بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد
ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد ان محمداً
عبده ورسوله النبي الأمين ، عليه من ربه أزكى صلاة ، وأعطر تسليم ، وعلى آله
وأصحابه الطيبين الطاهرين ، مصابيح الدجى ، ونجوم الهدى ، ومن ابتعهم واقنفى أثرهم
، إلى يوم الدين . . أما بعد :
فهذه جملة من أحكام العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ،
أقدمها حديقة يانعة ، ليقتطف منها الخطيب والإمام وحتى المأموم ، لتعم الفائدة
أرجاء المسلمين ، لا سيما وهي أحكام تهم المسلم في مثل تلك الأيام المباركات من
شهر الرحمات والبركات ، وحان اون الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق :
أولاً
/ ليلة القدر :
لقد اختص الله تبارك وتعالى هذه الأمة المحمدية على غيرها من
الأمم بخصائص وفضلها على غيرها من الأمم
بأن أرسل إليها أفضل الرسل والأنبياء وخاتمهم وأخرهم ، وجعلها خير الأمم قال تعالى
: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران ].
وقد أنزل لهذه الأمة الكتاب المبين ، والصراط المستقيم ، كتاب
الله العظيم ، كلام رب العالمين ، قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون } [ الحجر ] ، وقال تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد } [ فصلت ].
فقد أنزل الله عز وجل القرآن الكريم في ليلة مباركة هي خير
الليالي ، ليلة اختصها الله عز وجل من بين الليالي ، ليلة العبادة فيها هي خير من
عبادة ألف شهر وهي ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريباً ، ألا وهي ليلة القدر ،
قال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر
خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى
مطلع الفجر } [ القدر ] ، وقال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا
منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان ] ، وسميت بليلة القدر لعظم قدرها
وفضلها عند الله تبارك وتعالى ، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الآجال
والأرزاق وغير ذلك ، كما قال تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان ] .
سبب تسميتها ليلة القدر:
أولاً :
أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة ، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام ، وهذا من
حكمة الله عزوجل وبيان إتقان صنعه وخلقه . . .
ثانياً : سميت
ليلة القدر من القدر وهو الشرف كما تقول فلان ذو قدر عظيم ، أي ذو شرف لقوله تعالى
: { وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر } وليلة خير من ألف شهر
قدرها عظيم ولاشك .
ثالثاً : وقيل
لأن للعبادة فيها قدر عظيم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " [ متفق عليه ] . وهذا لايحصل إلا
لهذه الليلة فقط ، فلو أن الإنسان قام ليلة النصف من شعبان ، أو ليلة النصف من رجب
، أو ليلة النصف من أي شهر ، أو في أي ليلة لم يحصل له هذا الأجر . [ الشرح الممتع
6/494 ] .
يقول الشيخ ابن
عثيمين : أن الإنسان ينال أجرها وإن لم يعلم بها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً " ولم يقل عالماً بها ،
ولو كان العلم شرطاً في حصول هذا الثواب لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم .
علامات ليلة القدر :
1ـ قوة الإضاءة
والنور في تلك الليلة ، وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحس بها إلا من كان البر
بعيداً عن الأنوار .
2ـ زيادة النور في
تلك الليلة .
3ـ الطمأنينة ، أي
طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر من المؤمن ، فإنه يجد راحة وطمأنينة وانشراح صدر في
تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية الليالي .
4ـ أن الرياح تكون
فيها ساكنة أي : لاتأتي فيها عواصف أو قواصف ، بل يكون الجو مناسباً .
5ـ أنه قد يُري الله
الإنسان الليلة في المنام ، كما حصل ذلك لبعض الصحابة .
6ـ أن الإنسان يجد
في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي .
7- أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع ، صافية ليست
كعادتها في بقية الأيام ، ويدل لذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال : "
أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنها تطلع يومئذ لاشعاع لها " [
أخرجه مسلم ] .
تحري
ليلة القدر :
ليلة القدر ليلة مباركة ، وهي في ليالي شهر رمضان ، ويمكن
التماسها في العشر الأواخر منه ، وفي الأوتار خاصة ، وأرجى ليلة يمكن أن تكون فيها
هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان ، فكان أبي بن كعب يقول : " والله إني
لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ،
وهي ليلة سبع وعشرين " [ أخرجه مسلم ] . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان متحرياً فليتحرها ليلة سبع
وعشرين ، يعني ليلة القدر " [ أخرجه أحمد بسند صحيح ] .
