الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من المواقف المتكررة في حياة الناس اليومية بحيث يندر أن يمر يوم دون وقوعها وتكرارها: ما يتعلق بمشاهدة الأطفال للتلفاز، فإنَّ مشاهدة الأطفال واليافعين والمراهقين بل وحتى الشباب - مشاهدتهم للتلفاز - تحتف بأخطار مؤكدة أكَّدها المتخصصون في علم الشريعة، والمتخصصون في علم النفس والاجتماع، والمتخصصون في مجالات مختلفة من الطب.
وحديثنا هنا شامل لكل ما يُعْرَض عَبْر شبكات التلفزة، سواء البرامج التقليدية أو التي تبث عبر القنوات الفضائية أو من خلال أشرطة الفيديو، بل وحتى ألعاب الفيديو التي تتم عبر الشاشة، والتي ثبت من خلال الدراسات العلمية أن لها آثارها السيئة من جهة تأثيرها على العين بسبب الأشعة فوق البنفسجية المنبعثة لدى اقتراب الطفل من الشاشة، وكذلك الكسل البدني نتيجة قلة الحركة، والضرر الذي ينتاب الدماغ نتيجة إجهاد القشرة المخيَّة. وبالنظر أيضاً إلى الإجهاد النفسي والعصبي، وفوق ذلك ما تحويه من مشاهد العنف والمغامرات التي فوق التصور العقلي بما ينعكس سلباً على مَن يمارسها في جوانب عدة. وأعظم من ذلك كله ما تحويه من المخالفات الشرعية والارتكاسات الأخلاقية.
وقبل أن نستعرض الجوانب السلبية المحتفة بهذا الأمر؛ فيحسن التأكيد هنا بأن الحكم الشرعي ليس على ذات الجهاز، وإنما على طبيعة ما يُعرض فيه، فبحسب ما يُعرض - أو بحسب ما يغلب عليه - فالحكم يكون وفق ذلك، و { الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ } كما أخبر المصطفى .
وللإنصاف نقول: إن ثمَّة إيجابيات محددة يمكن أن تُذْكَر لشاشات التلفزة... ولكن: يوماً بعد يوم تتزايد الدلائل العلمية التي تؤكد التأثير السلبي لشاشات التلفزة وما يُعرَض من خلالها ولاسيما على الأطفال.
لقد أتى حينٌ من الدهر ولا زال تُعرَض فيه الرسوم المتحركة ( أفلام الكرتون ) والتي صُنِعَت وبُرمِجَت بما يتناسب مع ثقافة مجتمعات غير مسلمة، ولهذا فقد تضمنت عدداً من المحاذير سواء ما كان منها يخل بعقيدة الطفل ويفسد فطرته، أو يُنَمِّي في نفسه السلوك العدواني، أو يستثير الكوامن النفسية المتعلقة بما يستحي منه مَن هو في مثل سِنّه.
وعلى جانب آخر: فقد أثبتت الدراسات العلمية الارتباط الوثيق بين مُدَّة مُكث الطالب أمام الشاشة ونوعية ما يشاهده من خلالها، وبين تأخره الدراسي، إضافة إلى ما يستتبع ذلك من استثارة النزعة العدوانية والسلوك الإجرامي لدى الطفل بسبب ما يشاهده من أفلام العنف المتنوعة.
وفي هذا السياق يقول نيوكلاس فان رايك - رئيس المجلس القومي للأطفال والتلفزيون في الولايات المتحدة: ( قد يكون التلفزيون عدوَّا للأطفال، وقد يكون هديةً رائعة لهم، إنَّ المشاهدة العشوائية تلتهم أجزاء كبيرة من عمر الطفل وتحرمه من ساعات مهمَّة يحتاج أن يقضيها في التعليم واللعب والنوم ).
ولا تتلاشى آثار العنف الذي يبث عبر شاشات التلفزة بعد مرحلة الطفولة، بل إنها تستمر في مراحل العمر اللاحقة، وقد تتبع العالم النفسي ( ليونارد ايرون ) من معهد الأبحاث التابع لجامعة متشيغن بالولايات المتحدة الأمريكية، تتبع ( 650 ) طفلاً من نيويورك منذ عام 1960 وحتى 1996 أي على مدى ( 36 ) عاماً من أعمارهم، وقام بفحص عادات المشاهدة لديهم وسلوكياتهم، فوجد أن سلوكيات الذين يشاهدون العنف في التلفزيون في الصغر أشد عدوانية في مرحلة المراهقة والشباب، فهم أكثر ضرباً لزوجاتهم، وأكثر تناولاً للخمور، وأقرب إلى المسالك الإجرامية.
ولئن كانت البلاد الإسلامية أبعد عن وضع الانفلات المقيت في بلاد الغرب وخاصة بلاد الحرمين التي لها من الخصوصية في إعلامها كما لها من الخصوصية بكونها مأزر الإسلام ومهوى أفئدة المسلمين، إلا أنه ومع وجود القنوات الفضائية والتي لا تعرف حدوداً، فإن الإشكالية والمأزق يكون أكبرَ خطراً، فإنَّ الطفل أو المراهق لدى بحثه عمَّا يجد فيه التسلية وملء الفراغ من خلال استعراضه للقنوات المتاحة له؛ سيقع نظره ولا بدَّ على ما يؤثِّر في مستقبل حياته، وهذا ما أثبتته دراسة علمية قامت بها ( جمعية الأطفال الآن ) الأمريكية عن: الأطفال ووسائل التسلية، وتبيَّن من خلالها أن الأطفال وهم يتنقلون بين قنوات التلفزيون بحثاً عن برامج التسلية يقعون فريسة لنوع خطير من التعليم يتعرفون من خلاله على أساليب الخداع وعدم احترام الآباء ومشاهد العُري الفاضح.
