الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد: فإن تحية المسلمين التي اختارها لهم الله هي السلام، وأمرهم بها، وحثهم على إفشائها بينهم. فقد روى البخاري عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن السلام اسم من أسماء الله تعالى، وضعه في الأرض، فأفشوا السلام بينكم".
والسلام تحية الملائكة لآدم في الملأ الأعلى، وتحية ذريته من بعده؛ لما في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله آدم طوله ستون ذراعًا، فلما خلقه قال له: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله". والسلام تحية الله لأوليائه وأصفيائه؛ لما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : "هذه خديجة قد أتتك بطعام، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة". وعند البخاري أيضًا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعائشة: "هذا جبريل يقرأ عليك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته يرى ما لا أرى". والسلام من مفاتيح دخول الجنة؛ لما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِبَله وقيل: قد قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". والسلام تحية الملائكة للمؤمنين إذا استقروا في دار السلام كما في قوله تعالى: جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. والسلام باب عظيم من أبواب مضاعفة الحسنات؛ لما رواه الإمام أحمد عن عمران بن حصين أن رجلاً جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم يا رسول الله، فرد عليه السلام، ثم جلس، فقال عشر ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله، فرد عليه، ثم جلس فقال عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه السلام ثم جلس فقال: ثلاثون. والسلام أيضًا باب واسع من أبواب مغفرة الذنوب والخطايا؛ لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا". ومعلوم بداهة أن المصافحة تابعة للسلام عند التلاقي. والسلام يُخرج المسلم من دائرة الهجر والخصومة والقطيعة ويغلق دونه بابًا من أبواب الذنوب والفجور لما رواه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيُعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". وقد رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث هشام بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاث فإنهما ناكبان عن الحق ماداما على حرامهما، فأولهما فيئًا، سبْقُه بالفيء كفارة، فإن سلم ولم يرد عليه سلامه ردت عليه الملائكة، ورد على الآخر الشيطان، فإن ماتا على صرامهما لم يجتمعا في الجنة أبدًا". {الصحيحة 3-1246}. والسلام تحية المسلمين فيما بينهم وشعار المحبة المرفوع فيهم؛ لقوله تعالى: فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون. ولما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". لذلك فالسلام شعار المحبة بين المسلمين لا يبدءون به غيرهم؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه". وفي رواية أخرى: "إذا مررتم باليهود، فلا تسلموا عليهم وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم". والسلام إذا قَلَّ بين المسلمين دَلَّ على ذهاب المحبة واقتراب الساعة لما رواه أحمد عن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن بين يدي الساعة: تسليم الخاصة، وفُشُو التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق وظهور القلم". وفي رواية عن الأسود بن يزيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة". وفي رواية: أن يسلم الرجل على الرجل لا يسلم عليه إلا للمعرفة.
إفشاء السلام بين المسلمين
روى ابن عساكر عن أنس قال: كان صلى الله عليه وسلم يمرُّ بالغلمان فيسلم عليهم ويدعو لهم بالبركة. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يسلم على النساء- أي يلقي عليهن السلام- كما أورد البخاري عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في جوار أتراب لي فسلم علينا وقال: "إياكن وكفر المنعمين". {الأدب المفرد 1048}. والحديث في صحيح البخاري أن الصحابة كانوا ينصرفون من الجمعة فيمرون على عجوز في طريقهم فيسلمون عليها فتقدم لهم طعامًا من أصول السلق والشعير. والسلام على النساء لا يعني مصافحتهن؛ لما رواه مالك عن أميمة بنت رفيقة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأةٍ واحدة". وقال ابن القيم في زاد المعاد: والصواب في السلام على النساء يسلم على العجوز وذوات المحارم دون غيرهن. ولحرص الصحابة الكرام على إفشاء السلام كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، ولم ينكر عليهم ذلك، وكان يرد عليهم إشارة، لحديث عبد الله بن عمر قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا وبسط كفه وبسط جعفر بن عوف- أحد رواة الحديث- كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة. وقال أيضًا: قال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون فإذا استقبلتهم شجرة أو أكمة تفرقوا يمينًا وشمالاً وإذا التقوا من ورائها سلم بعضهم على بعض، وقال: ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ثم يجيءُ فيسلم على القوم فتكون تحية المسجد قبل تحية أهله.
من آداب السلام
والسلام وضع له النبي صلى الله عليه وسلم آدابًا؛ منها ما أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن شبل قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليُسَلِّم الراكبُ على الرَّاجل، وليُسَلِّم الرَّاجل على القاعد، وليُسَلِّم الأقلُ على الأكثر، فمن أجاب السلام فهو له، ومن لم يجب فلا شيء له". والسلام لابد منه قبل السؤال وقبل الدخول، وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم لا يأذن لمن لا يبدأ بالسلام؛ لما رواه أبو نعيم عن جابر مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام". ولقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون {النور}. وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله بالليل يُسلم تسليمًا لا يوقظ النائم ويُسْمِعُ اليقظان، وكان يُسْمعُ المُسَلِّم ردَّهُ عليه ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا إصبعه إلا في الصلاة فإنه كان يرد على من سلم عليه بالإشارة، وكان من هديه ترك السلام ابتداء أو ردًا على من أحدث حدثًا حتى يتوب كما هجر كعب بن مالك وصاحبيه وكان كعب يسلم عليه ولا يدري هل حرك شفتيه بِرَدِّ السلام عليه أم لا. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
|