د . علي بن عمر بادحدح مفكر إسلامي وأكاديمي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة والمشرف العام على موقع إسلاميات الحديث عن الحوار الوطني في المملكة العربية السعودية أصبح قضية إعلامية تتناولها الصحافة والإذاعة ومحطات التلفزيون، بل صار قضية اجتماعية تتداولها الديوانيات واللقاءات الاجتماعية، ويدور حولها الجدل في ساحات المواقع الإلكترونية، وهذا كله لم يكن - قبل مدة يسيرة - شيئاً مذكوراً، وهذه مشاركة تتناول القضية في منطلقاتها الأولية، وممارساتها العملية، وآفاقها المستقبلية، والأكثر أهمية تتناول إلى ذلك رؤية ومواقف التيار إسلامي من الحوار الوطني .
أولاً: بداية انطلاق مسيرة الحوار لم يكن في المملكة تداول نظري ولا واقع عملي للحوار، ومع التغيرات العالمية والإقليمية بعد أحداث سبتمبر طرأت على الساحة السياسية والإعلامية قضايا ومفردات لم تكن متداولة، حيث طرحت قضايا المجتمع المدني ومؤسساته، والإصلاح السياسي وأطروحاته، والانفتاح الإعلامي وتداعياته، ومحاربة الإرهاب ومتطلباته، وكانت قضية الحوار إحدى آثار تلك المستجدات .
بدأت قضية الحوار بعد الإعلان عنه في شهر ربيع الثاني 1424هـ بعد أن رفعت مطالب عديدة إلى المسؤولين، ونشرت في شبكة الانترنت، وفي بعض وسائل الإعلام، وكانت أولها الورقة التي تقدم بها مجموعة من الإسلاميين والعلمانيين وتضمنت بعض المطالب الإصلاحية ، فلما نشرت عبر الانترنت حدد لهم موعدا للقاء بصاحب السمو الملكي ولي العهد ،وحصل ذلك بالفعل، ووعدهم بالاهتمام والمتابعة، وكان هذا في شعبان 1423هـ ثم أعقبتها بعد عدة أشهر ورقة تقدم بها جملة من الليبراليين المعروفين في البلد، وهي متضمنة لعدد من المطالب الإصلاحية ، ووقّع عليها عدد منهم، وجاءت بعد ذلك ورقة المطالب الشيعية التي وقع عليها قرابة 400 منهم يطالبون فيها بمطالب قوية وجزئية خاصة بهم ، كل هذا مع غيره أسهم في أن يتبلور تفاعل الدولة في تشكيل هيئة لرئاسة الحوار وتتبنى إقامته، وكانت الشخصيات المختارة ذات سمعة طيبة، ومكانة مرموقة وذات صبغة إسلامية معروفة، وهي التي كانت الداعي و الراعي الرسمي للحوار، وكان اللقاء الأول مقتصراً على مجموعة من الطيف الإسلامي، ومعهم من يصنفون على التيار الإسلامي الحكومي وثلاثة من الشيعة واثنان من الإسماعيلية، واثنان من أهل الحجاز، والأسماء المختارة والموضوعات كانت من قبل اللجنة ومن وراءها ولم يكن للمتحاورين علم مسبق بها، وتميز اللقاء الأول بمجموعة نقاط : 1- الصراحة والحرية في طرح الآراء . 2- سعة دائرة القضايا و الموضوعات المطروحة ؛ حيث اشتملت على قضايا سياسية واجتماعية ودينية . 3- قوة طرح التيار الإسلامي المعتدل وغلبة أطروحاته .
