الغزو الفكري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنحن في زمن كثرت فيه الفتن وتنوعت، ولما كان الغزو الفكري له الأثر الكبير في انحراف الأمة عن مسارها. قيض الله تعالى لها علماء ربانيون يهدونها سبيل الرشاد ويحذرونها من المزالق، وهذا إمام العصر الشيخ عبد العزيز بن باز يجيب على بعض الأسئلة عن هذا الموضوع الخطير والهام.
سـ1: ما هو تعريف الغزو الفكري في رأيكم؟ جـ: الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السريّة، وسلوك المآرب الخفية في باديء الأمر، فلا تحس بها الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له. وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه وتكره ما يريد منها أن تكرهه. وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويُذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها، والأمة التي تُبتلى به لا تحس بما أصابها ولا تدري عنه ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً. وهذا الغزو يقع بواسطة المناهج الدراسية والثقافة العامة ووسائل الإعلام والمؤلفات الصغيرة والكبيرة وغير ذلك من الشؤون التي تتصل بالأمم، ويرجو العد من ورائها صرفها عن عقيدتها والتعلق بما يلقيه إليها، نسأل الله السلامة والعافية.
سـ2: هل يتعرض العرب عامة والمملكة العربية السعودية خاصة لهذا النوع من الغزو؟ جـ2: نعم، يتعرض المسلمون عامة ومنهم العرب وغيرهم، والمملكة وغيرها لغزو فكري عظيم تداعت به عليهم أمم الكفر من الشرق والغرب ومن أشد ذلك وأخطره: 1- الغزو النصراني الصليبي. 2- الغزو الصهيوني. 3- الغزو الشيوعي الإلحادي.
أما الغزو النصراني الصليبي فهو اليوم قائم على أشده ومنذ أن انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين الغازين لبلاد المسلمين بالقوة والسلاح أدرك النصارى أن حربهم هذه وإن حققت انتصارات فهي وقتية لا تدوم، ولذا فكروا في البديل الأنكى وتوصلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكرية وهو أن تقوم الأمم النصرانية فرادى وجماعات بالغزو الفكري لناشئة المسلمين؛ لأن الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض، فالمسلم الذي لم يلوث فكره لا يطيق أن يرى الكافر له الأمر والنهي في بلده، ولهذا يعمل بكل قوته على إخراجه وإبعاده ولو دفع في سبيل ذلك حياته وأغلى ثمن لديه، وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبية الغازية. أما المسلم الذي تعرض لذلك الغزو الخبيث فصار مريض الفكر عديم الإحساس فإنه لا يرى خطراً في وجود النصارى أو غيرهم في أرضه، بل قد يرى أن ذلك من علامات الخير ومما يعين على الرقي والحضارة، وقد استغنى النصارى بالغزو الفكري عن الغزو المادي لأنه أقوى وأثبت، وأي حاجة لهم في بعث الجيوش وإنفاق الأموال مع وجود من يقوم بما يريدون من أبناء الإسلام عن قصد أو عن غير قصد وبثمن أو بلا ثمن، ولذلك لا يلجأون إلى محاربة المسلمين علانية بالسلاح والقوة إلا في الحالات النادرة الضرورية التي تستدعي العجل كما حصل في غزوة أو غندة الباكستان، أو عندما تدعو الحاجة إليها لتثبيت المنطلقات وإقامة الركائز وإيجاد المؤسسات التي تقوم بالحرب الفكرية الضروس كما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها قبل الجلاء.