والصحيح أن ليلة القدر لا أحد يعرف لها يوماً محدداً ، فعن
عبدالله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت ليلة القدر
ثم أنسيتها ، وإذا بي أسجد صبيحتها في ماء وطين " قال : فمطرنا في ليلة ثلاث
وعشرين ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف ، وإن أثر الماء والطين
على جبهته وأنفه " [ أخرجه مسلم وأحمد ] ، وعن أبي بكرة : أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : " التمسوها في تسع بقين ، أو سبع بقين ، أو خمس
بقين ، أو ثلاث بقين ، أو آخر ليلة " وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان
صلاته في سائر السنة ، فإذا دخل العشر اجتهد " [ أخرجه أحمد والترمذي وصححه ]
.
وعن بن عمر رضي الله عنهما : أن رجالاً من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم قد تواطأت ـ توافقت ـ في السبع الأواخر ، فمن
كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " [ متفق عليه ] .
وعن أبي سلمة قال : سألت أبا سعيد وكان لي صديقاً ، فقال :
اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان ، فخرج صبيحة عشرين
فخطبنا وقال : " إني أريت ليلة القدر ، ثم أُنْسِيُتها أو نُسيتها ،
فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر ، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين ، فمن كان
اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع " فرجعنا وما نرى في السماء
قزعة ـ قطعة ـ فجاءت سحابة فمطرت حتى سأل سقف المسجد ، وكان من جريد النخل ،
وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين ، حتى
رأيت أثر الطين في جبهته " [ متفق عليه ] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " [ متفق عليه
] .
وعن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يجاور ـ يعتكف ـ في رمضان ، العشر التي في وسط الشهر ،
فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ، ورجع
من كان يجاور معه ، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها ، فخطب
الناس فأمرهم ما شاء الله ، ثم قال : " كنت أجاور هذه العشر ثم قد بدا لي أن
أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه ، وقد أُريت هذه
الليلة ثم أُنسيتها فابتغوها في العشر الأواخر وابتغوها في كل وتر ، وقد رأيتني
أسجد في ماء وطين " ، فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت فوكف المسجد ـ خر
من سقفه ـ في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين فبصرت عيني رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طيناً وماءً
" [ متفق عليه ] .
وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ـ
يعتكف ـ في العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : " تحروا ليلة القدر في العشر
الأواخر من رمضان " [ متفق عليه ] .
وعن بن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " التمسوها في العشر
الأواخر من رمضان ليلة القدر ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى
" [ أخرجه البخاري ] ، قال أبو سلمة : قلت يا أبا سعيد : إنكم أعلم بالعدد
منا ، قال أجل نحن أحق بذلك منكم ، قال قلت : ما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال
: إذا مضت واحدة وعشرين فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة ، فإذا مضت ثلاث
وعشرون فالتي تليها السابعة ، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة .
وقال بن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " هي في العشر ، هي في تسع يمضين ، أو في سبع يبقين " يعني ليلة
القدر ، قال عبد الوهاب عن أيوب وعن خالد عن عكرمة عن ابن عباس : " التمسوا
في أربع وعشرين " [ أخرجه البخاري ] .
وعن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى ـ تخاصم ـ رجلان
من المسلمين فقال : " خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان ، فرفعت
وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة " [ أخرجه
البخاري ] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " رأى رجل أن
ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم
في العشر الأواخر ، فاطلبوها في الوتر منها " [ أخرجه مسلم ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : " أريت ليلة القدر ، ثم أيقظني بعض أهلي ، فنُسيتها فالتمسوها في
العشر الغوابر ـ البواقي ـ " [ أخرجه مسلم ] .
وعن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، اعتكف العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط في
قبة تركية على سدتها حصير ، قال فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ، ثم أطلع
رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال : " إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة
، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أُتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر ، فمن أحب
منكم أن يعتكف فليعتكف ، فاعتكف الناس معه ، قال : " وإني أريتها ليلة وتر ،
وأني أسجد صبيحتها في طين وماء ، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلي الصبح
فمطرت السماء فوكف المسجد ـ قَطَرَ الماء من سقفه ـ فأبصرت الطين ظاهراً ، فخرج
حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وأنفه كلاهما فيهما الطين ظاهرا وإذا هي ليلة إحدى
وعشرين من العشر الأواخر " [ متفق عليه ] .
