لئن كان باب الأسماء والأحكام من أهم أبواب الدين، فإن التلاعب والتضليل في هذا الباب من أحط المستنقعات الإبليسية التي يتمرغ فيها صرعى الهوى وعبدة العجل بلا ريب، فباب الأسماء يقوم على مثل قوله تعالى:" هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير"(التغابن 2)، في حين يقوم باب الأحكام على مثل قول المعصوم صلى الله عليه وسلم :" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تُخفروا الله في ذمته"(صحيح البخاري)، وإن ثبوت الأسماء وترتيب الأحكام عليها لا يكون إلا من جهة الشرع، نعم قد يكون تنزيل هذه الأسماء والأحكام مناط اجتهاد، كالنظر في مدى تلبس المبتدع ببدعته، وهل هو مبتدع داعٍ لبدعته أو مقلد جاهل لا يلزمه من التعزير والهجر ما يلزم الأول وهكذا، أما تأصيل هذه المسائل فليس إلا من قبل الشرع، فلا نخترع أسماءً نحاكم الناس إليها، ولا نعطل أسماءً أثبتها الشرع، كما لا نخترع أحكاماً نرتبها على الاسم المعين، ولا نعطل أحكاماً رتبها الشرع على الاسم المعين، وتأمل كيف أصلَّ القرآن الكريم هذه المنهجية :" قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمـَّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يَلِتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون. قل أتُعلِّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات والأرض والله بكل شيء عليم"( الحجرات 14-16)، فتحرير اسم المؤمن والمسلم مرده إلى الله تعالى، وعلمه من جهة الشرع مهما ادعى المدعي في دين الله، فمن باب أولى ألا يُنظر إلى اسم لم يثبته الشرع أصلاً، فتأمل.
فإذا عُلم ما تقدم، فاعلم أن ما تروج له الألسنة الحداد وتروج له الأبواق الإبليسية من تمييع أسماء الدين وتعطيل موجَباتها ليس إلا من جنس تعطيل الدين نفسه، ولما استشرى خطر هؤلاء والتبس على كثير من الناس حقيقة مرادهم، كان من الواجب التصدي لهذه المصائد وتحذير المسلمين منها، وفيما يلي بعض هذه الصور :
أولاً: تعطيل أسماء الدين وأحكامه: وذلك كحال من أراد أن يلغي مسمى الكفر والكافر ويعطل الأحكام المترتبة عليهما، ويميع اسم المؤمن والمسلم ويضيع حقوقهما، وهؤلاء يريدون أن يلغوا القرآن الكريم خابوا وخسروا، فلما أعيتهم الحيلة لم تَجُد عليهم شياطينهم بأخزى من أن ينفروا الناس من هذه الأسماء بحجة أن حكم الردة كبتٌ للحريات، واستعمال لفظ الكفر مثارٌ للنعرات والعصبيات، وتقديم المسلم تمييز طائفي تمنعه حقوق الإنسان، بل أخذ هؤلاء يروجون لباطلهم متكئين على مبادئ التسامح والرحمة والعدالة الإسلامية، ولكن أنى لذليل منبوذ أن يفهم حقيقة التسامح، وأنى لشقي يورد نفسه موارد الهلاك أن يكون رحيماً بالناس، وأنى لظالم نفسه أن يسعى للناس بالعدل ويحكم بينهم بالقسط؟!
ثانياً: تنزيل أسماء الدين وأحكامه على غير مناطها: وهذا من أسوأ التلبيس والتضليل بل والكذب على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولقد راجت هذه الحيلة الإبليسية ونعق في بوقها الناعقون وأنصت لنعيقها الجاهلون، فإذا بالذمي الذي كان في الأمس يُشد بيده شداً ليدفع الجزية صاغراً في مقابل أمان الدولة الإسلامية له والمسلمون يسحبونه إلى الجنة بالسلاسل لعله يؤمن فينفعه يؤمنه ، فإذا بالذمي في عرف هؤلاء اليوم هو ذلك المنصر الصليبي الذي يجوب جنبات المجتمع المسلم نافثاً سُمَّه وناصباً شراكه ليوقع فيه فرائس الجهل من أبناء الأمة فيهوي بهم إلى نار جهنم، وهو في كل هذا مستعلٍ بكفره مجرداً سلاحه ، يشتم نبنيا – حاشاه صلى الله عليه وسلم - فيقال حرية التعبير، ويعري بناتنا فيقال حرية اختيار ، ويستبيح الإعلان بالزنا والخنزير وشرب الخمر، ويرتد على يديه شبابنا فيقال دعوا الأمر إلى حكمة ولي الأمر، ، فإذا بك تقرأ قول الله تعالى :" حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"(التوبة 29) فتحسب أنك تقرأ عن دين غير ديننا، فإذا أنكر مسلم على الدولة منكراً استعار له هؤلاء رداء الخروج فألبسوه إياه زوراً وبهتاناً، وهكذا دواليك..