أما الغزو الصهيوني فهو كذلك لأن اليهود لا يألون جهداً في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم، ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها، ولهم مخططات أدركوا بعضها، ولا زالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى، وهم وإن حاربوا المسلمين بالقوة والسلاح واستولوا على بعض أرضهم فإنهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم، ولذلك ينشرون فيهم مباديء ومذاهب ونحلاً باطلة؛ كالماسونية والقاديانية والبهائية والتيجانية وغيرها، ويستعينون بالنصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم. أما الغزو الشيوعي الإلحادي فهو اليوم يسري في بلاد الإسلام سريان النار في الهشيم نتيجة للفراغ وضعف الإيمان في الأكثرية، وغلبة الجهل وقلة التربية الصحيحة والسليمة، فقد استطاعت الأحزاب الشيوعية في روسيا والصين وغيرهما أن تلقف كل حاقد وموتور من ضعفاء الإيمان أو معدومي الإيمان وتجعلهم ركائز في بلادهم ينشرون الإلحاد والفكر الشيوعي الخبيث وتعدهم وتمنيهم بأعلى المناصب والمراتب، فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها أحكمت أمرها فيهم وأدبت بعضهم ببعض وسفكت دماء من عارض أو توقف حتى أوجدت قطعاناً من بني الإنسان حرباً على أممهم وأهليهم وعذاباً على إخوانهم وبني قومهم، فمزقوا بهم أمة الإسلام وجعلوهم جنوداً للشيطان يعاونهم في ذلك النصارى واليهود بالتهيئة والتوطئة أحياناً، وبالمدد والعون أحياناً أخرى، ذلك أنهم وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم جميعاً يد واحدة على المسلمين يرون أن الإسلام هو عدوهم اللدود ولذا نراهم متعاونين متكاتفين بعضهم أولياء بعض ضد المسلمين فالله سبحانه المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
سـ3: ما هي الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره؟ جـ3: الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره كثيرة منها: 1- محاولة الاستيلاء على عقول أبناء المسلمين وترسيخ المفاهيم الغربية فيها لتعتقد أن الطريقة الفضلى هي طريقة الغرب في كل شيء، سواء فيما يعتقده من الأديان والنحل أو ما يتكلم به من اللغات أو ما يتحلى به من الأخلاق، أو ما هو عليه من عادات وطرائق. 2- رعايته لطائفة كبيرة من أبناء المسلمين في كل بلد وعنايته بهم وتربيتهم حتى إذا ما تشربوا الأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم أحاطهم بهالة عظيمة من المدح والثناء حتى يتسلموا المناصب والقيادات في بلدانهم، وبذلك يروجون الأفكار الغربية وينشئون المؤسسات التعليمية المسايرة للمنهج الغربي أو الخاضعة له. 3- تنشيطه لتعليم اللغات الغربية في البلدان الإسلامية وجعلها تزاحم لغة المسلمين وخاصة العربية لغة القرآن الكريم التي أنزل الله بها كتابه والتي يتعبد بها المسلمون ربهم في الصلاة والحج والأذكار وغيرها، ومن ذلك تشجيع الدعوات الهدامة التي تحارب اللغة العربية وتحاول إضعاف التمسك بها في ديار الإسلام في الدعوة إلى العامية وقيام الدراسات الكثيرة التي يراد بها تطوير النحو وإفساده وتمجيد ما يسمونه بالأدب الشعبي والتراث القومي. 4- إنشاء الجامعات الغربية والمدارس التبشيرية في بلاد المسلمين ودور الحضانة ورياض الأطفال والمستشفيات والمستوصفات وجعلها أوكاراً لأغراضه السيئة وتشجيع الدراسة فيها عند الطبقة العالية من أبناء المجتمع ومساعدتهم بعد ذلك على تسلم المراكز القيادية والوظائف الكبيرة حتى يكونوا عوناً لأساتذتهم في تحقيق مآربهم في بلاد المسلمين. 5- محاولة السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين ورسم سياستها، إما: بطريق مباشر كما حصل في بعض بلاد الإسلام حينما تولى [دنلوب] القسيس تلك المهمة فيها، أو بطريق غير مباشر عندما يؤدي المهمة نفسها تلاميذ ناجحون درسوا في مدارس دنلوب وتخرجوا فيها فأصبح معظمهم معول هدم في بلاده وسلاحاً فتاكاً من أسلحة العدو، يعمل جاهداً على توجيه التعليم توجيهاً علمانياً لا يرتكز على الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم وإنما يسير نحو الإلحاد ويدعو إلى الفساد. 