ثم عقد اللقاء الثاني بمكة المكرمة، وفيه مجموعة أكبر من الأولى منهم عشر نسوة . وقد تميز هذا اللقاء بدعوة كل ألوان الطيف الفكري والمذهبي، في تداخل واختلاط عجيب، وكانت الموضوعات في هذه المرة محددة سلفاً أيضاً ولكنه أُعلن عنها ،واستكتب فيها عدد من الباحثين، حيث كان للقاء عنوان رئيس ومحور أساسي هو [ الغلو و التطرف ] وكان قد صدر بين اللقاءين قرار بتسمية مركز للحوار الوطني وتعيين أمين عام له،ولم يكن اللقاء الثاني بمستوى الأول؛ لأن الأول لم يدع إليه أحد من العلمانيين، أما الثاني فقد دعي إليه جملة من رموزهم، وكان أداء المشاركين جميعا بمن فيهم الشيعة في هذا اللقاء أٌقل بالقياس إلى الأداء في اللقاء الأول؛ بسبب تنوع توجهات المشاركين وكثرتهم، ومن الجدير بالذكر أن حضور الإسلاميين المشاركين في جملته كان قوياً ،ومشاركتهم وتصديهم للأطروحات المختلفة كان واضحاً، ودورهم في التوصيات بارزاً، وإن كان الإعلام قد عمل على مساندة التوجهات الأخرى والعلمانية بالذات، وأظهر الصورة على غير حقيقتها ،هذا وقد خرج اللقاء بجملة من التوصيات ، ومنها عقد لقاء عن المرآة ،وهو ما تبناه اللقاء الثالث المزمع عقده في المدينة.
ومن الجدير بالذكر أن هناك وجهات نظر متباينة لدى المسئولين في السلطة العليا حول القبول بمبدأ الحوار ومخرجاته وآليته في صورة اللقاءات الموسعة المتميزة بصراحة النقاش وقوته غير المعهودة، والمتمثلة أيضاً في التوصيات الصادرة عنه، فهناك من يبدي اعتراضه وتشدده، ويحاول أن يروج لقناعته بين بعض الشخصيات والاتجاهات الإسلامية والمشايخ الرسميين، وهناك في المقابل الاتجاه الداعم للحوار والذي هيأ له الأسباب وأصبغ عليه السمات الرسمية.
ثانياً : الإسلاميون والحوار الحوار والمشاركة فيه لا يمثل اكتشافاً جديداً، ولا يضيف لعلوم المسلمين ما ليس لهم به عهد فإن هذا الأمر ثابت مقرر في أدلة الشرع، وقضاياه المتنوعة، بل هو المبدأ الذي قامت عليه دعوات الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه ومن سار على نهجهم، ومن أمثلة ذلك : 1- الحوار بين الله وملائكته في شأن خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له . 2- الحوار بين الأنبياء وأقوامهم،كحوار نوح وهود وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهو حوار دقيق هادف يتضح منه الحرص على بيان الحق لهم؛ ليهتدوا إلى الصراط المستقيم. 3- قوله تعالى :{ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل:125 ] ، وقوله : {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت: 46]. 4- محاورة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود ولنصارى نجران وغير ذلك . 5- وقد عقد العلماء والأئمة عبر مسيرة التاريخ محاورات ومناظرات عديدة مع أهل الكتاب والملاحدة والمبتدعة؛ لإقامة الحجة عليهم وهو أمر مشهور.
الإسلاميون في جملتهم يدعمون قضية الحوار من حيث المبدأ، باعتبار أنها تمثل مطلبًا طالما سعوا إليه وحرصوا عليه، وهذه فرصة أتيحت لهم فيجب أن يستثمروها ، ولكن هناك رأي مخالف لبعض شيوخ الصحوة وبعض العلماء الرسميين، الذين قاطعوا الحوار ولم يشاركوا فيه رغم توجيه الدعوات إلى بعضهم، ويمكن عرض وجهة النظر المعارضة للمشاركة في الحوار في النقاط التالية :
1- أن هذا الحوار سيستعمل لتمرير الخطط والمطالب الأمريكية المخالفة للصيغة الإسلامية للبلد،وستكون له الصبغة الإسلامية ظاهرا باستغلال أسماء الإسلاميين المشاركين فيه . 2- ترسيم المخالفات الشرعية والفساد الخلقي تحت مظلة الانفتاح والقبول بالرأي الآخر باسم الحوار. 3- إعطاء الشيعة والصوفية والعلمانيين مساحة أكبر، ووزناً أكبر، واعترافًا أشمل لا يمثل واقعهم من جهة، ولا يتناسب مع متطلبات الحفاظ على الصبغة السنية السلفية . 4- استخدام الحوار لإضعاف التدين والتقليل من شأنه 5- التقليل من مكانة أهل العلم و الدعوة ومرجعيتهم في الموضوعات و القضايا الشرعية، وفتح الباب لتناول مسائل وقضايا ذات صبغة تخصصية شرعية من قبل غير المتخصصين. 6- التمثيل للاتجاهات سبب لبروز الطائفية و المذهبية واعتبارها أساساً للمجتمع وتكريس هذه الطائفية بما يزيد الشقة و الخلاف.
