رابعاً : الخضوع للمراجعة والمحاسبة : عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ ، كَانَ غُلُولاً يَأْتي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَ : فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ ، مِنَ الأَنْصَارِ ، كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ ، قَالَ : وَمَا لَكَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ : مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ ، فَلْيَجِئْ بقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى. أخرجه \"أحمد\"4/192(17869) و\"مسلم\"6/12(4771) .
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ ، يُدْعَى ابْنَ الأُتْبِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ ، قَالَ : هَذَا مَالُكُمْ ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا ؟ ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ ، فَيَأْتِى فَيَقُولُ : هَذَا مَالُكُمْ ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي ، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا ، وَاللهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ ، إِلاَّ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعِرُ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.بَصُرَ عَيْنِي وَسَمِعَ أُذُنِي. أخرجه \"أحمد\" 5/423 (23996) و\"البُخاري\" 2/14(925) و\"مسلم\" 6/11(4766).
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال : \"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، و رجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله \" . أخرجه الحاكم ( 3 / 195 ) الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 1 / 648.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : عُرِضَ عَلَىَّ أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَأَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَأَمَّا أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَالشَّهِيدُ وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لاَ يُعْطِى حَقَّ مَالِهِ وَفَقِيرٌ فَخُور. أخرجه أحمد 2/425(9488) و\"الترمذي\" 1642 و\"ابن خزيمة\" 2249.
وها هو الخليفة أبو بكر الصديق، يقومُ بزيارَاتٍ تَفقدية للمُدن الإسلامية، فذهب إلى مكة بعد مُبايَعَتِه في المدينة، وبعد أنْ طاف بالبيت، جلس قريبًا من دارِ النَّدوة، فقال: هل من أحد يَشتكي من ظلامة أو يطلب حقًّا؟ فما أتاه أحد، وبهذا اطمأن على الرَّعِيَّة، وأنَّهم بخير وراضون عن واليهم، ومن مَواقفه – رضي الله عنه – مُحاسبته لمعاذ بن جبل الصحابي الجليل، عندما قدم من اليمن بعد وَفاة الرسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – حيث قال: \"ارفع حسابك\"، فقال معاذ: \"حسابان: حساب من الله، وحساب منك\".
أمَّا الخليفة عمر بن الخطاب، فيتجلى أسلوبه الرقابي الرئاسي في الأعمال التالية:
1- الرقابة الذاتية على نفسه ومحاسبتها : وعن داود بن علي قال: قال عمر رضي الله عنه \"لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة، لظننت أن اللّه عز وجل سائلي عنها يوم القيامة.
وعن عبد اللّه بن عمر قال: كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقول: لو مات جدي بطف5 الفرات لخشيت أن يحاسب اللّه به عمر.
وعن علي رضي الله عنه قال: \"رأيت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: \"يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: \"بعير نَدَّ من إبل الصدقة أطلبه\" فقلت: \"لقد أذللت الخلفاء بعدك، فقال: \"يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً8 أخذت بشاطيء الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة. ابن الجوزي: مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ص 161.
ووقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الجمعة بالناس، وكان قبل الجمعة يوم الخميس حين وزع عليهم ثوباً ثوباً، عندما أتته ثياب من اليمن اشتراها، فلما وصلت الثياب أعطى المسلمين, كل مسلمٍ ثوباً، وأخذ هو ثوباً واحداً، لكن عمر كان طويلاً, عملاقاً، كبير البنية، ما كفاه ثوبٌ واحد! فقال لابنه عبد الله : أعطني ثوبك مع ثوبي؛ لأني رجل طويل، ثوبك الذي هو حصتك مع المسلمين ألبسني إياه. فقال عبد الله : خذ ثوبي, فلبس ثوبين -تغير الشكل، كيف يلبس ثوبين والمسلمون لبسوا من ثوب واحد- فبدأ الخطبة، وقال: أيها الناس! اسمعوا وعوا، فقام سلمان من وسط المسجد، وقال: والله لا نسمع ولا نطيع، فتوقف واضطرب المسجد، وقال: ما لك يا سلمان ؟قال: تلبس ثوبين وتلبسنا ثوباً ثوباً ونسمع ونطيع.قال عمر : يا عبد الله ! قم أجب سلمان ، فقام عبد الله يبرر لسلمان ، وقال: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي، فبكى سلمان ، وقال: الآن قل نسمع, وأمر نطع، فاندفع عمر يتكلم. أعلام الموقعين لابن القيم 2 / 180 .
قال حافظ إبراهيم :
فَمَنْ يُبَارِي أبَا حَفْصٍ وَسِيَرتِه * * * أوْ مَنْ ْيُحَاوِلُ للفَارُوقِ تَشْبِيهاً
يَوْمَ اشْتَهتْ زَوْجه الحَلْوَى فَقَالَ لَهَا : * * * مِنْ أَيّنَ لِي ثَمِنِ الحَلْوىَ فَأَشْرِيها
مَا زَادَ عَنْ قُوتِنَا فالمُسْلمون بِه أوْلَى * * * فَقُومِي لبيّتِ المَالِ رُدْيها
كَذَاكَ أخْلاقُه كانَتْ ومَا عَهِدَت * * * بَعْد َالنّبُوةِ أخْلاقٌ تُحَاكِيها
2- مُحاسبة الوُلاة والعُمَّال عند انتهاء عملهم أو خدماتِهم، ومن الصَّحابة الذين حاسبهم – رضي الله عنه – أبو هريرة عامله على البحرين، وأبو موسى الأشعري عامله على البصرة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة… وغيرهم.
بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سعد بن أبي وقاص بنى له قصرا في الكوفة بحيال محراب مسجد الكوفة فشيده وجعل فيه بيت المال وسكن ناحيته ثم إن بيت المال نقب عليه نقبا وأخذ من المال وكتب سعد بذلك إلى عمر ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن مما يلي ودعة الدار فكتب إليه عمر أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جنب الدار واجعل الدار قبلته فإن للمسجد أهلا بالنهار وبالليل وفيهم حصن لما لهم فنقل المسجد وأراغ بنيانه فقال له دهقان من أهل همذان يقال له روزبه بن بزرجمهر أنا أبنيه لك وأبني لك قصرا فأصلهما ويكون بنيانا واحدا فخط قصر الكوفة على ما خط عليه ثم أنشأه من نقض آجر قصر كان للأكاسرة في ضواحي الحيرة على مساحته اليوم ولم يسمح به ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال منه إلى منتهى القصر يمنة على القبلة ثم مد به عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة علي بن أبي طالب عليه السلام والرحبة قبلته ثم مد به فكانت قبلة المسجد إلى الرحبة وميمنة القصر وكان بنيانه على أساطين من رخام كانت لكسرى بكنائس بغير مجنبات فلم يزل على ذلك حتى بني أزمان معاوية بن أبي سفيان بنيانه اليوم على يدي زياد ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنائين من بنائي الجاهلية فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهي من طوله في السماء وقال اشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته فقال له بناء قد كان بناء لكسرى لا يجئ هذا إلا بأساطين من جبال أهواز تنقر ثم تثقب ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء ثم تسقفه وتجعل له مجنبات ومواخير فيكون أثبت له فقال هذه الصفة التي كانت نفسي تنازعني إليها ولم تعبرها وغلق باب القصر وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث فلما بنى ادعى الناس عليه ما لم يقل وقالوا قال سعد سكن عني الصويت وبلغ عمر ذلك وأن الناس يسمونه قصر سعد . فدعا محمد بن مسلمة فسرحه إلى الكوفة وقال اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه ثم ارجع عودك على بدئك فخرج حتى قدم الكوفة فاشترى حطبا ثم أتى به القصر فأحرق الباب وأتى سعد فأخبر الخبر فقال هذا رسول أرسل لهذا من الشام وبعث لينظر من هو فإذا هو محمد بن مسلمة فأرسل إليه رسولا بأن ادخل فأبى فخرج إليه سعد فأراده على الدخول والنزول فأبى وعرض عليه نفقة فلم يأخذ ودفع كتاب عمر إلى سعد بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا ويسمى قصر سعد وجعلت بينك وبين الناس بابا فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت فحلف له سعد ما قال الذي قالوا ورجع محمد بن مسلمة من فوره حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده فتبلغ بلحاء من لحاء الشجر فقدم على عمر وقد سبق فأخبره خبره كله فقال فهلا قبلت من سعد فقال لو أردت ذلك كتبت لي به أو أذنت لي فيه فقال عمر إن أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم أو قال به ولم ينكل وأخبره بيمين سعد وقوله فصدق سعدا وقال هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني تاريخ الطبري 3/151.
3- إتباع أسلوب التفتيش وتقصي الحقائق في بعض القضايا، منها شكوى أهل حمص واليهم سعيد بن عامر؛ فحينما استعمل عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر، فلما قدم عمر بن الخطاب حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه وكان يقال لأهل حمص: الكويفة الصغرى لشكايتهم العمال قالوا: نشكو أربعاً: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها! قال: وماذا؟ قال: لا يجيب أحداً بليل. قال: وعظيمة! قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا. قال: وعظيمة! وماذا؟ قالوا: يغبط الغبطة بين الأيام. يعني: تأخذه موته.قال: فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم، لا تفيل رأي فيه اليوم، ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار. قال: والله إن كنت لأكره ذكره، ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم. فقال: ما تشكو منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بالليل. قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم، وجعلت الليل لله عز وجل. قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه. قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى يجف، ثم أدلكها، ثم أخرج إليهم من آخر النهار. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغبط الغبطة بين الأيام. قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذعة فقالوا: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وأن محمداً يشيك بشوكة، ثم نادى: يا محمد. فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أومن بالله العظيم، إلا ظننت أن الله تعالى لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً. قال: فتصيبني تلك الغنطة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيل فراستي، فبعث إليه بألف دينار، فقال: استعن بها على أمرك، فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك. فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها. قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل يثق به، فصرها صرراً، ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى آل فلان، فبقيت منها ذهبية فقال: أنفقي هذه. ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادماً، ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين إليه.مختصر تاريخ دمشق 3/310.
