مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الفترة التي عرفت في العالم العربي بالنهضة الفكرية والعلمية، وكان من أقطابها محمد علي والشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وصولاً إلى طه حسين عميد الأدب العربي نشبت مناقشات عديدة عن أهمية العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وعن دور كل منهما في تنمية المجتمع. ويقصد بالعلوم الإنسانية علوم الفلسفة والتاريخ والأدب واللغة، وأما العلوم الطبيعية فهي العلوم التي يرتكز عليها التقدم الصناعي والتقني اللذان يسهمان في ازدهار الحياة، مثل علوم الكيمياء والأحياء والطبيعة والطب..إلخ. بعد أن غابت شمس المعرفة عن عالمنا العربي لعدة قرون، وتراجع التطور العلمي والفكري كان من نتائجه أن المجتمعات الأخرى وخاصة الغربية قد قفزت قفزات كبيرة في التقدم العلمي مما كان له أثره الفعال على نمو مجتمعاتهم وازدهار حياتهم واسترجاع ما ضاع منهم، وفي المقابل فقد العرب والمسلمون أراضي عزيزة عليهم تحديداً بلاد الأندلس التي أضاءت أوروبا في عصور ظلماتها وكانت قد فتحت بواسطة أجدادنا الأولين الذين كانوا يؤمنون بقيمة العلوم الطبيعية ويأخذون بأسباب الحياة، وفضلاً عن ذلك أصبحنا عرضة للسلب والنهب من الآخرين، وليس أدل على ذلك من الحروب الصليبية التي استغلت ضعفنا، فقام أناس كثيرون غيورون في عالمنا العربي يطالبون بالصحوة العلمية والفكرية حتى نلحق بالآخرين. إلا أن الدعوة إلى النهضة وإلى التقدم العلمي للحاق بالتطور الصناعي الذي حدث في أوروبا، أثارت مخاوف الكثيرين في مجتمعاتنا العربية الشرقية حيث ظهر في مخيلتهم أحوال المجتمعات الغربية من تفريط في الشؤون الإنسانية والأخلاقية وبالأخص الأمور العقدية والدينية التي تهم مجتمعاتنا ولا نسمح بالتفريط في أي جزء منها. فلقد استقر في أذهان البعض أن التقدم في العلوم الطبيعية يأتي على حساب القيم الإنسانية، (فيرون أن الإنسان كلما تقدم علمياً وتقنياً ضاعت قيمه وأخلاقياته الحميدة، وأنه بقدر ما يحقق الإنسان من مكاسب علمية تعود عليه بالنفع والازدهار والراحة في حياته اليومية يكون قدر ما يخسر من قيمه الإنسانية والروحانية، فهم بذلك صنعوا تصادماً وتعارضاً بين التقدم في العلوم الطبيعية وتمسك الأمم بقيمها وأخلاقها ومعتقداتها الدينية )، كما ربطوا بين التقدم العلمي ومفسدة الأخلاقيات. ونحن نجد في هذا خلطاً في المفاهيم وتضليلاً للناس كما سوف يتضح لاحقاً. (هكذا كانت الشعوب الأوروبية تعتقد أيضاً أثناء مرحلة انتقالها من العصور الوسطى إلى عصور النهضة والتصنيع، فكانت هذه الشعوب ومؤسساتها الدينية تقف بالمرصاد لأي تقدم في العلوم الطبيعية، فلن ينسى التاريخ البشري الموقف العدائي المبالغ فيه من علماء تلك العصور، ونذكر على سبيل المثال ما حدث مع عالم الفلك البولندي نيكولا كوبرنيق صاحب نظرية حركة الكواكب حول نفسها ودورانها حول الشمس، فهو لم يجرؤ على كشف نظريته إلا قبل وفاته ببضع أيام! خوفاً من الكنيسة التي أدانت في عام 1616 برئاسة البابا بول الخامس نظريته واعتبرتها متعارضة مع الأناجيل، ومن بعده عالم الفيزياء والرياضيات والفلك الإيطالي جاليليو جاليليه الذي أدانته أيضاً محاكم التفتيش وكفرته الكنيسة لأنه أثبت صحة نظرية كوبرنيق بعد اختراعه لمنظاره الذي حمل اسمه واستطاع به أن يرى حركة كوكب الزهرة. ) وبالمثل فقد أشيع بين عامة الناس في مجتمعاتنا العربية مع بداية عصر النهضة مقولة إن العلوم الطبيعية تجعل الإنسان يهتم بالمنفعة وحدها دون سائر الجوانب الإنسانية الأخرى التي تسمو بالإنسان، ونحن للأسف حتى يومنا هذا نجد من يروج لهذه الأفكار التي كبلت طاقاتنا وأضاعت قدراتنا في أوهام وخرفات ليس لها أي وجود لا في ديننا الإسلامي الذي يدعو إلى التفكر والتدبر في كل شيء، ولا في تاريخنا العربي المجيد الذي أعطي