في شهر ديسمبر عام 1877م تم الإعلان عن اختراع جهاز عجيب يمكنه تسجيل الأصوات وإعادة بثها مرات أخرى؛ وهو ما أطلق عليه جهاز الفونوغراف، ثم ما لبثت الجهود تتوالى، والعلماء يفكرون ويبتكرون، حتى تم الوصول إلى اختراع شريط الكاسيت الذي بين أيدينا الآن، وقد اعتبر في وقتها حدثًا هائلا وإنجازًا عظيمًا، خفف من الانبهار به انتشاره السريع والقوي في شتى أنحاء العالم، واعتباره الوسيلة الأسرع والأسهل والأقل تكلفة لتناقل الأفكار والمعلومات وانتشارها.
مميزات يفتقدها غيره
ولقد اكتسب شريط الكاسيت هذا التميز؛ لتمتعه بالآتي دون بقية وسائل الاتصال:
- تخطيه لعائق الأمية التي ترتفع نسبتها في كثير من البقاع، وخاصة في بلادنا العربية؛ حيث تبلغ –حسب إحصاءات اليونسكو– حوالي 40% من نسبة السكان، وهو بذلك قدم خدمة جليلة لهؤلاء الذين لا يستطيعون التعامل مع وسائل الاتصال المقروءة، وقدم لهم الكثير من المعلومات التي يحتاجونها في شتى أنواع المعرفة.
- كما أن الشريط يتيح للمتحدث أن يتخفف من قيود اللغة الفصحى، ويمكنه من استخدام اللهجات المحلية والمفردات القريبة من فهم الناس، غير متقيد بقواعد النحو والصرف، وإن كنا لا نشجع على التمادي في ذلك، ولكن ما المانع من استخدام اللغة الفصحى السهلة وعدم الإغراق في التراكيب اللغوية الصعبة التي يصعب فهمها على كثير من المستمعين؟
- سهولة تداوله واستخدامه؛ حيث لا يحتاج غالبًا إلى طقوس معينة، أو تجهيزات معقدة، أو توافر جو خاص؛ فيمكنك الاستماع إليه في أي وقت، وفي أي مكان تريد؛ في البيت، أو في السيارة، وأنت سائر، وأنت جالس، كما أن خفة وزنه وصغر حجمه يمكنان المستخدم من حمله بسهولة إلى أي مكان، دون أن يتكبد أي مشقة.
- إمكانية إعادة الاستماع إليه مرات عديدة، وإمكانية استرجاع المعلومات للتأكد منها وفهمها.
- سهولة إنتاجه وطباعته ونسخه بأعداد كبيرة في وقت وبتكلفة وجهد قليلين.
- يُحدث نوعًا من التواصل الشعوري والنفسي بين المتحدث والمستمع؛ حيث تنتقل إلى المستمع الحالة النفسية والشعورية للمتحدث، وهو ما لا تستطيع الوسائل المقروءة فعله غالبًا إلا بجهد جهيد.
فشريط الكاسيت يستطيع أن يشعل عاطفة المستمع، ويلهب حماسه، ويثير شجونه، ونلحظ تطبيقات ذلك عمليًّا في حياتنا؛ إذ نجد أن أكثر التائبين عند سؤالهم عن سبب توبتهم يخبرك أنه استمع لشريط للشيخ فلان، أو لشريط يتحدث عن موضوع كذا؛ فأثَّر فيه، ودفعه للتغيير.
كما نجد أيضًا من تطبيقات ذلك أن الشريط كان له دور رهيب في تعبئة الشعب الإيراني والتمهيد للثورة الإسلامية ضد نظام الشاه؛ حيث كان الخميني يرسل خطبه وأحاديثه الملهبة للمشاعر لأبناء شعبه، تلك الخطب التي مهدت لأتباعه الطريق للقيام بثورتهم.
- لا نستطيع الاستغناء عنه والاكتفاء بغيره في تعليم العلوم التي تحتاج إلى تلقين شفهي؛ كتجويد القرآن، وتعليم اللغات، وهو بهذا يقوم بما لا تستطيع الوسائل المقروءة عمله وحدها.
- يلعب الشريط دورًا كبيرًا في تسهيل اللقاء بالعلماء والدعاة المقيمين في أقطار مختلفة، والذين قد يستحيل التواصل المباشر معهم، وهذا يساعد كثيرًا في نشر الدعوة، كما يفيد طلاب العلوم المختلفة؛ إذ يتيح لهم فرصة التعلم عن بُعد والتتلمذ على العلماء الذين يريدون التعلم منهم.
- تطورت تقنية إنتاج شرائط الكاسيت كثيرًا، وكذلك الإبداع في أشكال إخراجها، من مؤثرات وأشكال وألوان.
حتى يستمر النجاح
ولا أحد الآن يجادل في النجاحات التي حققها شريط الكاسيت في مجال الدعوة ونشرها، وبث نور الإسلام، وهداية الكثيرين لطريق الحق والخير؛ فهو وسيلة –لا شك– فعالة وناجعة ومفيدة.
ولكي يستمر الشريط الإسلامي في تحقيق هذه النجاحات، والوصول إلى أهدافه المرجوة أرى أن على منتجيه مراعاة الآتي:
- الإخلاص لله عز وجل، وابتغاء القربى إليه، ورضاه سبحانه وتعالى، وعدم اعتبار الجانب التجاري المادي وحده، بل يجب أن يتذكر المنتجون دائمًا أنهم على ثغر من ثغور الإسلام، وأنهم جنود لدعوة الله، وليسوا مجرد تجار يبيعون سلعة من السلع.