ويعلق ( جيمس ستاير ) رئيس الجمعية المذكورة على هذه النتائج بقوله: ( إنَّ الأمر يمثِّل قضيةً كبرى، فالأطفال يتعرَّضون لوسائل الإعلام اليوم بطريقة لم يعتادوها من قبل، ويشبهون وهم يواجهون مزيداً من العواقب الوخيمة لما يشاهدونه من العنف والجنس أنهم يحتاجون إلى تربية عميقة وقيم متينة ).
أضف إلى ذلك: تلك المشاهد التي تستجدي القنوات الفضائية من خلالها كثيراً من الناس من خلال المناظر المخلَّة بالأدب والأخلاق؛ لتكون بذلك طُعماً يستجلبهم، وما يتبع ذلك من الآثار على الأفراد والمجتمعات. وهذا ما جعل المتخصصين في كثير من أقطار العالم وخاصة أهل التربية والتعليم يَجِدُّون في بحث هذه القضية ومحاولة إيجاد الحلول الناجعة لها.
فكان من المتحتم لتحقيق ذلك أمور منها: أن يطلب من المؤسسات المنتجة للبرامج بأن تضاعف من إنتاجها من البرامج الثقافية والعلمية والبرامج التي تعزز الجانب الأخلاقي في نفوس الناشئة مع خلوِّها من المخالفات الشرعية.
ومن الضروري في هذا: أن يُجَنَّب الأطفال القنوات المُسِفَّة والتي لا تَعْتَبِر بخُلُق أو فضيلة، وأن تُهَيَّأ لهم البرامج البديلة والنافعة سواءً ما كان منها عبر التلفاز أو من خلال البرامج التعليمية والثقافية عبر الحاسب الآلي.
ومن المهم في هذا المجال: أن تُحَدَّد أوقات معيَّنة للأطفال للمشاهدة حفاظاً على عيونهم وقوة إبصارهم وعلى سلامة نشاطهم الجسماني. ومن الأهمية بمكان وجود أحد الأبوين مع الأطفال لدى متابعتهم لشيء من البرامج.
ومن التوجيهات العجيبة لدى بعض فئات المجتمع الأمريكي ما عبَّرت عنه أم أمريكية من خلال تدوينها لتجربتها في كتاب بعنوان " ماذا تفعل بعد إغلاق التلفزيون " شَرَحَت فيه كيف أنها ربَّت أطفالها على عدم وجود التلفاز بمنزلها طيلة عشر سنين، وفي هذا السياق تقول: ( يتمتع أطفالي بنشاط حركي، لديهم أفكارٌ مفيدة يريدون أن ينفِّذوها، ولا يتعاطون ( ما به ضررهم ) لقد تغيِّرت حياتنا كثيراً، فنحن نجلس معاً في غرفة واحدة، ونشعر بالراحة والاطمئنان، إنني أطالب من الناس أن يفعلوا شيئاً صعباً، فكم سيشعرون بالراحة لو أصبحوا مسؤولين عن حياتهم وقاموا بإغلاق التلفزيون ).
ومهما يكن: فإنَّ أحداً لا يشكُّ في الآثار السلبية والأضرار المحققة لِمَا يُعرَض عبر شبكات التلفزة عموماً، ولئن كان المتخصصون في التربية والإعلام في كثير من الدول الغربية ينادون اليوم بضرورة الانضباط الأخلاقي في برامجهم الإعلامية، فإن هذا يوضِّح بجلاء ما ينبغي على أهل الإسلام من لزوم المسلك الإعلامي المحافظ في البرامج التلفازية وفي الوسائل الإعلامية الأخرى، بحيث تراعى الجوانب الشرعية بعناية تامة، وهذا هو المسلك الذي لن تجد أُمم الدنيا بُدِّا من الرجوع إليه إن أرادت الخير والصلاح لشعوبها، وهذا يعزز التوجه لتكثيف البرامج الإعلامية النافعة، والتي تقدم النماذج الفذَّة في مجتمعنا؛ لتكون أسوة للأجيال الصاعدة، فلقد أتى حين من الدهر باتت فيه أمنية الطفل اليافع والشاب المراهق بأن يكون لاعباً أو فناناً وهو عاطل بلا عمل ولا مهنة يحقق من خلالها نفع وطنه والنهوض بمجتمعه، كم هو جميلٌ أن يُقَدَّم العلماء والأطباء والمعلمون والمهندسون وعموم المتخصصين المبدعين الذين تزدان وتسمو بهم المنشآت الحضارية في البلاد؛ ليكونوا نماذج للأجيال كيما تهفو نفوس الناشئة والأجيال الصاعدة لأن تحذو حذوهم، وترتقي بأوطانهم كما ارتقوا، وحينذاك فسيأتي يومٌ نسأل الطفل وهو في أول يوم يذهب فيه لمدرسته عن أمنيته فلن يتلعثم في أن يقول: أمنيتي أن أُحصِّل كلَّ علم أنفع به وطني وأمتي، وذلكم أيها السادة واحد من مسالك التربية الصحيحة، فإنَّ وراءَ كل أمةٍ عظيمة تربيةٌ عظيمة.
وفق الله الجميع لِمَا فيه الخير وصلى الله على نبينا محمد
|