المثل العليا وكان منارة للبشرية لقرون طويلة، فلن ينسى التاريخ البشري ما قدمه ابن سينا وجابر بن حيان وابن رشد والحسن ابن الهثيم. وابن خلدون وعبدالقاهر الجرجاني وسيبويه. وكثيرون غيرهم، كوكبة من العلماء في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية لقوا كل ترحيب وتبجيل في عصورهم وفي مجتمعاتهم، فلم يدنهم أحد ولم يكفرهم أحد كما حدث لنظرائهم في أوروبا أثناء العصور الوسطى، بل على العكس كانوا على ثقة بالعلاقة الوثيقة بين العلم والتقوى وعلى وعي كامل بقوله سبحانه وتعالى في كتابه المحكم { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (28) سورة فاطر . وفي هذا الشأن، نقول لأصحاب الهجمة المذعورة ضد العلوم الطبيعية بحجة أن التقدم في مجالاتها يأتي على حساب الدراسات الإنسانية، وأن في ذلك مفسدة لكياننا الإنساني ولقيمنا الروحية إن هذا حديث مغلوط، فإن الدين الإسلامي في جوهره لا يطلب من الإنسان إن يضحي بدنياه من أجل أخراه، فالإنسان مخلوق للدنيا وللآخرة معاً، فيجب عليه الاهتمام بالروح والجسد معاً، وليس هناك أدل على ذلك مما جاء في الأثر. " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً " . كما نقول لهم أيضاً: إن الثقافة الإسلامية تدعو للاجتهاد العلمي في الحياة الدنيا مثلما تدعو للاهتمام بالروحانيات في سبيل الحياة الآخرة. وتطالبنا أيضاً بالاهتمام بالجسد، على عكس ما كان سائداً في القرون الوسطى في الغرب عندما كانت الكنيسة تطالب الإنسان بأن يئد رغباته الجسدية وغرائزه الفطرية، فقد نزل القرآن الكريم في القرن السادس الميلادي يدعو إلى احترام تلك الرغبات الإنسانية وتقنينها بالزواج، وطالب بتقديسها حيث إنها نعمة من الله فأوصانا بأنه لا رهبانية في الإسلام. وأما عن العائدين من أوروبا بعد إتمام دراساتهم العليا في بلاد الغرب والذين رفعوا شعار العلم والنهضة، وهم من أطلق عليهم (الإصلاحيون ) على غرار ما أطلق على أمثالهم في أوروبا في القرن الثامن عشر بعد العصور الوسطى (التنويريون )، من أمثال فولتير وروسو ومونتسكيو، فلقد وقعوا في خطأين فادحين، أولاً عندما أرادوا نقل التجربة الأوروبية حرفياً إلى مجتمعاتنا، في قفزتها من عصور الظلام إلى عصور التنوير والتقدم العلمي التقني، وذلك عندما أرادوا تطبيق نظرية فلسفية ابتدعها الغربيون في محاولة لحماية روحانياتهم وعواطفهم.. تعود أصولها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ثم ظلت تتجدد من عصر إلى آخر، وكان آخر صيحاتها بعد الحرب العالمية الثانية حيث تبنتها كل المذاهب الفلسفية الحديثة كالوجودية والماركسية، وتستمد أصولها الفكرية من أفلاطون حيث وجد نصارى الغرب ضالتهم في أفكارهم وسميت بالمذهب الإنساني الذي يرفض التضيحية بعاطفة الإنسان على حساب العقل. فالعقل والروح ضرورتان: لا غنى عن كليهما لأي إنسان، وكان الأجدى بالإصلاحيين التأكيد على أن الثقافة الإسلامية في وسطيتها بين العقل والروح قد سبقت الفلسفات الغربية بقرون عديدة كما أوضحنا فيما سبق وأما الخطأ الثاني، فهو عندما نسي هؤلاء الإصلاحيون ماضي أمتهم المضيء الذي أضاء البشرية لقرون عديدة، فطرحوا نفس المشكلات ونفس الحلول التي سبقت النقلة النوعية في أوروبا لإنماء مجتمعاتهم فكان أول القضايا التي قابلت الغرب في العصور الوسطى، كما أسلفنا الذكر، هي خوفهم من التأثيرات السلبية التي يمكن أن تنتج عن التقدم في العلوم الطبيعية فطالبوا بالعودة إلى تراثهم اللاتيني واليوناني ليلتمسوا فيه صورة الإنسان المتكامل بروحانياته وعقله، وأراد بعض الإصلاحيين العرب تطبيق نفس المبدأ الغربي فأهملوا أو على أقل تقدير نسوا للمرة الثانية أن تكون مرجعيتهم الثقافة الإسلامية المليئة بالمزايا التي تفتقدها الكثير من المذاهب الفلسفية الحديثة ولم يعملوا على تنمية ثقافتنا العربية الإسلامية الأصيلة. فنجد