- ابتغاء الحرفية في الإنتاج، ومراعاة معايير الجودة المتمثلة في:
الحرص على انتقاء شرائط مصنَّعة من خامات جيدة، لا تتلف سريعًا أو بسهولة، وكذلك الأمر مع حافظة الشريط.
الحرص على جودة الصوت ووضوحه باستخدام التقنيات التي تقوم بذلك.
تحسين الشكل الخارجي للشريط بعمل غلاف جميل معبِّر عن موضوع الشريط، يتميز بألوان مناسبة، وذوق عال.
كل هذا ليصبح الشريط: "متينًا جميلا واضحًا مفيدًا"، ولا يخجل الداعي منه إذا قدمه كهدية لأحد الأشخاص.
- من المهم جدًّا والضروري أن تتم مراجعة المادة العلمية من قِبَل العالم المتحدث، ثم من قبل علماء آخرين متخصصين، والتدخل بتصحيح الخطأ العلمي -إن وجد- بعد الرجوع إلى المتحدث؛ فكثيرًا ما يخون المتحدثَ لسانُه أو ذاكرتُه أو أسلوبه وهو يتحدث، ويذكر معلومات غير صحيحة، أو يذكر عبارات غير لائقة، ويتم طبع الشريط ونشره دون مراجعة أو تصحيح؛ فينتشر الخطأ في الآفاق، ويتحمل المنتج مسئولية ذلك أمام الله عز وجل.
وأذكر أنه في إحدى ليالي رمضان، وأثناء صلاة التراويح التي كان يؤم الناس فيها واحد من أشهر القراء كان البعض يقومون بتسجيل القراءة، وحدث أن أخطأ القارئ في التلاوة، فنسي آية، ولحن في أخرى، ولم يفطن أحد لهذا الخطأ، وقام البعض بنسخ الشريط وطبعه بكميات كبيرة وتوزيعه بالخطأ الذي فيه، وهو خطأ لا يجوز التجاوز عنه أبدًا!!
لذا من المهم جدًّا القيام بهذه المراجعات والتصحيحات؛ لأنها أمانة في أعناق المنتجين، سيُسألون عنها أمام الله عز وجل.
- كذلك ينبغي ألا تكون مهمة المنتجين رصد وتسجيل المحاضرات والخطب رصدًا سلبيًّا، ولكن من الأفضل أن يقوموا بإرشاد العلماء والدعاة للموضوعات التي يحتاجها الناس، والمشكلات التي يعاني منها المجتمع، والقضايا التي تلح عليه، وأهمية تناولها والتعرض لها، بما يشبه منهجية نافعة ومفيدة.
فيجب ألا يقتصر أبدًا دور الشريط الإسلامي على تناول مسائل العبادات المحضة والعلم الشرعي، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى الموضوعات المختلفة؛ ليقدم العلاج الإسلامي لمشكلات المجتمع الخلقية والاقتصادية والنفسية والسياسية.
- التخلي عن المبالغات الإخراجية، والتكلف الممجوج في المؤثرات الصوتية المصاحبة للتسجيلات، كالصراخ المفزع، والأصوات التي تخلع القلب وتزعج الأذن، والتي نسمعها في بعض الإصدارات؛ بدعوى التخويف والتأثير؛ فقد تكون ذات أثر عكسي على السامع، ينفره من المادة المقدمة.
- من المهم جدًّا ذكر تاريخ المحاضرة أو الخطبة، ومكانها، والمناسبة التي ألقيت فيها إن وجدت، وذكر ما إذا كان هذا الشريط موجهًا لفئة معينة من الناس يخاطبها دون غيرها، كل هذا حتى لا يقع الخلط والتشويش عند السامعين، وكذلك لتجنب تعميم الأحكام والمواقف التي اتخذها هذا الشريط في مواقف أخرى، تختلف كليًّا أو جزئيا عن الموقف أو المكان أو المناسبة التي خضع هذا الشريط لتأثيرها.
أفكار لزيادة التوزيع
وفي النهاية نورد بعض الأفكار التي من الممكن أن تزيد من توزيع الشريط حال تنفيذها، يمكن أن يستفيد منها المنتجون والدعاة الذين يستخدمون الشريط كوسيلة دعوية، على السواء، منها:
- عدم إهمال الإعلان عن الشرائط، خاصةً المنتج حديثًا منها لتعريف الناس بها؛ فليس الشريط الإسلامي بأهون من شرائط العبث والمجون التي تشجع على الميوعة والانحلال وتشيع الفاحشة بين أبناء الأمة.
ويمكن الإعلان بوسائل مختلفة، وليس شرطًا أن يكون الإعلان في وسائل الإعلام المكلِّفة -ولكن إن أمكن هذا فلا بأس، ويمكن التغلب على ذلك بالإعلان عن أكثر من شريط في إعلان واحد- فيمكن الإعلان من خلال الشرائط نفسها، فلا مانع أن يحتوي آخر كل شريط بعد انتهاء موضوعه على دقيقة أو دقيقتين للإعلان عن إصدارات أخرى، أو استخدام باطن الغلاف لهذا الغرض، أو يتم تعليق ملصقات، أو توزيع أوراق.
كما يمكن الاتفاق مع أصحاب المكتبات ودور النشر على أن تضمِّن إصداراتها إعلانات عن هذه الشرائط.
- التعاون مع المراكز والجمعيات والمؤسسات المقامة في الأحياء، والتنسيق مع أئمة المساجد والدعاة للترويج لهذه الأشرطة.
- عمل مسابقات توزع مع الأشرطة، تتضمن أسئلة أجابت عنها المحاضرة؛ مما يشجع على الاستماع الجيد والاستفادة القصوى من الشريط، وبالطبع تُرصَد جوائز مناسبة للفائزين، ويا حبذا لو تتضمن هذه الجوائز أشرطة أخرى.
|