وهذه القصة يرويها أنس بن مالك رضي الله عنه؛ إذ قال: \"إن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عُذْتَ مَعَاذًا. قال: سابقتُ ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عَمرو يأمره بالقدوم ويُقْدِم بابنه معه، فَقَدِمَ، فقال عمر رضي الله عنه: أين المصري؟ خذ السطو فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر رضي الله عنه: اضرب ابن الأكرمين. قال أَنس رضي الله عنه: فضُرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحبُّ ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنَّيْنَا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصريِّ: ضع السوط على صلعة عَمرو. فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر لعَمرو: مذ كم تَعَبَّدْتُم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني . المتقي الهندي: كنز العمال 12/660، وابن الجوزي: مناقب عمر ص99.
4- الزيارات التفقدية للشام؛ للتعرُّف على أحوال ولاتها، وتنظيم أموالها بعد طاعون عمواس، الذي فتك بالمسلمين، ويقال: إنَّه استقبل بطريقة فيها شيء من الأبهة، فغضب منهم ورماهم بالحجارة، إلاَّ أنَّ مُعاوية برَّر ذلك بتبريرٍ قَبِله الخليفة، وعندما وجد عمر أنَّ هذه الزيارة مفيدة مثمرة، عقد العزم على القيام بزيارةِ جميع الولايات الإسلامية.
5- مُقابلة الولاة والعمال في مَوسمِ الحج؛ حيث أمر عمرُ ولاتَه وعماله أن يلتقوا به في مؤتمر سنوي في مَوسم الحج؛ للمُحاسبة وتدارُس الأمور.
وقد اتَّبع الخليفةُ عثمان بن عفان أسلوبَ عمر بن الخطاب، من حيث إرسال مَن يتقصَّى الحقائقَ، والاهتمام بالزيارات الميدانية للتفتيش، والاستفادة من مَوسم الحجِّ الذي يُعَدُّ بِمَثابة مؤتمر سنوي، كما كان الخليفة علي بن أبي طالب يقوم بما يشبه ذلك، وقد مَرَّ بنا خطابه المشهور للأشتر النخعي حين ولاَّه على مصر.
وقد كان الخليفة العباسي المأمون يُخَصِّصُ يوم الأحد من كل أسبوع للنظر في المظالم، وفي يوم من أيام جلوسه جاءته امرأة في ثياب رثّة \"فقالت:
يَا خَيْرَ مُنْتَصِفٍ يُهْـدَى لَهُ الرَّشَـدُ *** وَيَا إمَامًا بِهِ قَدْ أَشْرَقَ الْبَلَـدُ
تَشْكُو إلَيْكَ عَمِيـدَ الْـمُلْكِ أَرَمَلَةٌ *** عَدَا عَلَيْهَا فَمَا تَقْوَى بِهِ أَسَدُ
فَابْتَزَّ مِنْهَـا ضِيَاعًا بَعْـدَ مَنْعَتِهَـا *** لَـمَّا تَفَرَّقَ عَنْهَا الأَهْلُ وَالْوَلَدُ
فأطرق المأمون يسيرًا ثمَّ رفع رأسه وقال:
مِنْ دُونِ مَـا قُلْتِ عِيلَ الصَّبْرُ وَالْـجَلَدُ *** وَأَقْرَحَ الْقَلْبَ هَذَا الْـحُزْنُ وَالْكَمَـدُ
هَـذَا أَوَانُ صَـلاَةِ الظُّهْرِ فَانْصَرِفِـي *** وَأَحْضِرِي الْـخَصْمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَعِدُ
الْـمَجْلِسُ السَّبْتُ إنْ يُقْضَ الْجُلُوسُ لَنَا *** أُنْصِفْكِ مِنْهُ وَإِلاَّ الْـمَجْلِسُ الأَحَـدُ
فانصرفت وحضرت يوم الأحد في أوَّل النَّاس، فقال لها المأمون: من خصمك؟ فقالت: القائم على رأسك العبَّاس بن أمير المؤمنين (ابنه)، فقال المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم: أجلسها معه وانظر بينهما. فأجلسها معه، ونظر بينهما بحضرة المأمون، وجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجَّابه، فقال له المأمون: دعها فإنَّ الحقَّ أنطقها والباطل أخرسه. وأمر بردِّ ضياعها عليها. ففعل المأمون في النَّظر بينهما حيث كان بمشهده، ولم يباشره بنفسه لما اقتضته السِّياسة؛ من وجهين: أحدهما: أنَّ حكمه ربَّما توجَّه لولده، وربَّما كان عليه، وهو لا يجوز أن يحكم لولده، وإن جاز أن يحكم عليه. والثَّاني: أنَّ الخصم امرأةٌ يجلُّ المأمون عن محاورتها... وباشر المأمون تنفيذ الحكم وإلزام الحقِّ. الماوردي: الأحكام السلطانية ص146، 147.
وهكذا سار المسلمون الأوائل على هذا النهج القويم حتى أسسوا دولة إسلامية ساد عدلها على الجميع , وشيدت حضارة كانت مضرب الأمثال للشرق والغرب .