إخلاص العبادة لله في الحج إعداد- سعيد عامر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه... وبعد. فيقول الله عز وجل: وأتموا الحج والعمرة لله... {البقرة:196}. أوجب الله الحج على القادر المستطيع، فرضه في العمر مرة، وندب إليه بقدر ما يطيق العبد، حتى سُنَّت المتابعة بين الحج والحج. والحج فوق كونه شعيرة إسلامية، وركنًا ركينًا من أركان الدين، فإنه دعوة خالصة لموسم سنوي ومؤتمر عالمي، يحضر فيه المسلمون من كل فج عميق... يبتغي فيه الناس فوق المغفرة الفضل من الله بكل صنوف الفضل، فمن منافع جماعية إلى فوائد فردية، مؤتمر يجمع بين أهل الصلاة والتقى في موطن تنزل فيه الرحمة، والناس في خشوع وخضوع ورجاء ودعاء وتلبية، التوحيد منطقهم، والتعبد والذكر شغلهم، والله مولاهم ومقصدهم، ورضوانه سبحانه بغيتهم. رحلة إيمانية نورانية مباركة، دعاهم ربهم فأجابوه ولبَّوْا نداءه. أسلموا قلوبهم لله، وانقادوا لأمره، وانصاعوا لحكمه، واعتصموا بكتابه، واستنوا بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأخلصوا العمل لله وحده، مع التوحيد الخالص، المطهر من شوائب الشرك وأدران الوثنية، واستمسكوا بالعروة الوثقى. إذا وصل الحاج أو المعتمر إلى الميقات أحرم بالحج أو بالعمرة، والميقات هو المكان الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول إلى مكة، ففي الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ميقات أهل المدينة، ولأهل الشام الجحفة وتحاذيها رابغ وهي ميقات أهل الشام ومصر ومن مر بها، ورابغ تحاذي الجحفة وهي تطل على البحر. ولأهل نجد قرن المنازل ويعرف الآن بالسيل الكبير، وهو ميقات لأهل المشرق نجد والطائف وبلاد العراق وإيران ومن مر به ولأهل اليمن يلملم، ميقات أهل اليمن ويعرف الآن بالسعدية، يمر منه حجاج اليمن وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وحجاج جنوب آسيا، قال صلى الله عليه وسلم: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة". وزاد جمهور المحدثين ذات عرق وهو ميقات لأهل العراق، وهو منصوص عليه بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على الراجح، ويقع شرقي مكة، وهو مهجور الآن. وهذه المواقيت الخمسة لمن أراد الحج والعمرة لأهلها ولكل من مر عليها من غير أهلها إذا مر بها أو حاذاها، ومن أحرم بعد تجاوز الميقات، فعليه إما أن يعود إلى الميقات ليحرم منه، أو عليه فدية ذبيحة لا يأكل منها. وعلى من أحرم أن يرفع صوته بالتلبية. روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سياق حجته صلى الله عليه وسلم "... فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء... فأهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد "لبيك اللهم لبيك....". وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالتلبية، وأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بها وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التلفظ بقول "نويت...." لا في صلاة ولا في حج ولا غيره النية محلها القلب، وعليه أن يقول: لبيك اللهم حجًا أو لبيك اللهم عمرة، ثم يشرع في التلبية. وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة أخبرنا فيها عن رؤيته صلى الله عليه وسلم أو رؤياه لكثير من الأنبياء والمرسلين وهم قاصدون بيت الله الحرام حاجين معتمرين، يرفعون أصواتهم بالتلبية لله عز وجل، ومن هذه الأحاديث. ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق(1) قال: "أي واد هذا"؟ فقالوا: هذا وادي الأزرق، قال: "كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية" ثم أتى ثنية هرشى(2)، فقال: "أي ثنية هذه"؟ قالوا: ثنية هرشى. قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متَّى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة مكتنزة اللحم عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة وزمام ناقته من ليف وهو يلبي". وفي الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أراني ليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم أسمر اللون كأحسن ما أنت راء من أُدم الرجال، له لمة الشعر إذا جاوز المنكبين كأحسن ما أنت راء من اللِّمم قد رجّلها سرحها فهي تقطر ماء، متكئًا على رجلين يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقيل: هذا المسيح ابن مريم) والتلبية نداء جديد، لأن خاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم، ندب إليه، وقاد قوافل ووضع مناسكه، وإن وفود الحجيج وهي تنطلق صوب البيت العتيق ملبية هذا النداء، ومخلفة وراءها مشاغل الدنيا، وهاتفة بأصوات خاشعة "لبيك اللهم لبيك..." إن هذه الوفود تؤكد ما يجب على الناس جميعًا لله سبحانه من إخلاص له، وطاعة مطلقة، وانقياد تام، وذكر وشكر وتوحيد وتمجيد. فنداء الحجيج يصدقه كل شيء في البر والبحر والجو، فالملبي عندما يرفع النداء يتجاوب مع الملكوت الساجد طوعًا وكرهًا، أو يتجاوب معه الملكوت. روى الترمذي والبيهقي وابن ماجه "ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا، وها هنا عن يمينه وشماله". فالجبال كانت تردد مع داود عليه السلام، وتصغى إليها الطير الغاديات والرائحات. قال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب {ص:18-19}. إن هذه التلبية الآن ينفرد بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم حملة راية التوحيد، أما غيرهم فهم بين معطل ومشرك وجاحد ومنحرف، وقد كان أهل الجاهلية الأولى يشركون في تلبيتهم كما روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قدٍ قدٍ" (كفاكم هذا الكلام فاقتصروا عليه ولا تزيدوا) (والمعنى: فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكُهُ وما مَلك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت، ومن ثم كانت التلبية الإسلامية هي شعائر حج التوحيد، الذي هو روح الحج، ولذلك أمرنا الله بإتمام الحج والعمرة في إخلاص كامل له سبحانه، فتكون الحجة والعمرة لله، لا رياء فيها ولا سمعة. وقد علق العلامة ابن القيم على هذه التلبية فقال: قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة. إحداها: أن قولك: "لبيك" يتضمن إجابة داع دعاك ومنادٍ ناداك. الثانية: أنها تتضمن المحبة. ولا يقال: لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه. الثالثة: أنها تتضمن التزام دوام العبودية. الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل. الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص، ولهذا قيل: إنها من اللب، وهو الخالص. السادسة: أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى. السابعة: أنها تتضمن التقرب من الله، ولهذا قيل: إنها من الإلباب، وهو التقرب. الثامنة: أنها جعلت في الإحرام شعارًا للانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك. التاسعة: أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها ومقصودها. العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه وهو كلمة الإخلاص والشهادة ثم قال: الأخيرة: أن كلمات التلبية متضمنة للرد على كل مبطل في صفات الله من الجهمية المعطلين لصفات الكمال التي هي متعلق الحمد، فهو سبحانه محمود لذاته، ولصفاته ولأفعاله(3). ..... فيجب إخلاص النية لله في الحج أو العمرة.
(1) وادي الأزرق بالحجاز. ماء في طريق حجاج الشام. (2) الثنية: ما ارتفع من الأرض. وهرشى بسكون الراء والقصر آخرها، وهي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة، يُرى منها البحر. (3) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، بيروت دار الكتب العلمية (5-180978).
|