6- قيام طوائف كبيرة من النصارى واليهود بدراسة الإسلام واللغة العربية وتأليف الكتب وتولي كراسي التدريس في الجامعات حتى أحدث هؤلاء فتنة فكرية كبيرة بين المثقفين من أبناء الإسلام بالشبه التي يلقونها لطلبتهم أو التي تمتلىء بها كتبهم وتروج في بلاد المسلمين، حتى أصبح بعض تلك الكتب مراجع يرجع إليها بعض الكاتبين والباحثين في الأمور الفكرية أو التاريخية. ولقد تخرج على يد هؤلاء المستشرقين من أبناء المسلمين رجال قاموا بنصيب كبير في أحداث الفتنة الكبرى، وساعدهم على ذلك ما يُحاطون به من الثناء والإعجاب، وما يتولونه من مناصب هامة في التعليم والتوجيه والقيادة، فأكملوا ما بدأه أساتذتهم وحققوا ما عجزوا عنه لكونهم من أبناء المسلمين ومن جلدتهم ينتسبون إليهم ويتكلمون بلسانهم، فالله المستعان. 7- انطلاق الأعداد الكثيرة من المبشرين الداعين إلى النصرانية بين المسلمين وقيامهم بعملهم ذلك على أسس مدروسة وبوسائل كبيرة عظيمة يجند لها مئات الآلاف من الرجال والنساء ، وتعد لهم أضخم الميزانيات، وتسهل لها السبل وتذلل لها العقبات: { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون } [الصف:8]. وإذا كان هذا الجهد منصباً على الطبقة العامية غالباً فإن جهود الاستشراق موجهة إلى المثقفين كما ذكرت آنفاً، وانهم يتحملون مشاق جساماً في ذلك العمل في بلاد إفريقيا وفي القرى النائية من أطراف البلدان الإسلامية في شرق آسيا وغيرها، ثم هم بعد كل حين يجتمعون في مؤتمرات يراجعون حسابهم وينظرون في خططهم، فيصححون ويعدلون ويبتكرون، فلقد اجتمعوا في القاهرة سنة 1906م، وفي ادنمبرج سنة 1910م، وفي لكنو سنة 1911م، وفي القدس كذلك في عام 1935م، ولا زالوا يوالون الاجتماعات والمؤتمرات، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله. 8- الدعوة إلى إفساد المجتمع المسلم وتزهيد المرأة في وظيفتها في الحياة وجعلها تتجاوز الحدود التي حد الله تبارك وتعالى لها وجعل سعادتها في الوقوف عندها وذلك حينما يلقون بين المسلمين الدعوات بأساليب شتى وطرق متعددة إلى أن تختلط النساء بالرجال، وإلى أن تشتغل النساء بأعمال الرجال، يقصدون من ذلك إفساد المجتمع المسلم والقضاء على الطهر والعفاف الذي يوجد فيه، وإقامة قضايا وهمية ودَعَاوى باطلة في أن المرأة في المجتمع المسلم قد ظلمت وان لها الحق كذا وكذا ويريدون إخراجها من بيتها وإيصالها إلى حيث يريدون، في حين أن حدود الله تعالى واضحة وأوامره صريحة وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جلية بينة، يقول الله سبحانه وتعالى: { يا أيها النَّبيُّ قُل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراًَ رحيماً } [الأحزاب: 59]. ويقول سبحانه وتعالى: { وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنَّ ولا يبدين زينتهنَّ إلا لبعولتهنَّ أو آبائهنَّ أو آباء بعولتهنَّ أو أبنائهنَّ أو أبناء بعولتهنَّ } [النور:31]، ويقول: { وإذا سالتموهنَّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنَّ } [الاحزاب:53]. ويقول: { وقرن في بيوتكنَّ ولا تبرَّجن تبرُّج الجاهليَّة الأولى } [الأحزاب:33]. ويقول صلى الله عليه وسلم: « إياكم والدخول على النساء » قال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: « الحمو الموت » . وقال: « لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما » . 9- إنشاء الكنائس و المعابد وتكثيرها في بلاد المسلمين، وصرف الأموال الكثيرة عليها وتزيينها وجعلها بارزة واضحة في أحسن الأماكن، وفي أكبر الميادين. 10- تخصيص إذاعات موجهة تدعو إلى النصرانية والشيوعية، وتشيد بأهدافها، وتضلل بأفكارها أبناء المسلمين السذج الذين لم يفهموا الإسلام، ولم تكن لهم تربية كافية علمية، وخاصة في أفريقيا حيث يصاحب هذا؛ الإكثار من طبع الأناجيل وتوزيعها، في الفنادق وغيرها، وإرسال النشرات التبشيرية والدعوات الباطلة إلى الكثير من أبناء المسلمين.