وعن عبد الله بن أنيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أريت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ،
وأراني صبحها أسجد في ماء وطين " قال : فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ، وإن أثر
الماء والطين على جبهته وأنفه . قال : وكان عبد الله بن أنيس يقول : ثلاث وعشرين .
[ أخرجه مسلم ] .
مما سبق ذكره من الأحاديث يتضح لنا أن ليلة القدر لا يعلم
بوقتها أحد ، فهي ليلة متنقلة ، فقد تكون في سنة ليلة خمس وعشرين ، وقد تكون في
سنة ليلة إحدى وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة تسع وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة
سبع وعشرين ، فهي ليلة متنقلة ، ولقد أخفى الله تعالى علمها ، حتى يجتهد الناس في
طلبها ، فيكثرون من الصلاة والقيام والدعاء في ليالي العشر من رمضان رجاء إدراكها
، وهي مثل الساعة المستجابة يوم الجمعة ، فقد أخفاها الله تعالى عن عباده لمثل ما
أخفى عنه ليلة القدر .
يقول البغوي رحمه الله تعالى : وفي الجملة أبهم الله هذه
الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان طمعاً في إدراكها .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ، ويأمر
أصحابه بتحريها ، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر الأواخر من رمضان رجاء أن يدركوا
ليلة القدر، وكان يشد المئزر وذلك كناية عن جده واجتهاده عليه الصلاة والسلام في
العبادة في تلك الليالي ، واعتزاله النساء فيها ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت :
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، أحيا ليله ، وأيقظ أهله ، وشد
المئزر " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وفي رواية : " كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره " .
فعلى المسلم أن يتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم ، فيجتهد في
العبادة ، ويكثر من الطاعة في كل وقت وحين ، وخصوصاً في مثل هذه العشر الأخيرة من
رمضان ، ففيها أعظم ليلة ، فيها ليلة عظيمة القدر ، ورفيعة الشرف ، إنها ليلة
القدر ، فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،
يقوم ويعتكف في هذه الليالي المباركات رجاء أن يدرك ليلة القدر ، رجاء مغفرة الله
تعالى له ، فحري بكل مسلم صادق ، يرجو ما عند الله تعالى من الأجر والثواب ، ويطمع
فيما عند الله تعالى من الجزاء الحسن ، ومن يرغب في جنة الخلد وملك لا يبلى ، وحري
بكل مؤمن صادق يخاف عذاب ربه ، ويخشى عقابه ، ويهرب من نار تلظى ، حري به أن يقوم
هذه الليالي ، ويعتكف فيها بقدر استطاعته ، تأسياً بالنبي الكريم ، نبي الرحمة
والهدى صلى الله عليه وسلم ، فما هي إلا ليالي عشر ، ثم ينقضي شهر الخير والبركة ،
شهر الرحمة والمغفرة ، والعتق من النار ، ما هي إلا ليالي معدودات ، ويرتحل الضيف
العزيز ، الذي كنا بالأمس القريب ننتظره بكل فرح وشوق ، وبكل لهفة وحب ، وها نحن
في هذه اليالي المباركات ليالي النفحات الربانية الكريمة ، نتأهب جميعاً لتوديعه ،
والقلوب حزينة على فرقاه ، والنفوس يملؤها الحزن والأسى على مغادرته وارتحاله
، ولا ندري أيكون شاهداً لنا أم شاهداً
علينا ، فقد أودعناه كل عمل لنا ، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح الأعمال
والأقوال ، وأن يتجاوز عن سيئها وسقيمها ، إنه رباً براً رحيماً غفوراً .