ثالثاً: اختراع أسماء مبتدعة ومحاكمة الناس إليها: وهذا المسلك ليس أقل خطراً من سابقه، فهذا الفريق يخترع أسماءً جديدة مبهمة تهدف إلى تفتيت الدين وتفريغه من حقائقه واحدةً تلو الأخرى، ويحاكمون الناس إليها موقعين بهم أسوا الأحكام ومرتبين على تلبسهم بها أقذع الألفاظ من وصمٍ بالإجرام والضلال والزيغ والانحراف، ولئن كان من هذه الأسماء في القديم الحشوية والناصبة فتأمل معي أمثال هذه الألفاظ اليوم : الجهاديون، الأصوليون، التكفيريون، وغيرها من المسميات التي لا هدف من وراء ترويجها والحكم على فئام الناس بها وإيقاع أشد النكال المعنوي والمادي بهم إلا تفتيت الدين وإقصاء الناس عن هذه المعاني التي لا تخلو حقيقة الدين منها، فإذا بالمسلم يرى النكال المنزل بالجهاديين فيتبرأ من الجهاد والمجاهدين، وإذا به يرى الصورة المنفرة للأصولية فيخلع من رداء الدين ما استطاع أن يخلع فراراً من أن يُحسب على هذه الفئة، حتى إذا جاء ذكر التكفيريين تبرأنا من كل تكفير وأصبح إيمان إبليس وفرعون وهامان وقارون كإيمان جبريل وميكائيل والنببيين والصديقين، فتباً لهم ما أقبح ما جاؤوا به...
وبعد، فإن المستنقع الذي يغرق فيه هؤلاء عميق ، والهوي فيه لا قرارة له، روى الحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:" إني لأعلم أهل دينين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار؛ قومٌ يقولون: إن كان أولنا ضُلالاً، ما بال خمس صلوات في اليوم والليلة، إنما هو صلاتان العصر والفجر ، وقومٌ يقولون: إنما الإيمان كلام وإن زنى وإن قتل" (قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، فليس غريباً أن يتكئ أمثال هؤلاء على قوله تعالى:"وأقم الصلاة طرفي النهار"(هود 114) فيشنوا الغارة على (الصلاتيين) الذين يصرون على التطرف والتشدد فيلتزمون بالصلوات الخمس، أو يجيء من يتكئ على قوله تعالى:" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم والله سميعٌ عليم" (التوبة 103)، فيشنوا الغارة على (الزكاتيين) الذين يصرون على هذه النظرة المتطرفة والتشدد الأصولي والنزعة التكفيرية تجاه من يجحد الزكاة، ورديف هؤلاء وهؤلاء قومٌ يأنسون إلى حديث :" ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً" (سنن ابن ماجة، وضعفه الألباني رحمه الله)، فيشنون الغارة على (الحدوديين) الذين يدعون إلى إقامة حدود الله بين عباد الله في أرض الله، وهكذا حال هؤلاء من حضيض إلى حضيض، يخترعون أسماءً يفتتون بها الدين ويفرقون بها شمل أهله ويقطعون بها أواصر رحمه، ولقد فضخ الله تعالى هؤلاء في كتابه فقال:" كما أنزلنا على المقتسمين. الذين جعلوا القرآن عِضين"( الحجر 90-91)، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ( الذين جعلوا القرآن عضين) قال:" هم أهل الكتاب جزؤوه أجزاءً، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه"(صحيح البخاري)، ولكن أين الفرار لهؤلاء، فلقد أقسم الباري جل وعلا :"فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون"(الحجر 92-93).
هذا بعض ما أردنا تحذير المسلمين منه من شأن هؤلاء المقتسمين، فليمضوا في غيِّهم يحذرون الناس من الجهاديين ومن الأصوليين ومن الصلاتيين ومن الزكاتيين ومن الحدوديين، ولئن كان الله سبحانه وتعالى قد كفانا أمثال هؤلاء :" إنا كفيناك المستهزئين"(الحجر 95)، فإنا ماضون بإذن الله على أمر الله تعالى:" فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين"(الحجر 94).
|