هذه بعض الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام اليوم من الشرق والغرب، في سبيل غزو أفكار المسلمين. وتنحية الأفكار السليمة الصالحة، لتحل محلها أفكار أخرى غربية، شرقية أو غربية، وهي كما ترى أيها القارىء جهود جبارة، وأموال طائلة، وجنود كثيرة، كل ذلك لإخراج المسلمين من الإسلام، وإن لم يدخلوا في النصرانية أو اليهودية أو الماركسية، إذ يعتقد القوم أن المهمة الرئيسية في ذلك هي إخراجهم من الإسلام، وإذا تم التوصل إلى هذه المرحلة فما بعدها سهل وميسور، ولكننا مع هذا نقول: إن الله تعالى سيخيب آمالهم ويبطل كيدهم، إذا صدق المسلمون في محاربتهم والحذر من مكائدهم، واستقاموا على دينهم؛ لقوله عزّ وجلّ: { وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرُّكم كيدهم شيئاً إنَّ الله بما يعملون محيطٌ } [آل عمران:120]؛ لأنهم مفسدون وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، قال الله تعالى: { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال:30]، وقال سبحانه: { إنَّهم يكيدون كيداً . وأكيد كيداً . فمهِّل الكافرين أمهلهم رُويداً } [الطارق:15-17]، وقال عزّ وجلّ: { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّت أقدامكم } [محمّد: 7]، وقال سبحانه: { ولينصرنَّ الله من ينصره إنَّ الله لقويٌ عزيز . الَّذين إن مَّكَّنَّاهم في الأرض أقاموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } [الحج:40- 41]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولا شك أن الأمر يحتاج من المسلمين إلى وقفة وتأمل، ودراسة في الطريق التي يجب أن يسلكوها، والموقف المناسب الذي يجب أن يقفوه وأن يكون لهم من الوعي والإدراك ما يجعلهم قادرين على فهم مخططات أعدائهم، وعاملين على إحباطها وإبطالها.
ولن يتم لهم ذلك إلا بالاستعصام بالله والتمسك بهديه والرجوع إليه والإنابة والاستعانة به، وتذكر هديه في كل شيء وخاصة في علاقة المؤمنين بالكافرين، وتفهم معنى سورة { قل يا أيها الكافرون } وما ذكره سبحانه في قوله: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتى تتَّبع مِلَّتهم } [البقرة: 120] وقوله: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا } [البقرة: 217].
أسأل الله سبحانه أن يهيىء لهذه الأمة من أمرها رشداً وأن يعيذها من مكائد أعدائها ويرزقها الاستقامة في القول والعمل حتى تكون كما أراد الله تعالى لها من العزة والقوة والكرامة، إنه خير مسئول وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.
دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442 هاتف: 4092000/ فاكس: 4033150 البريد الالكتروني: sales@dar-alqassem.com الموقع على الانترنت: www.dar-alqassem.com
|