ من الأمم المسبحة لله سبحانه، مع صغر خلقتِها وهوان حالها وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله عنها: حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مسـاكنكم لا يحطمنكم سليمـان وجنوده وهم لا يشعرون[النمل:18]. هذه النملة يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: «قرصت نملةٌ نبيًا من الأنبياء، فأمر بقريةِ النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصتك نملة أحرقتَ أمةً من الأمم تسبِّح لله؟!» [رواه البخاري](7). وأما الشجر وهو من النبات عباد الله، فقد قال الله عنه: والنجم والشجر يسجدان[الرحمن:6]، وروى ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا»(8). وأما ولاءُ الحجر والشجر للمؤمنين ونصرتُه لدين الله حينما يستنطقه خالقه فيُنبئ عن عمق عبوديته لربه وغيرته على دينه، فإن رسول الله قد قال عنه: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله» رواه البخاري(9). فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه المخلوقات الآنفة، إضافةً إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشع له، وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وخالقها إذ عرضَ عليها الأمانةَ فأشفقت من حملها، وكيف أنه تدكْدك الجبل لما تجلى ربنا لموسى عليه السلام، فهذه هي حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتُها وخشيتها وتدكدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لتصدعت من خشية الله. فيا عجبا من مضغةِ لحم أقسى من صخر صلب، تسمعُ آيات الله تتلى عليها ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها، كأن في أذنيها وقرًا، فهي لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو وعظها لقمان أو تليت عليها آيات القرآن، ولكن صدق الله: أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصـار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور [الحج:46]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا. أيها الناس، تكلّم ذئبٌ كلامًا عجيبًا إبانَ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كلاما يفيد بأن الذئب يؤمن بأن الرزق من عند الله، بل قد أمر هذا الذئب راعيَ الغنم بتقوى الله سبحانه، إضافةً إلى علم هذا الذئب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته. فلقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدا ذئبٌ على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي، ذئبٌ مقعٍ على ذنبه يكلمني كلامَ الناس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجبَ من ذلك؟! محمدٌ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق... الحديث(01) وفي رواية للبخاري: فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال: «فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر»(11). فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروه حقَّ قدره، واستشعروا أثرَ عبودية الجماد والنبات والحيوان، وكمالها لله تعالى، وهي أقل منكم فضلاً وتكريمًا. واعلموا أنكم مقصِّرون مهما بلغتم، وظالمون لأنفسكم مهما ادعيتم القصدَ أو الكمال، فإن بُعد البشر عن المعرفة الحقيقية، وضعفَ يقينهم بالآمر الناهي، وغلبةَ شهواتهم مع الغفلة، تلك كلها تحتاج إلى جهاد أعظمَ من جهاد غيرهم من المخلوقات الطائعة المسبِّحة لله تعالى. يصبح أحدنا وخطابُ الشرع يقول له: استقم في عبادتك، واحذر من معصيتك، وتنبَّه في كسبك، وقد قيل قبلُ للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرةَ فؤادك بكفِّك، ثم قم إلى المنجنيق لتُرمى في النار، ويقال للغضبان: اكظم، وللبصير: اغضض، ولذي القول: اصمت، ولمستلِذِّ النوم: تهجّد، ولمن مات حبيبه: اصبر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحلُّ لك أن تفرّ، وإذا وقع بك مرض فلا تشْكُ لغير الله. فاعرفوا ـ أيها المسلمون ـ شرفَ أقدار بني آدم بهذا الاستخلاف، وصُونوا هذا الجوهر بالعبودية الحقة عن تدنيسها بشؤم الذنوب ولؤم التفريط في الطاعة، واحذروا أن تحطَّكم الذنوب إلى حضيض أوهد، فتخطفكم الطير أو تهوي بكم الريح في مكان سحيق. ذالك ومن يعظم شعـائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32]. والعجب ـ يا عباد الله ـ ليس من مخلوقاتٍ ذُلِّل لها الطريق فلا تعرف إلا الله، ولا من الماء إذا جرى، أو من منحدِر يُسرع، ولكن العجب من متصاعِد يشقُّ الطريق شقا، ويغالب العقبات معالجة، ويتكفّأ الريح إقبالاً، ولا عجب فيمن هلك: كيف هلك؟ ولكن العجب فيمن نجا: كيف نجا؟ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت:35]. والعبد كلما ذل لله وعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقربَ له، وأعزَّ وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك» رواه ابن ماجه(21). هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عز من قائل عليم: ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما[الأحزاب:56]. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
|