أن طه حسين قد طالب في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " عام 1988 بضرورة تعليم اللغتين اللاتينية واليونانية في الجامعات بل وفي التعليم الثانوي، وذلك لتطبيق " النظرية الإنسانية " حيث إنه كان مؤمناً بضرورة الالتزام بها كما حدث في أوروبا، فهكذا قال في كتابه " وأنا مؤمن أشد الإيمان وأعمقه وأقواه، بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تفلح فيتدبير بعض مرافقها الثقافية الهامة، إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام قبل كل شيء " . وفي هذا الشأن أصاب العالم الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود عندما عارض هذا الرأي وطالب بما سبق أن ذكرته آنفاً، بأن الأولوية بالنسبة لنا نحن العرب هي الرجوع إلى مصادرنا الثقافية الإسلامية التي كان الغرب نفسه يستوحي منها وتأثر بها وكان لها الأثر الكبير في نهضته وليس هناك دليل أقوى من تأثر الغرب بفكر ابن رشد وأثره في تقدم الشعوب الغربية. فيقول الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه " ثقافتنا في مواجهة العصر " (الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997 ) " وأكرر القول بأن الاعتراض هذا ليس موجهاً إلى دراسة اليونانية واللاتينية من حيث هما، وباعتبارهما جزءاً من التراث الإنساني الذي لا بد من دراسته، بل هو موجه إلى أي اتجاه يريد أن يجعل منهما المنبع الأساسي الذي نستمد منه قيمنا الإنسانية. إذا ما أردنا أن ننشىء للإنسان العربي الحديث شخصية كاملة؛ إذ النبع الأساسي لهذا الإنسان العربي، هو المقابل العربي للتراث اليوناني اللاتيني بالنسبة لأوروبا، أعني أنه هو التراث العربي بما يحمله من قيم " . ص230. وعودة مرة أخرى إلى من يهاجمون العلوم الطبيعية لاعتقادهم أن فيها مضاراً كثيرة على حياتنا الروحية والعاطفية والأخلاقية، على اعتبار أن القيم تنشأ أساساً من " العلوم الإنسانية " كالتاريخ والفلسفة ودراسة اللغة والأدب، ولكننا نؤكد أنه لا تعارض على الإطلاق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية طالما أن كلتيهما تسخران في إسعاد الإنسان وفي معرفة الحقيقة، فلا صحة لمن يظن أن دراسة التاريخ والجغرافيا والفلسفة تقيم إنساناً متكاملاً معتقداً في القيم الإنسانية العليا، وأن دراسة البيولوجيا والكيمياء والطبيعة تدمر بناء الإنسان وتفقده المثل السامية، فالنوعان من العلوم وجهات لعملة واحدة فلا ازدهار في الحياة ولا ارتفاع في مستوى المعيشة دون تقدم في العلم وفي تطبيقاته، كما أنه لا موضع في الإسلام للاختيار أو للمفاضلة بين الروح والعقل، فكلاهما ضرورة لا غنى عنها لبناء إنسان متكامل وبالتالي مجتمع مزدهر يشكر الله على نعمه فيتحقق قول العلي القدير {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (11) سورة الضحى تلك صفة أصيلة في المؤمن الحق. ونختم مقالنا بتعريف الدكتور زكي نجيب محمود لدور علماء العلوم الطبيعية ولأمنيته لهم ولكل شخص حيث يقول: " وإننا ندخل في مبحث طويل، إذا طفقنا نعدد الجوانب الإنسانية التي يمكن لعلماء الطبيعة أن يحققوها، فضلاً عن أنهم يهيئون للإنسان بيئة أصلح لعيشه، فهم في كل جهد يبذلونه إنما يستهدفون قيمة من القيم الإنسانية العليا، ألا وهي قيمة " الحق " إذ يكشفون عن حقيقة العالم وأسراره، فالعلوم الإنسانية علوم، والعلوم الطبيعية علوم، هذه تدرس البيئة، وتلك تدرس موضع الإنسان من تلك الطبيعة مكاناً وزماناً، فهل نعيش لنرى يوماً يفيق فيه الإنسان إلى وحدته مع بيئته فتتدخل المجموعتان من العلوم في جهد بشري واحد، لا يكون فيه عالم الطبيعة جاهلاً بتاريخ الإنسانية وأهدافها، ولا يكون فيه دارس الإنسان جاهلاً بالبيئة الطبيعية التي يسكنها الإنسان؟
أ.د أكرم السيسي أستاذ بكلية اللغات والترجمة - جامعة الملك سعود - رسالة الجامعة
|