فليحرص الجميع على أداء صلاتي التراويح والتهجد جماعة في بيوت
الله تعالى طمعاً في رحمته ، وخوفاً من عذابه ، كما يحرص الواحد منا على جمع ماله
، فكم هم الناس اليوم الذين نجدهم حول آلات الصرف الآلي ، وكم هم الناس اليوم
الذين نجدهم على الأرصفة ، وحول شاشات التلفاز ، والفضائيات ، متحلقين وقد غشيتهم
السكينة ، وهدأت منهم الحركات ، فهم جمود لا يتكلمون ، وأسرى شاشات لا يُطلقون ،
وكلهم مسيئون ومذنبون ، والعياذ بالله ، فهل من عودة صادقة لدين الله تعالى ، وهل
من مراجعة للنفس ، قبل أن يداهمها ملك الموت ، فتقضي نحبها ولا تدري ما الله فاعل
بها ، لا بد ان نعرض أنفسنا على كتاب ربنا ، وسنة نبينا فهما ميزانا العدل والحق ،
فحاسبوا أنفسكم في هذه الدنيا ما دام انكم في دار المهلة ، فاليوم عمل ولا حساب ،
وغداً حساب ولا عمل ، حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا ، فهي عشر ليالي نتطلع فيها
جميعاً لرحمة أرحم الراحمين ، لعلنا أن نكون فيها من الصائيمين المحتسبين ، ومن
القائيمين الوجلين ، وليلة القدر لا تخرج بحال عن ليلة من إحدى تلك الليالي فعلينا
أن نجتهد ونخلص العمل لله تعالى رجاء الحصول على ليلة القدر ، فمن وفق فيها للقيام
والعمل الصالح ، ومن ثم نالها فقد وقع أجره على الله تعالى ، بمغفرة ما تقدم من ذنوبه
، وكل ابن خطاء ، وكل الناس صاحب خطأ وزلل ، وذنب وخطيئة ، فعلينا أن نصبر ونصابر
ونرابط في هذه الليالي المباركات ، لعلنا أن ندرك ليلة القدر ، فيغفر الله لنا ما
تقد من ذنوبنا ، فنفوز برضى الرب تبارك وتعالى .
وهذه العشر هي ختام شهر رمضان ، والأعمال بالخواتيم ، ولعل
أحدنا أن يدرك ليلة القدر وهو قائم يصلي بين يدي ربه سبحانه وتعالى ، فيغفر الله
له ما تقدم من ذنبه .
وعلى المسلم أن يحث أهله وينشطهم ويرغبهم في قيام هذه الليالي
للاستزاده من العبادة ، وكثرة الطاعة وفعل الخير ، لا سيما ونحن في موسم عظيم ، لا
يفرط فيه إلا محروم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، يقول لأصحابه : " قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، كتب الله
عليكم صيامه ، فيه تفتَّح أبواب الجنة ، وتغلق أبواب الجحيم ، وتغل الشياطين ، فيه
ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " [ أخرجه أحمد والنسائي ] ، وعن
عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً : " أتاكم رمضان ، شهر بركة ، يغشاكم
الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب فيه الدعاء ، ينظر إلى تنافسكم
فيه ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا من أنفسكم خيرا ، فإن الشقي من حرم فيه رحمة
الله " [ أخرجه الطبراني ورواته ثقات ] .
فتنافسوا عباد الله في طاعة ربكم ، وأروا ربكم منكم خيراً ،
وارباؤوا بأنفسكم عن مواطن الريب والشك ، واحذروا من الوقوع في الذنوب والمعاصي
فكل مؤاخذ بما فعل ، وبما قال ، قال تعالى : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب
عتيد " [ ق 18 ] ، وقال تعالى : " ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم
شهوداً إذ تفيضون فيه " [ يونس 61 ] .
وورد عن بعض السلف الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة
القدر التي شرفها الله ورفع قدرها .
ولهذا ينبغي أن يتحراها المؤمن في كل ليالي العشر عملاً بقوله
صلى الله عليه وسلم : " التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان "
[ متفق عليه ] ، وقد أخفى الله عز وجل علمها ، حتى يجتهد الناس في العبادة في تلك
الليالي ، ويجدوا في طلبها بغية الحصول عليها ، فيظنون أنها في كل ليلة ، فترى
الكثير من الناس في تلك الليالي المباركة ما بين ساجد وقائم وداع وباك ، فاللهم
وفقنا لقيام ليلة القدر ، واجعلها لنا خيراً من ألف شهر ، فالناس بقيامهم تلك
الليالي يثابون بإذن الله تعالى على قيامهم كل ليلة ، كيف لا وهم يرجون ليلة القدر
أن تكون في كل ليلة ، ولهذا كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الإعتكاف في
ليالي العشر من رمضان .
وليلة القدر لاتختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل هي تنتقل
، أي قد تكون في عام ليلة خمس وعشرين ، وفي عام آخر ليلة ثلاث وعشرين وهكذا فهي
غير ثابتة بليلة معينة في كل عام . كما سبق ذكره من الأدلة .
|