ولا شك أن مبدأ الحوار ليس موضع رفض من هؤلاء وإنما المشاركة فيه بهذه الصيغة الموجودة هي موضع الاعتراض .
وأما وجهة نظر المؤيدين للمشاركة فتتلخص في : 1- الدفاع عن المكتسبات الإسلامية والسمات الدينية للبلد. 2- مزاحمة العلمانيين والطائفيين وعدم ترك ساحة الحوار لهم وحدهم . 3- بيان زيف الأطروحات والمشروعات المنحرفة والوقوف في وجهها . 4- إبراز رموز سياسة وإعلامية إسلامية من خلال المشاركة في الحوار. 5- إبراز عناية الدعاة بمصلحة العباد والبلاد من خلال المشاركة في الحوار. 6- كسب الدربة في مجال العمل السياسي والصراع الفكري الميداني ومجال العلاقات العامة . 7- استثمار النقاط المشتركة مع الآخرين للإفادة منها وتجسير الفجوة مع الاتجاهات الأخرى . 8- معرفة خطط وتوجهات غير الإسلاميين وصلاتهم الفكرية و العملية الخارجية لمواجهتها بما يناسب. 9- تفعيل المشاركة من قبل مختلف الفئات والقوى الفاعلة من خلال قناة توصل آراءهم ومعاناتهم للدولة. 10- الحوار عن متطلبات المرحلة وعن أصداء العولمة وهو صدى لبعض الضغوط الخارجية على المملكة ومن هنا يلزم التفاعل معه كمقتضى من مقتضيات الواقع ومستجداته.
وبالنظر إلى أدلة الفريقين، وما سلف ذكره قبل ذلك، يتضح رجحان المشاركة في الحوار، آخذين بعين الاعتبار أنه لا توجد مصلحة محضة في مثل هذه الأعمال، فلا بد من التسليم من وجود بعض الخسائر ولكن المعتبر في النظر المصلحة الأغلب المتوقع حصولها بإذن الله .
ثالثاً :ضوابط المشاركة في ملتقيات الحوار ويمكن القول أن الاتجاه المؤيد للمشاركة لا ينظر للمشاركة في الحوار على أنها مسألة مرادة لذاتها بل لما يرجى منها من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، ومن جهة أخرى فإن تأييد المشاركة لا يعني مطلق الإقرار و الموافقة على الترشيحات والآليات و التمثيل وغير ذلك من الواقع الذي عليه الحوار، ومن هنا فإن تيار التأييد لديه تحفظات على واقع الحوار وعنده تطلعات نحو صورته المطلوبة؛ ومن ثم فإن هناك ضوابط ومعالم للمشاركة في الحوار يمكن تلخيصها فيما يأتي :
1- الالتزام بالثوابت والقطعيات الشرعية وعدم التنازل عنها تحت مظلة الحوار وقبول الرأي الآخر. 2- الالتزام بأدب الحوار والحرص على التميز في الخطاب و القوة في الأداء و الجزالة في الطرح. 3- الإقرار بمبدأ الأخذ بالرخص والتيسير بضوابطه الشرعية، فيما يحقق المصلحة العامة ويدفع المفاسد الكبرى. 4- الاهتمام بالشأن العام وتغليب المصلحة العامة ،وربط الحوار بذلك بعيداً عن الفئوية والجزئية. 5- إن الحوار تجربة جديدة في البلد وهي مازالت تحت التقويم والمراجعة وهي إحدى وسائل المشاركة والتأثير وليست الخيار الوحيد.
