يا قوم لا تتكلمـوا إن الكلام محـرم
ودعوا التفهم جانبا فالخير ألا تفهموا
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النّـوم
إن قيـل هذا نهاركم ليل فقالوا مظلم
وإن قيل عسلكم مر فقالوا علقم
وإن قيـل ما تستحقون فقالوا نعـدم
هذا لمـن أراد أن يلقـي عيشه مكرم
ولكنهم وللآسف الشديد، ما نالوا عيشاً مكرماً، بل ظلم وإهانة واستبداد علي البلاد والعباد. ورغم كل ما كان يلاقيه المصريون من نظامهم القمعي المستبد الذي أهدر كل حقوقهم وكرامتهم، فإن المصريين قد عانوا من قهر وظلم من نوع آخر، عانوا من ظلم إخوانهم في العروبة والدين، فأصبح المصري في الخارج يعاني من تميز واضح وإهانة مقصودة وازدراء متعمد، أصبح المصريون في العقل الجمعي عند العرب والمسلمين، مرادفاً للفساد والانحلال والفوضى والتسيب والإهمال، فقد المصريون تعاطفهم من إخوانهم العرب والمسلمين، وحملوهم أوزار نظامهم الفاسد الموالي لأعداء الأمة العربية والإسلامية، وكأن الشعب المصري هو المسؤول الوحيد عن خطايا نظامه، فالذي حاصر قطاع غزة وخنقها هم المصريون، والذي فتح قناة السويس للأساطيل الغازية للعراق هم المصريون، والذي باع الغاز لإسرائيل وتعاون معها في محاربة حماس هم المصريون، وبالجملة لم يفرق العرب والمسلمون بين النظام وبين الشعب المظلوم المقهور تحت جهاز أمني مهول تعداد من يعمل قرابة المليونين من جلاووزة النظام البائد، ورويت مئات بل آلاف القصص عن مآسي المصريين بالخارج، وكيف أن صورتهم شديدة القتامة في أعين العالم بأسره، حتى استخفي كثير من المصريين بأصولهم في الخارج، وأسروا بمصريتهم خشية الإهانة والاحتقار.
واليوم أعاد المصريون كتابة التاريخ بسواعد الشباب الأطهار الذين قادوا الثورة المباركة وأحدثوا في أقل من ثلاثة أسابيع، ما لم تستطع أن تحققه الجماعات الإسلامية والأحزاب السياسية والعمليات الجهادية في عشرات السنين، اليوم المصريون يغيرون وجه العالم بأسره، ويغيرون النظام العالمي القديم، المصريون اليوم يجبرون أمريكا وإسرائيل وغيرهما من قوى الشر التي دعمت وجود الديكتاتوريات القديمة مثل بن علي ومبارك وغيرهما، علي أن يغيروا قواعد اللعبة الدولية، ويتخلوا عن دعم هؤلاء الشر في منطقتنا العربية والإسلامية.
أمريكا وحلفاؤها اليوم مجبرين ومضطرين للموافقة ولأول مرة على رغبات شعب عربي ومسلم أراد الحياة بكرامة وعزة وشرف، وعلي الرغم من المحاولات القوية التي بذلها كل أعداء الأمة لوأد مثل هذه الثورة المباركة، إلا أنهم في النهاية لم يجدوا بداً من التعامل معها والاعتراف بنجاحها، والذي يسمع لخطاب أوباما الذي ألقاه عقب فرار مبارك، يشعر كأنه يستمع إلي خطيب من خطباء ميدان التحرير البلغاء الفصحاء، في مشهد لم نعهده علي رئيس أمريكا، مع العلم بأن مسار هذه الثورة لو استمر علي نفس المنوال فسوف يضر كثيراً بمصالح أمريكا بالمنطقة، الثورة المصرية المباركة، أعادت رسم المنطقة والعالم العربي والإسلامي بأسره، وتغيرت كثير من قواعد التعامل الدولي، ونهض العرب والمسلمون من كبوتهم، وأصبحت أمريكا وغيرها من دول العلم مجبرة علي التعامل مع نظم جديدة وأفكار جديدة، يكون فيها الجميع على قدم المساواة، فلا إملاءات خارجية ولا ضغوط أجنبية، بل احترام متبادل وتقدير فعلي ومصالح مشتركة.
المصريون استطاعوا أن يصنعوا أروع ثورة شعبية في التاريخ الحديث، فالشعب المصري وحده هو الذي قد حسم المعركة وأجبر الطاغية علي الرحيل، الشعب وحده بصموده وبقائه في مظاهرات سليمة بكل بسالة وشجاعة، يستقبل بصدره العاري زخات الرصاص المطاطي والحي، لا يبالي بمن سقط من الشهداء والأبطال من خيرة وزهرة الشباب، الشعب المصري صنع تاريخاً مجيداً في تاريخ الكفاح السلمي فاق به كل الثورات السابقة التي كان للجيش أو العنصر الخارجي كلمة الفصل في تحديد مصيرها، بما فيها ثورة تونس المباركة، فالشعب المصري وحده كان اللاعب الوحيد والفاعل علي الساحة، طاشت مؤامرات سليمان المخابراتية، وفشلت خطط صفوت الشريف الشيطانية، وحتى عناد وصلابة مبارك الشهيرة لم تصمد أمام العزيمة الأسطورية للشعب المصري الذي أصر على الحياة فكان له ما أراد.
المصريون قالوا كلمتهم الأخيرة وغيروا شعار حياتهم، وغيروا معه وجه التاريخ والعالم بأسره، وبدلوا أشعارهم السابقة وأصبح شاعرهم يقول اليوم:
لا تسقني ماء الحياة بذلة *** بل اسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم *** وجهنم بالعز أشرف منزل