رابعاً: آليات المشاركة الفعالة الإسلاميون والدعاة يشعرون بأهمية أن تكون مشاركتهم أكثر جدوى وأعظم أثراً ولذا فإن هناك آليات وأفكار متداولة لتحقيق الأفضل والأمثل من الحوار، ومنها: 1- دراسة موضوع الحوار بشكل واسع وتحديد أهداف ومطالب واضحة للمشاركين فيه. 2- العمل على إشراك الإسلاميين الأقوياء فكرًا وشخصية وتجربة وشعبية. 3- التشاور مع الإسلاميين المرشحين للمشاركة الفاعلة وتقوية الطرح الإسلامي من خلال التعاون و التكافل. 4- العمل على معرفة المرشحين المشاركين من غير الإسلاميين،وخلفياتهم وتعريف الإسلاميين بذلك للاستفادة من ذلك في الحوار . 5- توثيق العلاقة مع المسؤولين عن الحوار، والعمل على التأثير عليهم في ترشيح المشاركين واختيار الموضوعات. 6- الاستعداد و التنسيق الإعلامي المبكر قبل وأثناء وبعد الحوار، بما يكفل إبراز الوجهة الإسلامية ومحاسنها،ويدافع عنها. 7- التعريف بالأطروحات العلمانية وما في حكمها وما تشتمل عليه مما قد يتعارض مع الإسلام ومنهجه، وذلك بما لا يخرج عن حدود اللياقة والأدب الإسلامي. 8- إظهار سماحة الإسلام ووسطيته، والدعوة إلى تبني هذا المنهج والإشادة بمن ينتمي إليه. 9- الاستفادة من العلاقة مع المشاركين في دائرة المصلحة العامة ما أمكن في حدود المباح.
خامساً: الحوار و الدولة يكاد المراقب أن يجد وحدة واتفاقاً بين الإسلاميين مؤيدين ومتحفظين حول عدد من الإشكاليات حول موقف الدولة وتعاملها في قضية الحوار الوطني ومن أبرز هذه الإشكاليات: 1- الدولة لم تفصح عن حقيقة أهدافها من الحوار بشكل محدد وواضح، ومن هنا ثمة من يقول إن الحوار جاء لإسكات الخارج، وآخرون يقولون إنما هو لتنفيس احتقان الداخل ، وغير هؤلاء وهؤلاء يقولون إنه في إطار توازن القوى المؤثرة، وفئة تراه لانشغال المجتمع بالحوار عن قضايا أولى وأكثر أهمية. 2- ليس هناك - حتى الآن - أي وضوح حول توصيات الحوار الوطني من حيث العمل بها وآليته، ومدى إلزاميته، بل وحتى مرجعية هذه التوصيات في هيكلية الدولة، فلا هي راجعة إلى وزارة متكفلة بها، ولا إلى مجلس الوزراء. 3- الضبابية بل الجهالة التامة بأسس الترشيح للمشاركين واعتبارات الأعداد و النسب، واختيار الموضوعات ونحو ذلك من أساسيات الحوار إذ لاشيء من ذلك محدد ومعلن. 4- في ضوء ما سبق ليس هناك وضوح لمستقبل الحوار الوطني وصور استمراريتة، وحقيقة مستقبله.
وفي الختام فإن الاختلاف في الرؤى و المواقف تجاه الحوار لا يفسد للود قضية، و الجميع يدعو إلى تقدير وجهات النظر المختلفة والإقرار بحق الاختلاف بالاجتهادات المذكورة، بل و الدعوة قائمة بأن لا يثرب طرف على آخر فيما يذهب إليه بل الطرح تجاوز ذلك إلى استثمار هذا الاختلاف استثماراً إيجابياً.
|